محمد ولد أمين: حنكة السرد بين زمنين/ مازن معروف
محمد ولد أمين اسم مميّز في أنطولوجيا الرواية المعاصرة. هذا ما يخلص إليه المرء بعد قراءة عمله “منينة بلانشيه” (دار الساقي). الدبلوماسي الموريتاني والصحافي يفصح عن قدرة لافتة على إدارة السرد بين زمنين، يفصل بينهما أكثر من نصف قرن، وحفظ خصوصيته وأدواته وأصواته ضمن البيئة الصحراوية تارةً، والضجيج المديني الأوروبي تارةً أخرى.
هي سيرة منينة بلانشيه، فتاة قبيلة المناذير في صحراء موريتانيا، وابنة القبضاي مختار الأعيور الذي هزم مرةً أسداً صدَّ الناس عن جلب الماء في قفار موحشة. سيرة غير نمطية، تضجّ فيها الإشكاليات، بين حبس أبيها في قلعة للفرنسيين واقترانها بحاكم القلعة، وفقرها المدقع ثم تحوُّلها إلى الثراء الفاحش، وتمسّكها بأصولها الصحراوية وانغماسها في الشكل الأوروبي لحياتها الجديدة، وتخلّي والدتها عنها مقابل إحاطتها بشخصيات رفيعة ونافذة، وضغينة أبناء جلدتها تجاهها ككافرة مقابل رعاية شخصيات بدوية لها.
هذه السيرة الثابتة في العمل كما لو أنها حقيقة تاريخية، تستنطق سيرة أخرى، غير ناجزة كلياً، لراوي العمل، ابن منينة. سيرة تتنازعها أيضاً تناقضات حول حقيقة نسبه (موريتاني أم فرنسي)، والتباسات تربوية بين أبيه البيولوجي وجدته، وبين راعيه الأوروبي، ثم خياره غير الكلاسيكي في الاتصال بذاكرة والدته واستحضارها، مقابل ارتباطه بالطبيبة البلجيكية أندريه، وصولاً إلى نزاعه مع السلطات الموريتانية بسبب ملكيته لأرض القصر الجمهوري.
يتنقّل ولد أمين بين هذين المسارين، اللذين لكل منهما شروطه الزمنية وبعده الجغرافي وجذره الاجتماعي والسياسي والدرامي المنفصل. وهو انتقال تدريجي، حدثياً ولغوياً. فالروائي يحافظ على مسافة كافية بينهما، تضمن له عرضهما بدقة وإقفال الكادر حولهما، تمهيداً لجدلهما في خط زمني وعقدة درامية واحدة في نهاية المطاف. الأمر الذي يسير بالرواية كمن ينعطف فجأةً مجازفاً بحمولة كنزه.
هكذا تتحوّل الأحداث التاريخية الضخمة (احتلال النازيين لباريس، انتصار الحلفاء، استقلال موريتانيا، فساد السلطة) إلى تفاصيل مينيمالية، ضمن مصير “منينة” الشخصي. كمن يقف على الضفة الأخرى للتراجيديا. أحداث تصفّي نفسها فتخلّف تركتها إيجاباً في شخص واحد، وتلعب دور المؤثر العاطفي والدرامي في مصائر أشخاص محيطين.
في كل ذلك، يبقى محمد ولد أمين وفيّاً لشخصياته، ينظر إلى الأشياء من خلالها ويتنازل عن لحظته الراهنة كراوٍ أو كروائي ليقف عند لحظة الشخصية، ناظراً إلى المشهد بعينها البدائية، التي تتعرّف إلى أبسط الأمور وأعقدها في آن. يحكي بلغتها، ولا يتدخّل البتة فيها، ولا يملي عليها مخزونه اللغوي أو ثقافته. هي شخصيات يتم استدعاؤها بتنوّعها، لضخ حياة لا تهدأ في عروق الرواية وإغنائها، وبالتالي إعفاء اللغة من مزودات واستعراضات. إنه كاتب يجرّد نفسه، كرماً لشخصياته، وهو بذلك من الكتّاب القلائل في العربية الذين لا يتدخلون ذاتياً في الرواية ولا يسعون إلى عكس صورتهم في ثناياها.
وبقدر وفائه لميزات شخوصه واختلافاتها الإنسانية والنفسية، وأزماتها الصغيرة، يبقى ولد أمين وفياً لخصوصية المكان أيضاً وللروابط الثقافية والجغرافية التي تؤلّفه. فاللغة ملفوظة بفم الجغرافيا ومؤثّراتها، والاهتمام بضبط العبارة وتحديدِ وظيفتها واستقلاليتها، يشكّل الخليّة الأساس لنسج العمل.
هي رواية الانفصالات. يتّبع الراوي الصوم وسيلة للاتصال بذاكرة والدته والتنقيب فيها، دون إغراق في الهذيان أو التخييل العلمي. انفصالات مؤقتة، عن الجسد تارةً، والجغرافيا والعائلة والتقليد والنسب والأمكنة المختلفة تارةً أخرى. حتى يرسم رمزياً صورة لانفصال سياسي وحقوقي وصحافي لأجزاء جمهورية عربية عن بعضها بعضاً.