canlı casino siteleri casino siteleri 1xbet giriş casino sex hikayeleri oku
ثقافة وفن

تَقْدِيم دِيوَان الشَّيخ سَيِّدِى مُحَمَّد بْنِ الشَّيْخ سِيدِىَ الكبير / إبْراهِيم بْن يُوسُف

بِسْمِ الله الرَّحْمـَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــ

لا أدرى من أين تكون البَداءة، ولا بِمَ أستهلّ هذه التوطئة المتواضعة بين يدى ديوان الجدّ رحمه الله. فقد لبِثت دهرا وأنا أوْجَلُ من هذا التقديم، أقدّم رجلا وأؤخِّر أخرى، وأعِدُ المحقق الوعودَ تِلوَ الوعود، حتى سئم مخاطبتى، وأضرب عن مراجعتى، ولكنه ـــ لحسن ظنه بى ـــ لم يُخرجه ما يتراءى له من المَطل والليَّان، وما يُخيَّل إليه من التسويف، إلى حد القنوط والإياس من تحقّق مطلوبه، وحصول مرغوبه، يوما من الدهر.

وكان لى، إلى جانب وجَلِى من الديوان أن لا أوَفّيَه حقَه ـــ رغم صلتى القديمة به وشرحى قصائدَه الطوالَ وجملةً من فرائدِه الأخرى ـــ شواغلُ وصوارفُ عدَتْنِى عن النظر فيه من أوّل يوم، فضلا عن تزاحم أشغال وبحوث أخرى.

وكان من ذلك ما لا يطّلع عليه ـــ فى الغالب ــــ محققُ الديوان ـ حفظه الله.

وكنت حسِبتُنى كبَحْت من جماحه فى الإلحاح علىّ بالتقديم، حين راجعت له الديوان، وقوّمت ما تراءى لى فى التعليق والضبط، وقلت فى نفسى: عساه يقنَع منى بذاك، لكنه أصرّ على التقديم، وصبر على التأجيل. فالله يُزلف له البركات بما صبَر وأحسَنَ الظنَّ.

***

إن مدونة الشيخ سيِّدى محمدِ بنِ الشيخ سيدِىَ الشعريةَ مدونةٌ فريدةٌ فى مضمار الشعر الشنقيطىّ، بل فى الشعر العربىّ عموما، وصوتٌ متميز من بين أصوات كثيرة متجانسة.

يلمَح فيها الناظر إشراقةَ الإبداع، ومتعة الفن الأصيل، ويجد فيها ـــ فوق ذلك كله ـــ ذاتَ الشاعر، وكينونته، وهُوِّيَّته، ونفسيته، ومشاعرَه التى تلامس شَغاف قلبه، ووجدانَه وأحاسيسَه، ومكانته، وما يؤرّقه من أمل وطموح، وما ينغّص طعم حياته من مرارة وألم، وما تجيش به نفسه من حب غامر متعدد الأبعاد والاتجاهات…

فليس هو بالشاعر الذى تضيع عليك ملامحُه بين رُكام اللغة، ولا هو بالذى تتوارى عنك شخصيته خلف سُجُف الصور المكرورة، والأغراض الممجوجة، والتجارب المكذوبة.

وإنما تجد الشاعر الإنسان، والأديب الفنان الذى يحبّ حقا، ويكره صدقا.

تجد الإنسان الأبِىّ الطموح الذى يربأ بنفسه عن مواطن الذلة، ومواقف الهوان، ويطمح إلى العُلا، ويرغب عن سفاسف الأمور، ويغار على دينه ويعتزّ به، ويشمخ بمروءته وأرومته وأمته ومكانته، ويستعصى على اللُّوَّام والعُذّال، ويسعى  إلى التغيير والإصلاح؛

بل تجد الثائرَ الذى يهمّ بتفجير الساحة، بإعلان حرب شعواء على اللصوص، والإغارة على الروم بجيش لهام:

تمُـــــــــــــــــــــــــــرّ  على الأماعز والثنايــــا  /   قنابله فتتركُها غبــــــــارا

تصُوب على بلاد السلم غيْثا / وتوقد فى بلاد الحرب نارا

فبقصيدته الرَائيَّة الفريدة هذه دوَّى شعر الجهاد، إثرَ انعقاد مؤتمر الدولة والجهاد الذى دعا إليه والده ـــ وكان مشهودا، شهده الأمراء والعلماء والأعيان ـــ ومنه انطلق تنسيق الجهود من أجل إقامة العدل والإصلاح. فكانت هذه الرائعة بنتَ تلك الأجواء.

ولهذا قال بعض المُحِقِّين: إن شعر “المقاومة” ـــ وأنا أقول:  شعر الجهاد ــــ رأى النور فى هذه الربوع على يد صاحبنا، وإن تجسيد فكرة الدولة ولمِّ الشمل والجهادِ رأى النور على يد والده الشيخ سِيدِىَ الكبير  رحمه الله؛

تجد من خلال هذه المدونة العالمَ النحرير الذى حفظ العلوم والتَهَم الفنون، وعرف مسالك الخلاف بين المذاهب الفقهية، والفِرَق الكلامية، والمدارس النحوية، وأتقن لغاتِ العرب وأيامَهم وأشعارَهم وأنسابَهم وتاريخَ الأمم المُصاقِبة لهم، وعرف الشعراء والمُسْتجادَ من أشعارهم من لدنِ امرئ القيس إلى أحمد بن الحسين، فالشعرِ الأندلسىّ، فالمقامات، إلى مدوَّنات الأدب والنقد والبلاغة والمعاجم…؛

تجدُ الراوية الأديب المغرَم بنوادر الشعر الأصيل وشوارد الأدب القديم:

“لعمرك إن بيتا من قديــــــم  /   من الشعراء ذى نسب خطيــر

يعِزّ على الرواة ألذّ عنـــدى  /   من الدنيا ومن مال كثيـــــــــــر” ؛

تجد القانت الأواه المخبت فى مدارج السالكين، ومنازل العابدين، ومعارج السائرين؛

تجد الفتى العُذرىّ الذى دلّهته تباريحُ الهوى، فتبتل فى محراب الحب، حيث باح لك  بأسراره ولواعج قلبه، وبما انطوت عليه جوانحُه من عميق الشجَن، ورسيس الجوى، ومرارة الحرمان، فما ينفك يشكو إليك لفحات الحب الطاهر المكلوم، ويشدّك إلى الحنين معه إلى لحظات مضت، ومغان عفت، فى تشبث عميق بالزمان والمكان اللذيْن يختزلهما فى قوله: (وأيامِ الميامن والكُنيْن).

تجد ذلك الحنين إلى الفردوس المفقود: إلى الزمان السليب، وإلى المكان الذى أبلى الدهرُ جِدّتَه، وطمَست دَوارِجُ المُور طَراوتَه، ولكن الشاعر يفجؤك بالوقوف على الزمن، لا على الدِّمَن:

“فما ضيعةَ الأطلال نبكى، وإنما /  نؤبِّن من أعمارنا كلَّ ضائــــع

وأحْر بأن يبكى الفتى فوتَ نفسه  /   لطلعة ناعٍ  بالمفارق طالـــــع”.

أجَلْ، لقد كان الرجل ينظر بعمق إلى الحياة، ولا يأبَه لما أحيط به من “نَعمة عظيمة وكِلاءة جسيمة”، بل كان مَرْبَاه على الطهر شِعارا والقنوتِ دِثارا هو الذى وجّه سلوكه، وحدَّد وجهته منذ اللحظة الأولى.

فقد أحس بهشاشة مركز الإنسان فى الوجود، وحتمية الفناء، إذ كان مجردُ بروزه إلى الوجود كافيا ـــ عنده ـــ  فى استحضار موت الحياة، فلا تزيده مؤكِّدات نُذر الحِمام من مشيب واكتهال إلا شعورا بوشك البين، ودُنوّ الرحيل، فضلا عن دواعى المعقول والمنقول.

“ولمــــــــــــــــــــــــــــــا صاح من فَوْدى نذيرٌ /  وصرّح ثانيا بالعارضيـــــــــــــن

وقبل الشيب إيجادى نعانى /  فليس الشيب أولَ ناعييــن

وداعى العقل بالتجريب نادى /  وداعى الله أندى الداعيين

ســـلا قلبى عن الدنيا لكونى /   وما أهواه منها فانييــــــــــــــــــــــــــــن

وأَنــــــــــــــــــــــــــــى إن ظفرت به فلسنا / على حال تدوم بباقييــــــــــــــــــــــــــن

ولكنا إذا طبَقٌ تولـــــى/   على طبق ترانا راكبيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن…”

إن الشاعر لخَّص مهدِّدات الكينونة فى مرتبتين:

مرتبةِ الوجود، ومرتبة المشيب، وأقامهما، فى الوقت نفسه، دليلين على الفناء، وأكّدهما بدليلين منفصلين، هما: تجربة العقل، ودلالة النقل التى هى أبلغُ وأندَى.

ولهذا الهاجس الذى كان يسْكُنه، وللتنشئة الصارمة القائمة على ملازمة الورع والتقوى بإشراف أبيه، وإسلامه إياه إلى رعيل من تلامذته علماءَ وزهاد حمَلوه منذ الصغر على الجد والمرابطة فى محراب التألّه والنسك، واجتناب الخوارم، والعكوف الدائب على التعلم والتحصيل، عزف صاحبنا منذ الصبا عن الدَّدِ ومواطن الريبة ودواعى الصَّبْوة والهوى.

فكان يغدو ويروح فى الأسمال مشمّرا فى خدمة والده وأهل حَضرته، رغم غناه وكثرة خدَمه وحشَمه، ويعيش عِيشة الناسك الزاهد الذى نفض يده من الدنيا، وانقطع إلى الله.

“وأنا الذى ودَّعْتُ فى الصِّغَر الصِّبا  /    حِلما ولستُ ببالغ الأحـــــــلام

وعقدت فى الحيزوم أوثقَ عَزمـــة  /    ألا تحُلّ الفاتناتُ حِزامــــــــــــى

ولمَا دعانى القلبُ قطُّ لِريبــــــــة /    ولمَا مشت بى نحوها أقدامــــــــى

وورَدت وِرد السالكين إلى الهدى /   وأَسَمْتُ فى سَرْح السلوك سَوامى

وصحِبْتُ أقواما سمَتْ هِمّاتُهــم /     لِمَراتِبٍ فوق السِّماك سَــــــــــوامِ

لو صحّ أن ينجو من الحُبّ امرُؤٌ  /   سِلما لكنتُ المُنثنِى بسَــــــــــــلام”.

***

ـــ ما حلَّ عُقدةَ عزمى سحرُ حَوراء /  ولا ازدهى طودَ حِلمى برقُ زهراء

 عصْرَ الصبا ءانقتْنِى فاقتديتُ بها    /  سُبْلُ الهداة وأخلاقُ الأعِفَّــــــــاء…”؛

بيد أنه عصفت بحياته العاطفية حادثةُ التطليق القسْرىّ الذى فرضته عليه أمُّه، فقد صالت عليه فى جند من العجائز، فأوسعنه عذلا وإيذاء حتى انصاع لهجمتهن الشرسة، فكتب إلى أبيه متظلّما:

“أمِن فعل أمر فى الشريعة جائز /  يروم اهتضامى بينكم كلُّ عاجز؟!

وكان بكم جندُ البغاة يهابنــــى /   فصال علىّ اليومَ جند العجائـــــــز

فصرت كأنى قد أتيت ببدعة   /  وفاحشة من نحو فَعلة ماعـــــــــــــز!

فلو أن أرضى ذاتُ مُعْز رجمْننى  /  ولكنها ليست بذات أماعــــــــز”.

ورغم ما طبَع به هذه الأبيات من الطرافة والظرْف ووشْى الفكاهة، الذى يبدو كأنه ضِماد خارجىّ، يخدع بالسَّلوة والإذعان، فإن لوعة الفراق ظلت بين جوانحه جرحا غائرا لا يندمل.

وفى الديوان من الأبيات والمقاطع ما يترجم لك فى نبرات شجية وآهات مكلومة تلك الفاجعة التى لم تئِدها الأيام.

فمما قال فى الحيلولة بينه وبين زوجه “الزهراء”:

“ياليت شعرىَ هل فى زورةٍ حرجُ  /  لمن لها بعد أن نام الورى دلَــجُ؟

مِن أصعب البرّ مثوَى مُغرَم دنِفٍ    /  عن وصل غانية فى طرفها دعَج

   لا سيّما إن يكن بالقرب منزلها    /    ولا لها حارسٌ يخشاه من يلج”.

وهكذا تتوالى الحسرات، ويرتفع البوْحُ والشكوى:

“ما للمحبين من أسر الهوى فاد /  ولا مُقيدٌ لقتلاهـــــــــــم ولا واد

ولا حميمٌ ولا مولًى يرقّ لهم  /   بل هم بِواد وكل الناس فــى واد

يا رحمتَى لهمُ ما كان أصبرَهم  /  على معاناة جمع بين أضــــــداد!

والناس ألب عليهمْ واحد فلذا  /  ما إن ترى من يواسيهم بإسعــــاد

إما عذولٌ وإما ذو مراقبـــة    /    أو زاعمُ النصح أو ساع بإفســـــاد

إن أظهروا ما بهمْ لِيموا وإن كتموا  /  لاقوْا بما كابدوا تصديعَ أكباد

  وهيّنٌ كلُّ ما لاقوْه عندهــمُ   /   لو أنّ أحبابَهم ليسوا بصُــــــــــدّاد…”

***

وفى أثناء مَسيرته الشعرية الكبرى، التفت الشاعر إلى الأغراض الأدبية، فألفَى مَعينها قد نُزِف، وجسمَها قد نُهك، مما تعاورها الشعراء، وردّدها البلغاء، إذ لم يبدُ لناظرَيه، منذ الجاهلية إلى عصره، إلا الغزلُ والتشبيب والنسيب والبكاء على الدمَن العافية والطلول الداثرة، والمدحُ والرثاء والفخر والهجاء، والشَّرْبُ والكأس والخيلُ والليل والبيداء والسيف والرمح والقرطاس والقلم…فرفع عقيرته يبحث عن مطلع يستهل به القصيدَ غيرَ ما مرّ من مطروق الأغراض، ومكرور المطالع، واستنجد بالبلغاء والفصحاء، أن يُسعفوه “بمقصِد لم يُبدع”، محذرا إياهم من الاستهلال بشىء مما استنزفته الدلاء. فقد ضاق ذرعا بالرتابة المَقيتة التى درَج عليها الشعراء فى بناء النص الشعرىّ عبر العصور؛

 وأحسّ إحساسا عميقا بأزمة الإبداع فى الشعر العربىّ عامة، إحساسا نبع من معرفة شاملة، ونظر ثاقب، وتطلّع جرىء إلى التجديد، لا من مطالعة آداب أجنبية، أو تأثر بحضارة غربية، أو نهضة مشرقية لم يتنفس صبحُها بعدُ.

وإنما ارتفع هذا الصوت منذ زهاء مائة وسبعين عاما، من قلب صحراءَ شَحاحٍ، ذات كثبان متهيلة، وغيطان فضّية، وظباء نافرة، ورئال شاردة، نابعا من عبقرية نادرة، وشخصية فذة، قبل أن يُسمَع له نظير، بهذا المستوى، وعَبْرَ القوافى، من صُقعٍ آخرَ فى مشرق أو مغرب.

أجل، لقد ارتفع هذا الصوت من رمال ناعمة تحُف بميمونة السعدى، بعيدا من مراسى السفن، وأزيز الطائرات، وضجيج الأسواق، وهدير المطابع؛

من بلاد لم يَعرف الانحطاط إلى شعر أهلها سبيلا؛

من بلاد تُعْلِى مقام الشعر، وتحيط القوافىَ بهالة من التجِلَّة والتقديس؛

من بلاد ترى حفظ لغات العرب واجبا مفروضا، وأمانة يحرُم التفريط فيها، حتى كأنهم مُضَّغُ الشِّيح والقيصوم أيام الجاهلية وصدر الإسلام.

“يا معشر البلغاء هل من لوذعى /      يُهدَى حِجاه لمقصِد لم يُبـــــدع؟

إنى همَمت بأن أقول قصيــــدة   /     بكرا، فأعيانى وجود المطلِــــع

لكم اليد الطولى علىَّ إنَ اَنتـــمُ  /    ألفيتموه ببقعة أو موضِـــــــــــــع

فاستعملوا النظر السديد،ومن يجدْ /    لى ما أحاول منكمُ فليصــــــدعِ

وحذارِ من خلْع العِذار على الديَا  /    رِ ووقفة الزوّار بين الأربُــــــع

وإفاضة العبرات فى عرَصاتها   /    وتردُّدِ الزفرات بين الأضلُــــــــع

ودعوا السوانحَ والبوارحَ واتركوا   /  ذكر الحمامة والغراب الأبقـــــــع…

إلى آخر الأغراض والمقاصد الشعرية المعروفة عبر عصور الشعر المحفوظ والمدون فى أدب العربية إلى عهده، وقد استغرق تَعدادها سبعة عشر بيتا من رائع الشعر، منها الثلاثة التى مثلنا بها هنا.

ثم قال بعد سردها واستيفاء جملتها:

“فجميعُ هذا قد تداولَه الورى  /  حتى غدا ما فيه موضعُ إِصْبَع”

ثم أشار إلى السرقات الشعرية، وإغارة الشعراء بعضِهم على شعر بعض لصَصا وغصْبا، وادعاءِ كلٍّ السبقَ، وإلى صعوبة الشعر، ودِقّة مَهْيَعه، وعدم تأتِّيه حتى لأئمة اللسان وأساطين اللغة وحفّاظها كعبد الملك بن قرَيْب الأصمعىّ، فضلا عن غيرهم، وإلى شعور عنترة بضيق مناديح القول منذ فجر الشعر الجاهلىّ، ولبْث زهير بن أبى سُلمى حولا كَرِيتا فى صَنعة مطوّلاته و تنقيحها، مؤكدا بكل ما أسلف اعتياصَ الشعر، وأنه دَحْضٌ مزَلّة.

ولكن الشاعر الناقد وضعَنا على مفترَق طرق عندما قال:

“إن يتبعِ القدَما أعاد حديثَهم  /    بعد الفشُوّ، وضل إن لم يتبع”

إذ تأخذ الحَيرة بمجامع أنظار النقَدة ورُوَّام القريض عند قراءة هذا البيت.

 فأين المفرُّ إذن؟

ثم يذكر الشاعر تفاوتَ الشعراء فى حوك الشعر وتدبيجه، وأنهم طبقاتٌ بعضُها فوق بعض، يستوى فى إدراك ذلك الفدْمُ والألمعىّ، مُبرِزا فضل الشاعر المطبوع على المتكلف الذى يعانى صَنعة القريض.

كما فضّل مهذِّبَ الشعر الذى يراجع العمل الشعرىّ، ويجيل فيه النظر حتى ينضَج ويستوىَ على سُوقه، على من يقذف بالقول دون رَوِيّة وإمعان.

ثم يقدّم تعريفا للشعر مزاوجا فيه بين مدرستى اللفظ والمعنى، وناظرا إلى الأسلوب، وعنصرى التطريب والتأثير، بحيث يكون اللفظ رقيقا، والمعنى رائقا، فتجتمع الرقة والجزالة، مع مجىء النص متناسب الحسن، جاريا على سَنن الإبداع فى أساليبه وتراكيبه، ومُراعًى فيه عنصرُ الموسيقى الشعرية بنوعيْها، إلى جانب قدرة النص على إحداث التأثير النفسىّ والعاطفىّ على المتلقّى، والانفعال التلقائىّ المباشر لديه.

“ما الشعر إلا ما تناسب حسنُه   /   فجرى على منوال نسج مبدَع

لفظ رقيق ضم معنى رائقــــا  /    للفهم يدنو وهْو نائى المنـــزَع

مُزِجت برِقَّته الجزالةُ، يا لَه    /     من راح دَنّ بالفُرات مشعشـَــع!

فيكاد يُدرِكه الذكىُّ حــلاوة /    وطلاوة بالقلب قبل المِسمــــــعِ

تعرو القلوبَ له ارتياحًا هِزةٌ  /   يسخو الشحيحُ بها، لحسن الموقع

والشعر للتطريب أول وضعه  /   فلغير ذلك قبلنا لم يوضــــــع

واليوم صار منكِّدا، ووسيلةٌ  /   قد كان مقصِدها انتفَى لم تُشرع

وإليه ترتاح النفوسُ غُلُبَّــةً  /    فيُميلها طبعا بغير تطبُّــــــــــــــع”

…                         …                               …

وإذا كان الشاعر مطبوعا، مكتملَ الأداة، مَعْنِيّا بتهذيب شعره وتشذيبه، كان لا محالة مُجيدا. فليس تهذيب الشعر، مرادفا للصنعة والتعمل، كما يتوهمه من لا يَدَ له بهذه الصناعة. وإلا كان زهير ومن تبِعه من عبِيد الشعر معدودين فى متكلِّفى البديع ومُتعاطِى الصنعة العقيم.

ومع ذلك فليس تهذيب الشعر ـــ على ما هو عليه عند هذه المدرسة ـــ شرطا لازبا لا مَحيد عنه فى إجادة الشعر، ولا هو بالعنصر الأساس فى بلاغة القول وبراعته دائما. فصاحبُنا إذ يفضّل “مهذِّب الأشعار” على “المُغِذّ المسرع”، فليس لأن عملية الإبداع متوقفةٌ على التهذيب، ولا بدّ، أو لأن الشاعر نفسَه يُدرِج التهذيب ضمن أركان الشعر التى لا يُتَصوَّر بدونها.

بيدَ أنه لا يمكن إغفالُ أهميته لتعميق نقل المشاعر والتجارب والرؤى، وتصوير الواقع، تجاوزا للحظة الانفعال التى تخَلّقَ فيها النصُّ على ما هجَس فى خلَد الشاعر.

وقد سبَق صاحبُنا بعضَ من أشار من النقاد المعاصرين إلى هذا المَلْمَح.

انظر ـــ مثلا ـــ قولة الدكتور إحسان عباس: “ولما كان أكثر الناس متفقين على أن الشعر إبداع، فلا بد للإبداع من زمن ليختمر فى النفس، ولا بد للشاعر من مراجعة ما يَكتب، ومواجهتِه بالشك قبل أن يقبَله.

أما هذا التدفق السيال، فإنه يَحرِم صاحبَه العمقَ والتنويع والاحتفال باختيار المبنَى الملائم”. (اتجاهات الشعر العربىّ المعاصر، ص: 212).

وتأمل التلاقىَ بين قول صاحبنا: “المُغِذّ المسرع”، وبين قول هذا الناقد المعاصر: “التدفق السيال”.

واقرإ البيت كاملا ترَ الصورة واضحة أمامك:

ومهذِّبُ الأشعار بادٍ فضلُه /  عند السماع على المُغِذّ المسرِع”

وأما غير المطبوع من الشعراء فلا يتأتى منه إلا تكلف الصنعة الباردة المقيتة.

والذى لا ريب فيه أن شعراء العرب القدماءَ فى الجاهلية والإسلام إلى قيام الدولة العباسية ـــ تقريبا ـــ هم المطبوعون، أهل السليقة والملكة والفطرة، وأن من كاد يلحق بشأوهم من طبقات المحْدَثين ونحوهم، فكذلك أيضا. 

ولا أقصد بذلك ـــ بداهة ـــ مجرد التقليد والمحاكاة، بالنسج على المنوال؛

 كما أنى لا أقصُر الطبع على هذه الطبقات بمفردها، ولكن أؤكد أنها به أخْلق، وإلى التحلِّى به أسبقُ.

إذ أن السنّة الغالبة أن يوجَد فى كل عصر شعراءُ مطبوعون، ولا بدّ.

وقد جمع هذا التعريفُ المكتنِز حقيقةَ الشعر، وكُنهَ الإبداع. وهو خليق بالدرس والتحليل.

ولقد ذكّرتنى جوانب منه ببعض ما قيل فى شعر البحترىّ، على وجه الخصوص. والذى لا شك فيه ـ عندى ـ أن هذا التعريف منطبق على روائعه وعيون شعره. كما أنه منطبق على فرائد غيره من صاغة الشعر الرفيع.

يقول ابن الأثير فى المثل السائر:

“وأما أبو عبادة البحترىّ فإنه أحسنَ فى سبك اللفظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغنّى. ولقد حاز طرفى الرقة والجزالة على الإطلاق. فبينا يكون فى شظف نجد حتى يتشبث بريف العراق.

وسئل أبو الطيب المتنبى عنه، وعن أبى تمام، وعن نفسه، فقال: أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحترىّ.

 ولعمرى إنه أنصف فى حكمه، وأعرب فى قوله هذا عن متانة علمه. فإن أبا عبادة أتى فى شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء فى اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بُعد المرام، مع قربه إلى الأفهام.

وما أقول إلا أنه أتى فى معانيه بأخلاط الغالية، ورقِىَ فى ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية”.

ويقول الآمدىّ فى الموازنة بين الطائيين: “وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسنَ التأتِّى، وقربَ المأخذ، واختيارَ الكلام، ووضعَ الألفاظ فى مواضعها، وأن يورَد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمَل فى مثله، وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استُعيرت له، وغيرَ منافرة لمعناه؛ فإن الكلام لا يكتسى البهاء والرونق إلا إذا كان بهذا الوصف، وتلك طريقةُ البحترىّ.

قالوا: وهذا أصل يحتاج إليه الشاعر والخطيب صاحب النثر؛ لأن الشعر أجودُه أبلغُه، والبلاغة إنما هى: إصابة المعنى، وإدراك الغرض بألفاظ سهلة عذبة مستعملة سليمة من التكلف، لا تبلغ الهذر الزائد على قدر الحاجة، ولا تنقص نقصاناً يقف دون الغاية، وذلك كما قال البحترىّ:

والشعر لمحٌ تكفى إشارتُهُ وليس بالهذر طوِّلت خُطَبُهْ

وكما قال أيضاً:

ومعانٍ لو فصّلتها القوافى هجّنت شعر جرْولٍ ولبيد

حُزن مستعمَل الكلام اختياراً وتجنبن ظلمة التعقيد

وركِبن اللفظ الغريب فأدرك ن به غاية المرام البعيد

فإن اتفق ـــ مع هذا ـــ معنى لطيفٌ، أو حكمةٌ غريبة، أو أدب حسن، فذلك زائد فى بهاء الكلام، وإن لم يتفق فقد قام الكلام بنفسه، واستغنى عما سواه...

وينبغى أن تعلم أن سوء التأليف وردئَ اللفظ يذهب بطلاوة المعنى الدقيق ويفسده ويعَمّيه حتى يحتاج مستمعه إلى طول تأمل، وهذا مذهب أبى تمام فى عُظْم شعره؛

 وحسنُ التأليف وبراعة اللفظ يزيد المعنى المكشوف بهاءً وحسناً ورونقاً حتى كأنه قد أحدَث فيه غرابة لم تكن، وزيادةً لم تعهد، وذلك مذهب البحترىّ، ولذلك قال الناس: لشعره ديباجة، ولم يقولوا ذلك فى شعر أبى تمام، وإذا جاء لطيف المعانى فى غير بلاغة ولا سبك جيدٍ، ولا لفظ حسن، كان ذلك مثلَ الطراز الجيد على الثوب الخلَق، أو نفث العبير على خد الجارية القبيحة الوجه”. (1/423 ـ 425).

ومن الطريف اشتمال هذا المقطع على طرف من تعريف البحترىّ نفسه للشعر!

ومن المفيد إلقاء الضوء قليلا على مفهومى الرقة والجزالة عند بعض النقاد المتقدمين عسى أن ندرك بذلك حقيقة المراد منهما عند صاحبنا،

فمثلا يقول ابن الأثير، فى المثل السائر: “الألفاظ تنقسم فى الاستعمال إلى جزلة ورقيقة، ولكل منهما موضع يحسن استعماله فيه.

فالجزل منها يستعمل فى وصف مواقف الحروب، وفى قوارع التهديد والتخويف، وأشباه ذلك.

وأما الرقيق منها فإنه يستعمل فى وصف الأشواق, وذكر أيام البِعَاد، وفى استجلاب الموَدّات، وملاينات الاستعطاف، وأشباه ذلك.

ولست أعنى بالجزل من الألفاظ أن يكون وحشيًّا متوعرًا، عليه عنجهية البداوة، بل أعنى بالجزل: أن يكون متينًا، على عذوبته فى الفم, ولذاذته فى السمع، وكذلك لست أعنى بالرقيق: أن يكون ركيكًا سفسفًا، وإنما هو اللطيف الرقيق الحاشية، الناعم الملمس؛ كقول أبى تمام:

ناعمات الأطراف لو أنها تُلـ ـبس أغنت عن المُلاء الرِّقاق

وسأضرب لك مثالًا للجزل من الألفاظ والرقيق، فأقول:

انظر إلى قوارع القرآن عند ذكر الحساب والعذاب والميزان والصراط، وعند ذكر الموت ومفارقة الدنيا، وما جرى هذا المجرى، فإنك لا ترى شيئًا من ذلك وحشىّ الألفاظ، ولا متوعرًا.

ثم انظر إلى ذكر الرحمة والرأفة والمغفرة، والملاطفات فى خطاب الأنبياء، وخطاب المنيبين والتائبين من العباد، وما جرى هذا المجرى، فإنَّك لا ترى شيئًا من ذلك ضعيف الألفاظ ولا سفسفًا”. (1/185 ــ 186).

وأحسب أن مفهوم الجزالة والرقة عند صاحبنا لا يبعد كثيرا عما قال ابن الأثير، رحمه الله.

وأما قول صاحبنا:

والشعر للتطريب أولَ وضعه /  فلِغير ذلك قبلنا لم يُوضع

فهو تعريف يلحّ على عنصر مهمّ من عناصر الإبداع، وهو الموسيقى الشعريةُ، وحسنُ تساوقها فى نسيج النص، بل فى كل بيت من أبيات القصيدة، ولا يقصد بها  ـــ بداهة ـــ مجرد الموسيقى الخارجية القائمة على الروىّ والقافية، ثم على تأثيرها بعدُ فى وجدان المتلقّى.

وكأنه مطابق لقول ابن رشيق القيروانىّ فى العمدة: “وإنما الشعر ما أطرب وهزّ النفوس، وحرّك الطباع، فهذا هو باب الشعر الذى وُضع له، وبُنِى عليه، لا ما سواه”. (1/128)؛

ولهذا مجّ الشاعر ما يُتعاطى من الشعر فى عصره، وإن كان أكثره جزلا متينا، لفقدان هذا العنصر، وأيضا لما يثيره ترديدُ الصور، واجترار التعبيرات، وتَكرار الأساليب نفسها، وانتحاءُ بناء شعرىّ موحد يفرضه الشاعر على نفسه، ويفرضه عليه المحيط التقليدىّ، من غثَيان وساَمة وملل لدى المتلقى، ولا سيّما إن كان ممن يتوق إلى التجديد والإبداع.

وهذا ما عبر عنه بقوله:

واليوم صار منكِّدا، ووسيلةٌ /  قد كان مقصِدُها انتفَى لم تُشرَع

 فكأنه، بعد نفى هذا المسوّغ،  يدعو إلى طىّ صحائف الشعر، وتجفيف أقلامه.

كما يدعو المقتدر على الإبداع أن يقول، وينهى العاجز عن الخبط فى المجهول.

والشاعر وإن لم يَلح لناظريْه فى اَفاق القول غرضٌ جديد لم يُطرَق من قبل ـــ وإن كان قد وقع عليه بقصيدته الرائعة هذه ـــ فإنه قدم لنا تعريفه للشعر، بغض النظر عن مضامينه. ولكنه لم ير فى الوقت نفسِه أن فيه مطمعا لجُل معاصريه من الشعراء.

“والجل من شعراء أهل زماننا /  ما إن أرى فى ذا له من مطمع”.

ولئن بحث صاحبنا عن قصيدة بِكر لم يطمِثها قبله شاعر فصيح، وخالَ أن وجود المطلع قد أعياه، فلقد وجد القصيدة البكر، ووقع على المطلع البديع معا، فهذه القصيدة العينية ـــ بطولها ـــ قصيدة بكرٌ لم يُنسَج قط لها على منوال. فلا تجد، على مدار القرون، فى مدونات شعر العربية، قصيدة طولَى فى النقد الأدبىّ، وتشخيص أزمة الإبداع، والبحث عن حل لمعضلة الاِجترار والتَّكرارـ سواها.

كما لن تجد أيضا مطلعا يعالج هذه الظاهرة؛ ذرنى من إشارة عنترة، وعزوف الحسن بن هانئ عن الطلليات إلى السؤال “عن خمّارة البلد”، شعوبيةً منه، وارتكاسا فى ردغة الخبال، ونحو هما من مقتضَب الأقوال، ولمح الإشارات.

وذرنى من ظهور قصائدَ ومقطوعات فى الأدبين العباسىّ والأندلسىّ لا تُفتتح بالطلليات، وتتجلى فيها وحدة الموضوع، وألوانٌ أخرى من التجديد، فليس عن هذا أسأل، ولا فى موضوعه أفيضُ.

وفى هذه العينية بالذات يطول الغرض النقدىّ إلى أكثر من خمسين بيتا دون أن تنزل القصيدة عن مستوى الفن الرفيع؛ وتلك ـــ لعمر الله ـــ معادلة صعبة: أن تجمع بين العلم والفنّ فى مسلاخ واحد عريض الذلاذل، طويل الذيول، ثم تُفلحَ فى إجادة صناعة القول.

ولئن انفرد الشاعر بهذا الغرض الجديد موضوعا فردا لقصيدة بهذا الحجم، فقد شارك عامةَ الشعراء فى سائر الأغراض من غزل ونسيب وفخر ورثاء وتصوف ومدح ومزح وفكاهة ووصف…وكان فى كل ذلك أو جُله مجَلّيا أو مصَليا، إلا فيما لا يستحق من الفكاهيات والإخوانيات ونحوها التشمير عن ساعد الجد.

وبمثله يليق ما يناسب مقامَه من القول. وتلك هى البلاغة.

***

وفى تضاعيف الحروف والكلمات تجد “أنا” الشاعر واضحةَ المعالم، جلية

القسمات، ترافقك منذ اللحظة الأولى، وتمر بك عبر محطات وتضاريسَ وأنفاق، وتبقى هى هى دون تلون أو نفاق، أو استعارة بهرَج أو طِلاء، أو تقمص قديم أو حديث. وقد أشرت إلى ذلك فى إلماعة عابرة فى مستهلّ هذه الكلمة.

تجد الشاعر الإنسان الذى يسجّل أمور الحياة، ولا يترك حادثة تفوت دون تصوير بالكلمة الفنية، ولو كانت تافهة عند غير الشعراء الجُدَراء بهذه السِّمَة.

فهو يتفاعل مع الحياة فى كل أطوارها وأحوالها، ومع كل النماذج البشرية على اختلافها، وتفاوت مستوياتها.

والشاعر الحق من يتخذ من مادة الحياة شعرَه، ويستقى من جزئياتها فنّه، كامرئ القيس والنابغة والمتنبى وأضرابهم من فحولة الشعراء، لا من ينتظر المناسبات، فيدبّج فيها مطوّلات مكشوفةَ الزيف.

فالذى لا ينظم إلا فى المناسبات لن يكون شاعرا بمقياس الفنّ أبدا، إذ الغالب عليه خُلْف التجربة، وتهويل الكلمة، وتقديم نظم سقيم لا غَناء فيه.

والذين لا يفقَهون حقيقة الشعر يحسبون أن كل كلام منظوم، باستثناء النظم التعليمىّ، داخلٌ فى مفهوم الشعر. إذ لا يعتدّون، من مقوِّمات شِعْريّة النصّ، إلا بالوزن والقافية. أما التصوير والخيال والعاطفة، وروعة التعبير… فعناصرُ غائبة من ميزانهم المختلّ. ولذلك يُعدّ الشعراء ـــ حسب عيار الشعر لديهم ــــ بالآلاف، فى البلد الواحد. بينما لا يوجد، فى الواقع، من بين هذه الأعداد الهائلة، والنماذج المتطابقة، شاعرٌ واحد.

والأدهى من ذلك كله استحسانهم لهذا الضرب من شعر التقليد الأعمى، الذى لا يعدو أن يكون صورا باهتة، مستنسَخة، بالسرقة والإغارة، من آلاف النسخ المتداولة عبر العصور، مما أذهب ماءها ورونقها منذ دهر بعيد، فكان لزاما أن يكون الوليد المستنسَخ ـ عبر هذه السلسلة من تناسخ الأرواح ـ ضاويا، هزيلا، مشوّه الخلقة، باسر الطلعة.

وثالثة الأثافىّ أن يكون ناظمُه كاذبا فى تجربته، مفتعِلا أحاسيس غيره، مجردَ ناقل لكلمات مرصوفة فى الذهن، جاهزة للاستعمال عند الحاجة.

وبطبيعة الحال، فلا علاقة بين هذا الضرب من المنظوم، بالشعر إطلاقا؛

كما أنه مجذوذ الصلة بالحياة.

والصلة بالحياة وأبعادِها وجزئياتها التى نتأثر بها جميعا، هى بالصياغة الفنية: حقيقة الأدب، وجوهر الشعر. أو قل إن شئت: إن الحياة كتاب منظور، ولكن لا ينتقل إلى الأدبية أو الشعرية، إلا بلَبوس الفنّ.

وفى هذا المعنى يقول الناقد وليام هدسن (hudson):  إن”عنايتنا بالأدب ترجع أولا وقبل كل شىء إلى أهميته الإنسانية العميقة الباقية، فالكتاب العظيم يستمد مباشرة من الحياة، ونحن حين نقرؤه نستكشف بين أنفسنا والحياة علاقاتٍ كثيرةً وطيدة وجديدة. وفى هذه الحقيقة نجد التفسير النهائىّ لما له من قوة، فالأدب إبداع جديد حىّ لما رآه الناس فى الحياة، وما خبَروه منها، وما فكّروا فيه, وأحسّوا به إزاء مظاهرها التى لها عندنا جميعًا أهمية مباشرة وباقية، تفوق كل أهمية. وهو بذلك يُعدّ ــ بصورة أساسية ــ تعبيرًا عن الحياة وسيلتُه اللغة, ولكن من المهمّ أن نفهم، منذ البداية، أن الأدب يعيش بفضل الحياة التى تتمثل فيه”.

(William Henry Hudson: An Introduction to the study of literature. 2nd ed., p.11)..

 

لقد تفاعل صاحبنا مع الحياة طبيعة، وبشرا، وحيوانات، وأشجارا، وربوعا تثير الشجَن والذكرى، وتبكى المرء على ضائع الأيام، ونظر فى واقع أمته وبلده، فشعَر بالمرارة والأسى، ولهِج بالتغيير والإعداد، ونظر إلى التراث، فسعى إلى التجديد فى مضمار القول، ودعا إلى نفض الغبار عن دين الأمة بالعودة إلى الأصول.

ولم نرَه أغفل كبير شىء من جزئيات حياته اليومية، بدقائقها وتفاصيلها وتجاربها، جِدا وهزْلا، جذَلا وأسى، فُكاهة وذكرى.

فجاءت هذه المدونة صياغة لهذه الحياة الملأى بالمعانى والدلالات والدروس والعِبَر والآمال والآلام، الحافلة بالحب والإخلاص، الغنِيّة بالتأملات العميقة فى الحياة والموت والكينونة الإنسانية، ضمن أساليب بديعة، وصور فنية رائعة، وتراكيب جزلة، ولغة صافية متينة.

ولما صاغ شاعرنا مطولته الرائعة التى اقتطفنا منها الأبيات النونية أعلاه ـــ وكان مما يكتب المطولات ـــ نسبه بعضهم إلى أنه لم يكتب فى موضوع، رغم استحسانهم لها!

وما ذاك إلا لأنهم ألِفوا القصيدة تدور بين النسيب والغزل، فوصفِ الناقة والبيداء، فالمدح أو الهجاء…أما أن تخرج عن هذا الإطار “التقليدىّ” الجامد، بأن تتمحور حول الشاعر نفسه، يُبِثُّنا من خلالها آمالَه وطموحاتِه وتجاربَه وحنينَه، وأفراحه وأتراحه، ويصور لنا بيئته ومحيطه…فشىء غير مألوف، ولا سيّما فى المطولات التى تنيف على مائة بيت.

ورغم أنه افتتح هذا النص بالمقدمة الطللية، فإن ذلك لم يشفع له، لأن القصيدة لم تسلك بعدَ ذلك الجادة المألوفة، فظلت فى النظر التقليدىّ غير ذات موضوع!

يقول الدكتور عز الدين إسماعيل:

“ويحدثنا “جايتان بيكو Gaetan Picon” وهو من أبرز النقاد الفرنسيين فى العصر الحديث، عن أن الشعر المعاصر قد أصبح نشاطًا روحيًّا مصاحبًا للواقع، فهو ليس سوى إبداع فنىّ للواقع. ويستوى أن يكون الواقع هنا خبرة نفسية، أو موضوعًا وصفيًّا، أو قصة تاريخية، أو سوى ذلك.

والقصيدة الطويلة حشد كبير من هذه الأشياء “الجاهزة” التى تعيش فى واقع الشاعر النفسىّ، والتى تتجمّع وتتضامّ، ويؤلِّف بينها ذلك الخلقُ الفنىّ الجديد ليُخرِج منها عملا شعريا ضخما. فأنت تجد فيها الخرافة والحقيقة والقصة والواقعة والزمن والخبرة الإنسانية والمعرفة، أو لنقل: تجد فيها آفاقًا فسيحة متعددة من الحياة. وهذا كله ينتقل من صورته الأصلية أو من ماضيه، ليحتل صورة جديدة، وليستقر فى حاضر جديد، وكأنه قد خُلق خلقًا آخر.

و”الشعر” فى القصيدة الطويلة هو ذلك الخلق الآخر، ولا تتجمع هذه الآفاق المتعددة بصورة اعتباطية، وإلا أصبحت أمشاجًا لا لون لها ولا طعم، ولأصبحت القصيدة شيئًا آخر، لا هى بالطويلة ولا بالغنائية، ولكنها تتجمع فى خلقها الجديد ليربط بين أجزائها رباط حيوىّ هو ما سماه “ريد” من قبل “الفكرة”. اهـ الاستشهاد. (الأدب وفنونه: دراسةٌ ونقد، ص:89 ــــ 90).

فهذه القصيدة، من هذا المنظار، قصيدة معاصرة، سابقة لأوانها، وإن غُلّفت بالأطر التقليدية. وقد أقرّ الدكتور عز الدين إسماعيل ــ وهو من هو فى مجال النقد وتاريخ الأدب ــ فى هذا الموضع بأن الشعراء المعاصرين بدءوا ينصرفون إلى هذا النوع من المطولات ذات الخصائص المشار إليها.

وبناء على ذلك يكون صاحبنا قد سبق إلى هذا اللون من القصائد التى “تجد فيها الخرافة والحقيقة والقصة والواقعة والزمن والخبرة الإنسانية والمعرفة، أو لنقل: تجد فيها آفاقًا فسيحة متعددة من الحياة”؛ علما بأن القصيدة المطولة المعاصرة التى تحدث عنها الناقد هنا ليست من بابة مطولات شاعرنا بناء وصوغا ووزنا، ولكنها تشترك معها فى الأسس العميقة التى تضمن للنص قسطا من الشعرية والخلود.

***

وفى هذه المدونة من استلهام التراث وتوظيفه، وكثرة الإحالات والإشارات ما يجعلها فى طليعة شعر “الثقافة العالِمة”. وبدهىٌّ أن ليس المقصودُ حشدَ الأسماء والحوادث…فليس ذلك من “الشِّعرية” فى قبيل ولا دَبير، وإنما توظيف التراث  توظيفا فنيا بديعا، به يكون النص من نبع الأصالة، لا مُقرِفا أو دعيّا، ومعبرا فى الوقت ذاته عن اللحظة الشعرية، ومتجاوزا إياها إلى استشراف آفاق أرحب مدى وأكثر إشراقا.

ومن مظانّ هذه الظاهرة: نونيته الشهيرة المشار إليها قريبا، والواوية المديحية، ورائية الجهاد، و”الشمَقمقيّة الصغرى”، وقصائدُ ومقطوعاتٌ أخَر…

ومن طريف ما يطالعك فى هذا الباب مقطوعته التى يقول فيها:

“سائل أساة الهوى: ما الرأى فى رشإ/  ما شاء شئتُ، ومهما شئتُ لم يشإِ؟

يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرى خِطاءً صوابى كلَّـــــــه، وأرى/  عينَ الإصابة ما يأتيه من خَطــــــــــــــــــــإ…

إن أنتسِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبْ حِمْيَريّا كان من مُضَــــرٍ/   أو أنتسبْ قُرَشيا كان من سبَـــــــــإ

وكان مـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن عجم إن كنتُ من عـربٍ/   وكان من مارج إن كنت من حمَــــإ…”

إلا أنه مما يميز بعض المقطوعات القصيرة المستقلة، التى يتم فيها توظيف المعارف اللغوية والفقهية والأدبية والتاريخية، أو تضمينُ أشطار من الشعر، أو جُملٍ من نصوص محضرية، فى مجال الغزل، أو الإخوانيات، ما قد يُلحظ فيها أحيانا من عدم الانسياب، والقصد إلى إبراز النكتة أو الفائدة العلمية فى قالب النظم، أكثر من التركيز على الناحية الإبداعية فى القول الشعرىّ، كقوله من قطعة كاملية:

البدر دون ضرورة قالوا: نوى/    من بعد قصر للنوى مد النــــــــوى

قلت: الذى مُد الهــواءُ وراءه؟ /   أم من عليه من الورى قُصِر الهـوى؟

قالوا: الذى سلب العقولَ جَماله/  عرَضا ورد إلى السَّفاه منِ ارْعَـــوى

قلت: الخليل هو الذى تعنونــه؟/ ليس الذى نزل السما؟ قالوا: هـــــوا…إلخ


وقوله:

يا شاعر العصر يا ذا الواو واللام/ والياء فى الياء موصوفا بإدغام…

إلى أن يقول:

“من راقب الناس لم يظفر بحاجته”/  ما فاز بالغُنم إلا كل مِقدام

وقوله:

“أراك زعمت الفؤاد انسَلى/ ستدرى إذا ما الغبار انجـــلى

ستدرى إذنْ أنه راجـــــعٌ/ “بأرفع من صوتــــــــــــه أولا”

فإِخال هذا القسم الأخير ـــ رغم طرافته ـــ لا يخلو من ضرب من ضروب الصنعة والتعمل، واستغلال المهارات الفنية فى استخدام المعارف، شحذا للفكر، ومفاكهة للخلان، ومجاراة لأهل الأدب والظرف من شعراء البلد، وغيرهم من المتأخرين. لذا لا تجد فيه ذلك التدفق العاطفىّ، وتلك “الجماليات الفنية” التى تلاقيها فى أغلب النصوص الأخرى.

وقريب من هذا الباب، إلى حد ما، مقطوعات الألغاز التى تتضمن مسائل فقهية ولغوية، فهذه ـــ وإن كانت منظومة ـــ فإنها لا تدخل فى المدونة الشعرية بالمعنى الفنىّ للشعر. وكذلك منظوماتُ الأدعية، وهزْلِ بنى ديمان، وفوائدِ الصرف والفقه ونحوها.

وقد حدد الشاعر نفسُه مفهوم الشعر فى العينيته النقدية الشهيرة التى ألمعنا إليها، كما تقدم.

ولا شك أن ما لا يدخل فى ذلك المفهوم ليس شعرا عند الشاعر ــ على الأقل ـــ ولو كان منظوما، أو مضموما إلى الديوان، بل لا يَعُدّ هذا الضربَ من النظم شعرا إلا من حُرِم معرفة كنه الشعر وفقه حقيقة الأدب.

***

ومما يميّز هذه المدونة الفريدة، ويُعَدّ من خصائصها: “وحدة الموضوع”، فإنك مُلْفٍ فى كثير من عيونها قصائدَ ذاتَ موضوع واحد لا تعْدُوه.

انظر إلى رائية الجهاد التى أنافت على مائة بيت كيف تخلصت من المقدمة أبدع تخلص، لتتمحض للجهاد، والدعوة إلى قتال اللصوص المحاربين فى الداخل، وإعداد العُدة لقتال النصارى المتربصين فى الخارج؛

ثم إلى نظيرتها الهمزية الطُّولَى فى وصف أفاعيل العصابات القذرة من لصوص ومحاربين، وسعيهم فى الأرض فسادا، قتلا، ونهبا وسلبا، وهتكا لحرمات المساجد. وقد حث فيها على جهادهم والقضاء عليهم، وأنكر استكانة بعض المتدينين وخنوعَهم لهذه الحثالات المرذولة، وأقام عليهم الحجة بما لا مَدفع له.

وهى أول نص تجده فى فاتحة الديوان، حسب الترتيب الهجائىّ للنصوص.

وهاتان القصيدتان المطوّلتان تمحضتا، بعد مقدمة مقتضَبة، لموضوع الجهاد، والإصلاح السياسىّ والاجتماعىّ، ووجوب القضاء على ما عُرف منذ قرون، بظاهرة “السيبة”، فى هذه البلاد البرزخية الخالية من السلطان.

فهما إذن من صميم شعره الثورىّ الوطنىّ الإصلاحىّ، وترجمة صادقة لمشروع والده لإقامة كيان جامع يزَع الناس عن الفوضى الغالبة، ويقف أمام جيوش الروم الزاحفة.

ثم انظر إلى قصائده فى الحب والبوْح والشكوى، فكلها ذات موضوع واحد لا تخرج عنه قِيدَ أنمُلة. وأخُصُّ منها:

“ما حلّ عقدة عزمى سحرُ حوراء/ ولا ازدهَى طودَ حلمى برقُ زهراء”…

***

“ما للمحبين من أسر الهوى فاد/ ولا مُقِيدٌ لقتلاهـــــــــــــــــــــــم ولا واد”…

***

“حكَمت عليه وجُرن فى الأحكام/ حَدَقُ المَها وسوالـِــــــــــــــــفُ الآرام”…

وكذلك قصيدته الواوية الفريدة فى بابها، التى تمحضت منذ بيتها الأول للمديح النبوىّ الشريف:

ـ “أهلا بصاحب هذا المولد النبوى/  مقابَلِ الطرَف الأُمّىّ والأبَــــوى” …

وكذا اليائية المطولة البديعة التى تتغنى بجمال أرض آوكار مرابع الشاعر، وتتشبث بهذه الأرض، وتُشيد بما عمَرها به والده من علم وطهارة ونسك وبذل وقِرًى وإصلاحٍ وتفريج كُرَب، وإتحافِ وافدٍ بأرَب:

“على دُورانِ أوْكارَ التحايا /  تَواصَلُ بالغدايا والعشايا…”

ومثلها أرجوزته الشهيرة فى مدح والده، فقد تقيَّدت بموضوعها ـ رغم أنها أنافت على مائة بيت.

وانظرْ إلى داليّة التصوف والسلوك، والضاديّة التى رصَدت برقا تبوّج من فوق هضاب تكانت، فسحّ الغيث العميم، وألقى بَعاعه بمرابع الشاعر، ومغانى صِباه، ثم تاقت مزنه إلى خط النشير ، وهى من روائع الشعر الوصفىّ؛

وإلى اللاَّميّة التى تحدّث فيها عن أخلاقه وطباعه وصفاته،

فهى كلها ذات غرض واحد لا تعدوه؛

ثم إلى قصائد الحنين والغربة التى صاغها الشاعر فى رحلته إلى الساقية الحمراء وما حولها، حيث قضى حولا كاملا فى مهمة صعبة كلفه بها والدُه، فأكثر من التعبير عن شوقه  إلى بلاده ومغانى صباه، وعن الضيق الشديد الذى يشعر به فى تلك الأقاليم التى لم يألفها من قبل.

وجميع هذه المطولات والقصائد ذات النفس المتوسط والمقطوعات مِراَة لنفسية الشاعر وبيئته ومكانته الاجتماعية والدينية والعلمية، وصورة حية لمختلِف أحوال المجتمع من حوله، وللثقافة العالِمة التى انعكست فى طيات الحروف والكلمات، وانغمست فى نسيج النص؛ فكانت بذلك جديرة بالسَّبْر والتحليل.

***

وقد ساعد الشاعرَ على السبق فى مضمار الشعر ما يحمله من علم غزير متعدد الروافد والاختصاصات، وما يتمتع به من قدرات هائلة على التصوير والتعبير، وما يختزنه من محفوظ بدائع الشعر وعيون الأدب، إلى حِسّ مرهَف، وذوق رفيع، وذكاء مفرط، ومعاناة متعددة الجوانب والأسباب، وحضرة تعج بالعلماء والشعراء والأدباء واللغويين تتنافس فى العكوف على تأديبه، بقدر ما تتنافس على النهَل من مَعين والده، إلى مكتبة متنوعة جمعها أبوه أثناء رحلته العلمية التى استغرقت زهاء أربعين سنة، ثم رفدها بخزانة عظيمة من نفائس الكتب، وذخائر التراث، جاء بها من مراكش وفاس منذ قرنين إلا بضعَ سنين.

كما أن عين والده كانت  تسهَر على مراقبة أعماله الشعرية، فتقوّم أوَدها، وتصلح منها، تهذيبا وتشذيبا، إلى أن صُقِلت مواهبُه، وصَلُب عودُه، واسْتدّ ساعدُه.

على أنه جدير بالذكر أن طائفة من شعر الإخوانيات، وبعض المقطوعات الهزْلية لم يكن من المناسب أن يطلع عليها إلا لِداتُه والمعنيّون بها، لأنها لم تكن فى مواضيعها حرِيّة بتصفح الشيخ وانتقاده. كما أنها، فى الجملة، من شعر المراهقة والصبا.

فلم تعْدُ مُحِيط اللِّدِين والندماء.

وكما تعددت أغراض الديوان، فإن فيه تنوعا، على مستوى الشكل، كالنص الذى وضع على بعض أقراء الشعر الحسّانىّ،  وهو ضرب من التجديد فى أعاريض الشعر وقوافيه، وكالمختّمات التى ليست سوى مهارات فنية ولغوية سقط فيها بعض شعراء عصور الانحطاط، فكانت عنوانا على الإفلاس والإجداب.

بيد أن صاحبنا كان يقرض على منوالها دُربة للفكر، وترويضا للقريحة، واختبارا للمُنّة. ليس إلا.

ومن ذلك قصيدة يائية، فيها وشْىٌ طريفٌ من التلاعب بالألفاظ، أولُها:

“يا أيها الراكب الموموقُ هبك لدىّْ /  أخا تقوم يداه لى مَقامَ يــــــــــــــــــــدَىّْ

        أنت الأمينُ على ما ءان مُرسِلــــه/  إلى الأمين الذى دأبِى هواه وديْ  “دنِى” …

***

وقد أخَذ عليه بعض معاصريه مآخذ لغوية، كان  الحق فيها معه، رحمه الله، وإليك تفصيلَها:

 ــــ تثنيته لطرْف العين، فى قوله:

ولم يسحر فؤادى قطُّ طرفٌ  /   سوى طرْفين فيها ساحرين

 قالوا: الطرْف مصدر، والمصدر لا يثنّى ولا يجمع. وقد جاء مفردا فى القرآن، مع إضافته للجمع، كقوله تعلى: (لا يرتد إليهم طرفهم)، وقوله عز  وجل: (وعندهم قاصرات الطرف أتراب)، وقولِه سبحانه: (ينظرون من طرْف خفىّ).

والجواب أن ما قالوه صحيح، فى الجملة، نظرا للأصل، فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، لأن الطرف فى الأصل مصدرُ  طرَفت العين تطرِف من باب ضرب، لكن العرب أطلقت الطرف ـــ توسعا ـــ على العين، وعلى الجفن، وعلى النظر والبصر، فساغ لذلك جمعه وتثنيته ـــ كما ستراه، إن شاء الله تعلى ــــ وبذلك نطقت العرب. 

فقد فات من أنكروا تثنيةَ الطرْف قولُ الطِّرِمّاح بن حكيم الطائىّ:

“ألا أيها الليل الطويل ألا اَصْبِحِ/  ببَمٍّ، وما الإصباح فيك بــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــأروحِ

على أنّ للعينين فى الصبح راحة  /   بِطرْحِهما طرْفيهما  كلَّ مَطـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَحِ”.

وبمّ: موضع بكرمان، من أرض فارس.

انظر: (ديوان الطرماح: 1/ 30، والأغانىّ: 12/43، والصناعتين لأبى هلال العسكرىّ: 1/274، وسمط اللآلى بشرح أمالى القالى لأبى عبيد البكرىّ الأندلسىّ: 1/220)، وخزانة الأدب للبغدادىّ: (2/327 ــ 328)، وغيرَها.

وربما رُوى هذان البيتان فى بعض هذه المصادر وغيرها بروايات متقاربة، ولكنها جميعا متفقة على موضع الاستشهاد. ومن تلك الروايات:

“أَلاَ أَيُّها اللَّيْلُ الطَّوِيلُ، أَلاَ اَصْبِحِ/  بصبح، ومَا الإصْباحُ منكَ بِــــأَرْوَحِ

 بلى إن لِلْعَيْنَينْ فى الليل راحَةً/  بِطَرْحِهِما طَرْفَيْهِما كُلَّ مَطْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَحِ” .

وفى الأغانىّ: “هو الطِّرِمَّاح بن حَكيم بن الحكم بن نفر بن قيس بن جحدر بن ثعلبة…”، ثم ساق نسبه إلى ثُعَل بن عمرو بن الغوث بن طيِّئ، وذكر أنه كان يلقب الطرّاح لقوله: … وأنشد البيتين.

ثم قال: “والطرِمّاح من فحول الشعراء الإسلاميين وفصحائهم، ومنشؤه بالشام، وانتقل إلى الكوفة بعد ذلك مع من وردها من جيوش أهل الشام، واعتقد مذهب الشراة الأزارقة”. اهـ (12/43 ـ 44).

ــــ وفاتهم أيضا قول عمرَ بن أبى ربيعة الشاعر المخزومىّ القرشىّ الغزِل  المعروف:

“ولها عينان فى طرْفَـيْهِما/ حَوَرٌ منها وفى الجِيد غَيَدْ”.

وهو من قطعته الرمَلية المشهورة التى أولها:

ليت هندا أنجزتنا ما تعِد/  وشفت أنفسَنا مما تجِدْ

انظر ديوانه: 146، طبع دار السعادة، مصر، 6من ذى القعدة 1330هـ، أى منذ قرن وثمان سنين  إلا أشهرا.

وانظر: طبعة دار القلم ببيروت،  ص54، وقد اعتمد أصحابها على مخطوطات الديوان فى دار الكتب المصرية، وعلى طبعات الديوان القديمة والحديثة نسبيا. وهى طبعة ليبسك سنة  1909م، والميمنية سنة 1311هـ، و دار السعادة  بمصر1330هـ ، وبيروت سنة 1934م، والنسخة التى حققها العلامة محمد محيى الدين عبد الحميد سنة 1960م.

وانظر طبعة دار الكتاب العربىّ، بيروت 1416هـ ـ 1996م/ط2 /  تحقيق الدكتور فايز محمد ــ (ص 106 ).

فالبيت موضعُ الاستشهاد موجود فى الطبعات الثلاث المحال إليها هنا بالصفحة والجزء.

ولا تغفلْ عن اعتماد دار القلم على الأصول الموثوق بها، المذكورة أعلاه، مخطوطِها ومطبوعها.

وقد وُلد عمر بن أبى ربيعة ليلة الأربعاء لأربع بقين من ذى الحجة سنة 23ه، وهى الليلة التى توفى فيها عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فسُمّى به.

 ــــ وفاتهم أيضا ما أنشده الزمخشرىّ فى معجمه اللغوىّ الموسوم بأساس البلاغة فى (مادة برِم):

” يُخبِّرُ طرْفانا بما فى قلوبنا/  إذا برِمَت بالمنطِق الشفَتانِ”.

وقد نسب الزمخشرىّ نفسُه هذا البيت إلى المخبل القيسىّ، فى كتابه: ربيع الأبرار ونصوص الأخيار: (2/141).

نعم. أورده برواية مختلفة قليلا عما هنا:

(يبيّن طرْفانا الذى فى نفسونا/ إذا استعجَمت بالمنطق الشفتان).

ولكن موضع الاستشهاد من البيت بقى كما هو، لم يغيره اختلاف الروايتين، كما ترى. وذلك هو المطلوب.

والمخبل القيسىّ هذا هو كعب بن مالك؛ ويقال: هو كعب بن عبد الله، من بنى لأى ابن شمّاس بن أنف الناقة، من أهل الحجاز؛ انظر الأغانىّ: (20/281 ـــ 285)، ومصارع العشاق، لابن السراج البغدادىّ: (2/140)، والتذكرة الحمدونية، لبهاء الدين أبى المعالى محممد بن الحسن ابن حمدون البغدادىّ : (6/154)، وتاريخ دمشق لابن عساكر: (50/133 ـــ 139).

وفى هذا الأخير: “كعب بن عبد الله، ويقال: ابن مالك القيسىّ المعروف بالمخبّل،  شاعر  من أهل الحجاز  مشهورٌ، وقع  إلى الشام…”. (50/133).

ثم أورد قصته، وشعره المذكور، وضِمْنَه البيتُ موضعُ الاستشهاد. ثم قال فى آخر ترجمته: “وقيل إن بعض هذا الشعر لابن الدمينة الخثعمىّ”.

وعزا الخالديان فى حماستهما البيت أيضا لابن الدمينة الخثعمىّ، وهذه الحماسة موضوعة لأشعار المتقدمين والجاهليين والمخضرمين.

والبيت فيها مع بيتين آخرين، ويحسن إيرادهما فى هذا المقام:

“أيا كبِدَيْنا أجْمِلا قد وَجدتُما … بأهلِ الحِمَى ما لم تجدْ كبِدانِ

إذا كـــــــــــــــــــــــــبِدانا خافَتا صرفَ نيَّةٍ … وعاجلَ بينٍ ظلَّتا تجِبــــــــــــــــانِ

يخبِّرُ طَرفانا بما فى قلوبنــــــــــا/  إذا استَعجمتْ بالمنطقِ الشَّفتانِ”.

 

وانظر كتاب الأغانىّ، ففيه قصة المخبل القيسىّ بتفاصيلها، وقطعته الشعرية كاملة، ومنها البيت المستشهد به  هنا، إلا أن أبا الفرَج ذكر أيضا أن المفضل بن سلمة، وأبا طالب بنَ

أبى طاهر يرويانها لابن الدمينة. (20/284). وهو موافق لما فى كتاب الخالديين.

وسبب الاختلاف فى النسبة هو أن لكل من الشاعريْن قصيدة توافق الأخرى فى البحر والروىّ والغرض، فحدَث بين بعض أبياتهما تداخل عند الرواة؛

وربما تداخلت بعض أبيات هاتين القصيدتين أيضا مع ثالثة مشهورة لعروة بن حزام.

 وهو أمر عادىّ، كثير الوقوع، وخصوصا فى أشعار الغزل والغرام لذلك العهد؛ يعرف ذلك جيدًا أهل الاختصاص.

وابن الدمينة شاعر أموىّ مشهور رقيق الشعر، عذب الألفاظ، وأكثر شعره فى الحب والشكوى. وقد قتِل غِيلة بعد 130هـ، وهو عائد من الحج، بتبالة، قرب بِيشة.

والدمينة أمه، وهى  بنت حذيفة السلولية، واسم ابن الدمينة: عبد الله بن عبيد الله أحد

بنى عامر بن تيم الله بن مبشر، ينتهى  نسبه إلى خثعم بن أنمار ابن إراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك.

 وقيل إنه من ربيعة بن نزار… “. انظر الأغانىّ، وقد ذكر  طرَفا من حياته وأخباره: (15/ 144).

وفى حاشيةالبغدادىّ على شرح ابن هشام لقصيدة (بانت سعاد): “عبد الله ابن الدمينة شاعر إسلامىّ، له غزل رقيق، كان الناس فى الصدر الأول يُغنّون به، ويستحْلون شعره”. اهـ (1/155).

وبما أنه من عصور الاحتجاح ــــ بداهة ــــ كالمذكورِين قبله ـــ فقد استشهد النحاة واللغويون بشعره، كما فى: سرّ صناعة الإعراب لابن جنّى، والإنصاف فى مسائل الخلاف لأبى البركات الأنبارىّ، وشرح الكافية الشافية لابن مالك، وأوضح المسالك لابن هشام، وتهذيب الأزهرىّ، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس، وغريب الحديث للخطابىّ، والمحكم والمحيط الأعظم لابن سيدَهْ، والصحاح للجوهرىّ، والزاهر لأبى بكر الأنبارىّ، والأساس، والفائق، وهما معا للزمخشرىّ، ولسان العرب لابن منظور، وتاج العروس للزَّبِيدىّ… وغيرها من دواوين العربية المشهورة.

وبغض النظر عن كون هذا البيت للمخبل القيسىّ، أو لابن الدمينة، فالمقطوع به أنه شاهد معتدّ به إجماعا عند أهل اللسان قاطبة؛ فكونه لهذا أو لذاك لا يغير من واقع الأمر شيئا.

وبعد، فالخلاف فى الطرْف ــــ هل يثنى ويجمع أو لا؟ ــــ خلاف لغوىّ قديم، فممن ذهب إلى جمعه ابن قتيبة فى غريب الحديث، وحكاه أبو البقاء العكبرىّ فى كتابه: (إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات فى جميع القرآن)،

وقال مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادىّ،فى القاموس:  “الطرف: العين، لا يجمع لأنه فى الأصل مصدر، أو اسم جامع للبصر، لا يثنى ولا يجمع، وقيل أطراف”. (طرف).

وذهب إلى جواز جمعه وتثنيته بعض العلماء المتأخرين أيضا، كما سيأتى إن شاء الله تعلى.  

وممن ذهب إلى المنع الأزهرىّ والزمخشرىّ، ونسبه هذا الأخيرُ  إلى الخليل.

فقد روى ابن قتيبة فى الكتاب المذكور قول أم سلمة رضى الله عنها: “حُمَاديَات النساء غضُّ الأَطراف، وخفَرُ الأعراض”.

قال: “قَوْلها: حماديات النِّسَاء: هُوَ جمع حُمادَى. يُقَال: قصاراك أن تفعل ذَاك، وحماداك؛ كَأَنَّك تَقول: جهدك وغايتك.  غض الْأَطْرَاف يَعْنِى: جمع طرْف الْعين.

وخفر الإعراض: الخفر: الْحيَاء. والإعراض هُوَ: أَن يُعرِضن عَن كل مَا كُره لَهُنَّ أَن ينظرن إليه. أَى: لَا يلتفتن نَحوه، من قَوْلك: أَعرَضت عَن فلَان، فَأَنا عَنهُ معرض: إذا لم ألتفت إليه.

وإن كَانَت الرِّوَايَة: الْأَعْرَاض ـ بِفَتْح الْهمزَة ـ فإنه جمع عِرْض، وَهُوَ الْجَسَد”. اهـ (2/490).

فاعترض الزمخشرىّ زاعما أنه  لم يرد به سماع، وأنه كذلك قال الخليل.

فقد قال فى الفائق:

“غض الْأَطْرَاف: أوردهُ القتيبىّ هَكَذَا، وَفسّر الْأَطْرَاف بِجمع طرف، وَهُوَ الْعين. وَيدْفَع ذَلِك أَمْرَانِ: أَحدهمَا: أَن الْأَطْرَاف فِى جمع طرْف لم يرد بِهِ سَماع. بل ورد بردِّه، وَهُوَ قَول الْخَلِيل أَيْضا أَن الطّرف لَا يثني وَلَا يجمع، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مصدر طرَف: إِذا حرَّك جفونه فِى النّظر.

وَالثَّانِى: أَنه غير مُطَابق لخفر الْأَعْرَاض. وَلَا أكاد أَشك أَنه تَصْحِيف. وَالصَّوَاب: غض الإطراق وخفر الْأَعْرَاض. وَالْمعْنَى أَن يغضضن من أبصارهن مطرِقات أَى راميات بأبصارهن إِلَى الأَرْض، ويتخفَّرْن من السوء معرضاتٍ عَنهُ”. (2/170).

وممن نص قبله على المنع الأزهرىّ أيضا. لكن ينبغى أن يقال إنهما غفلا عن هذه الشواهد الشعرية فى تثنية الطرف، لأنه يبعد عدم اطلاعهما عليها، ولا سيّما الزمخشرىّ الذى أورد أحدها، فهو وإن ادعى أن لفظة الأطراف (جمع طرْف)، تصَحفَتْ عن الإطراق، فإنه أورد شاهدا شعريا لتثنية الطرف فى كتابين من أهم كتبه اللغوية والأدبية، دون تعقُّب أو اعتراض!

وأما الأزهرىّ، فقد رواه: “غض الطرْف”، بالإفراد، وهذا مما قد يعتذر به عنه، بخصوص هذا الشاهد. لكن من العجيب أن تكون كل تلك الشواهد الشعرية قد عزَبت عن حفظه وعلمه؟! وسبحان من لا يغفُل ولا ينسى.

ولعل الذين جاءوا مِن بعدهما، ووافقوهما فى هذا القول، إنما قلدوهما. ومن أبرزهم ابنُ الأثير الذى نقل كلام الزمخشرىّ، وابنُ منظور الذى جعل تهذيبَ الأزهرىّ ونهايةَ ابن الأثير من بين أهم مصادره الخمسة التى بنَى عليها معجمه الكبير لسانَ العرب، كما هو معلوم. والثلاثة الباقية هى: الصحاح وحواشيه، والجمهرة، والمحكم.

وأيضا مما يعكر  على إضافة الغض  للإطراق ـــ بالقاف ـــ  أمور:

أحدها: أن مادة الغض تضاف ـــ غالبا ــــ إلى الطرْف، بالفاء.

ومنه قول جرير:

فغض الطرف إنك من نمير /   فلا كعبا بلغت ولا كلابا

وقول كعب بن زهير:

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا /  إلا أغن غضيض الطرف مكحول

إلخ… وهو كثير جدا.

ويشهد له ما فى التنزيل من أمر الرجال والنساء بغض الأبصار، فى سورة النور.

وقد تضاف إلى الصوت أيضا، كما فى قوله تعلى: (واغضض من صوتك). وربما وقعت الإضافة إلى غير ما ذُكر  مجازا.

ثانيها: أن فى إضافة الغض إلى الإطراق إضافة الشىء إلى لازمه، وهو  قريب من تحصيل الحاصل.

ثالثها: استبعاد التصحيف، فهو مجرد دعوى.

رابعا: أن حكاية العكبرىّ لورود الطرف مجموعا تعزز رواية ابن قتيبة، فيبعد احتمال التصحيف باتفاقهما.

خامسا: أن المثبِت مقدم على النافى. وعدم العلم ليس علما بالعدم.

سادسا: أن الزمخشرىّ الذى أنكر تثنية الطرْف وجمْعَه فى كتابه: (الفائق) هو نفسُه الذى أنشد، فى معجمه: أساس البلاغة، وفى كتابه: ربيع الأبرار ـــ قول المخبل القيسىّ:

يخبّر طرْفانا بما فى قلوبنا/  إذا برِمت بالمنطق الشفتان!

ولم يتعرض له بنقد أو تخطئة، كما تقدم. وفى هذا حجة عليه.

سابعا: أن الأثر المذكور ـــ وإن تطرق إليه احتمال الضعف ــــ وذلك ما لا نستبعده مبدئيا ـــــ لم يتعرض له أحد من المذكورين من هذه الحيثية، بل ذهبوا إما  إلى دعوى التصحيف، أو إلى التأويل.

وقول العكبرىّ إن الطرف ورد مجموعا يحتمل أن مراده ما أورده ابن قتيبة، ويحتمل أنه يقصد نصا آخر لم نطلع عليه. والله أعلم.

وممن سلك مسلك التأويل فى هذا الأثر العلامة أبو الفتح ضياء الدين ابن الأثير، فقد ذكر  فى كتابه (النهاية فى غريب الحديث والأثر) ـــــ ووافقه آخرون ــــــ أن المراد بالأطراف: الأيدى والأرجل، فهى على هذا جمع طرَف بفتح الراء، لا بسكونها. فيختلف اللفظ والمعنى، ويصبح المراد ــــــ على هذا ـــــ  : لزوم البيوت.

قال فى النهاية: “وَفِى حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: قَالَتْ لِعَائِشَةَ: حُمَادَياتُ النِّسَاءِ غَضُّ الأَطْرَاف، أرادَت قَبْضَ الْيَدِ والرِّجل عَنِ الحَرَكَة والَّسير. يَعْنِى تَسْكين الأَطْرَاف، وَهِىَ الأعْضَاء”. (3/120).

ولكن إضافة الغض إلى هذه الأعضاء ليست مشهورة، على أقل تقدير. ثم إن الكلام فى الطرْف، بسكون الفاء، لا بفتحها، لاختلاف المعنيين، ولو كان المعنى فى هذا الأثر على ما ادعاه ابن الأثير لما ذهب الزمخشرىّ إلى ما ذهب إليه من ادعاء التصحيف، ونفى السماع، إنكارا لجمع طرْف العين. ولما احتاج إلى كل ما قاله، ولما روى الأزهرىّ اللفظ بالإفراد، ولماَ خفى على ابن قتيبة، حتى قال إنه جمع لطرْف العين الذى يُحمد غضه عادة. فاعرفه.

لكن لعل ما دعا ابنَ الأثير ومن نحا نحوه إلى هذه التأويلات، هو تقليد من قال إن الطرْف لا  يثنى، ولا يجمع. والله أعلم.

وقال العكبرىّ: (لا يرتد إليهم “طرفهم: مصدر فى الأصل بمعنى الفاعل، لأنه يقال: ماطرفت عينه، ولم يبق عين تطرف، وقد جاء مجموعا“. (2/70ـــــ دار الكتب العلمية، 1399ه).

وقال الإمام محمد بن جرير الطبرىّ فى تفسيره:

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ)  فَوَحَّدَ، وَقَالَ: (وَأَبْصَارِهِمْ)  فَجَمَعَ؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْخَبَرَ فِى السَّمْعِ خَبَرٌ عَنْ سَمْعِ جَمَاعَةٍ، كَمَا الْخَبَرُ فِى الْأَبْصَارِ خَبَرٌ عَنْ أَبْصَارِ جَمَاعَةٍ؟

قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّى الْكُوفَةِ: وَحَّدَ السَّمْعَ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ الْمَصْدَرَ، وَقَصَدَ بِهِ الْخَرْقَ، وَجَمَعَ الْأَبْصَارَ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ الْأَعْيُنَ.

وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّى الْبَصْرَةِ يَزْعُمُ أَنَّ السَّمْعَ وَإِنْ كَانَ فِى لَفْظٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى جَمَاعَةٍ، وَيَحْتَجُّ فِى ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ: (لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ): يُرِيدُ لَا تَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ أَطْرَافُهُمْ، وَبِقَوْلِهِ: (وَيُوَلُّونَ الدُّبُر) يُرَادُ بِهِ أَدْبَارَهُمْ. وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ عِنْدِى لِأَنَّ فِى الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْجَمْعُ، فَكَانَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ، وَأَدَاءُ مَعْنَى الْوَاحِدِ مِنَ السَّمْعِ عَنْ مَعْنَى جَمَاعَةٍ مُغْنِيًا عَنْ جَمَاعَةٍ، وَلَوْ فَعَلَ بِالْبَصَرِ نَظِيرَ الَّذِى فَعَلَ بِالسَّمْعِ، أَوْ فَعَلَ بِالسَّمْعِ نَظِيرَ الَّذِي فَعَلَ بِالْأَبْصَارِ مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّوْحِيدِ، كَانَ فَصِيحًا صَحِيحًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ؛ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا … فَإِنَّ زَمَانَنَا زَمَنٌ خَمِيصُ

فَوَحَّدَ الْبَطْنَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْبُطُونُ لِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْعِلَّة”.اهـ (1/382، دار هجر، 1422ه).

ويفهم من كلامه هذا جواز جمع الطرف قياسا على السمع، بل وجدناه فى هذا النص جمع الطرف على أطراف. وعلى هذا لا يبعد الزعم بأنه كان يراه صراحة. والله أعلم.

وقد لخص الشيخ محمد مرتضى الزَّبِيدىّ فى تاج العروس شرحِ القاموس، أقوال اللغويين فى هذه المسألة، فنذكر طرفا منها، قال رحمه الله تعلى:

الطَّرْفُ: العَيْنُ، لَا يُجْمَعُ لأَنَّه ـــ فِى الأَصلِ ـــ مَصْدَرٌ، فيكونُ واحِداً، وبكون الأَصلِ مَصْدَرا فيكونُ واحِداً، ويكونُ جمَاعَة، قَالَ الله تَعَلَى: (لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهمُ طَرْفُهُم)، كَمَا فِى الصِّحاح.

 أَو هُوَ: اسمٌ جامِعٌ للبَصَرِ، قَالَه ابنُ عَبَّادٍ، وَزَاد الزَّمَخْشَرِىُّ: لَا يُثَنَّى، وَلَا يُجْمَعُ، لأَنَّه مصدَرٌ، وَلَو جُمِعَ لم يُسْمَعْ فِى جَمْعِهِ أَطْراف.

 وقالَ شيخُنا عندَ قولِه: (لَا يُجْمَع): قلتُ: ظاهِرُه، بلْ صَرِيحُه أَنَّهُ لَا يَجُوزُ جَمْعُه، ولَيْسَ كَذَلِك، بل مُرادُهم: أَنَّه لَا يُجْمَعُ وُجوباً، كَمَا فِى حاشيةِ البَغْدادِىِّ على شرح بانَتْ سُعاد. وَبعد خُرُوجه عَن المَصْدَرِيَّةِ، وصَيْرُورَتِه اسْما من الأَسْماءِ، لَا يُعْتَبَرُ حُكْمُ المَصْدَرِيَّةِ، ولاسِيَّما وَلم يقْصِدْ بِهِ الوَصْف، بل جَعَله اسْماً، كَمَا هُوَ ظاهِرٌ …”. اهـ  كلامه: (طرف).

قلت:  وقد لخص الشيخ كلام البغدادىّ تلخيصا شديدا، وسننقل منه ما يتعلق بموضع النزاع فى هذا المقام، حتى تتضح الصورة أكثر.

قال العلامة عبد القادر  بن عمر البغدادىّ فى حاشيته على شرح (بانت سعاد) لابن هشام عند قوله عن الطرف وأصل مصدريته: (ولهذا لا يجمع):  ما لفظه:

“ظاهره. لا يجوز جمعه، وليس كذلك، بل المراد لا يجمع وجوبا. بل يجوز إفراده وتثنيته وجمعه عند إطلاقه على أكثر من الواحد.

وقال الرضىّ، فى آخر باب الجمع من شرح الكافية: ” وأما الوصف الذى كان فى الأصل مصدرا نحو: صوم، وغَور، فيجوز أن يعتبر الأصل، فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث. قال تعلى: (حديثُ ضيف إبراهيم المكرَمين)، وقال: (نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب).

ويجوز اعتبار  الحال المنتقَل إليها، فيثنى ويجمع، فيقال: رجلان عدلان، ورجال عدول”. اهـ موضع الاستشهاد من كلامه.  (1/386 ـــ 387، ط: الألمانية، 1400ه ـــ 1980م).

وهو  صريح فى جواز تثنية طرف العين وجمعه.

لكنه قال رحمه الله تعلى: “فإن قلتَ: هل جاء جمع الطرف أو تثنيتُه؟

قلت: لم ينقل ذلك أحد، ولكن جائز، كما فى نظائره: ضيوفٍ، وعدول”. اهـ  (1/387).

فهو يجيزه قياسا، وينكره سماعا. لكنه رحمه الله غلط فى ذلك، لما قدمنا من الشواهد الصحيحة الصريحة من تكلم العرب به. ولعله اغترّ بإنكار الزمخشرىّ، فقلده دون بحث ــــ على خلاف عادته فى التحرير والتحقيق. وقد سبق أن الزمخشرىّ نفسه محجوج فى نفى السماع بالشاهد الذى أورده فى معجمه.

ومن العجيب أيضا أن البغدادىّ الذى لا يفتأ يتحفنا، من خلال خزانته ـــــ وهى من أعظم الموسوعات النحوية والأدبية ــــ بالأشعار والأخبار والطرائف والشواهد والأنساب والتحقيقات اللغوية والعلمية المختلفة، وينقل من الأغانىّ وغيرها من موسوعات الأدب القديمة، وكذلك يفعل فى أحسن كتبه على الإطلاق ـــ حاشيةِ شرح بانت سعاد ــــ قد غفل عن هذه الشواهد المشهورة المبثوثة فى الدواوين وبعض المعاجم وكتب الأدب والأخبار!

وقد رأيت له رحمه الله ــــ على تبحره وموسوعيته، وغزارة مصادره ـــــ  ما عجبت منه أشد العجب، وهو قوله عن كلمة مشهورة فى ديوان الشماخ بن ضرار الغطفانىّ رضى الله عنه: “والحديق لم يفسره شارح ديوانه، ولم أعرف ما المراد منه”!  (2/386).

وذلك فى قول الشماخ:

كأنى كسوت الرحل أحقبَ سَهْوَقا/  أطاع له فى رامَتيْنِ حديقُ

قلت: والحديق إما جمع حديقة، كسفينة وسفين، وإما فعيل بمعنى فاعل من قولهم: حَدَقوا به: إذا أطافوا به.  ومثله: أحدقوا، واحدَوْدقُوا،  فيكون الحديق ــــ على هذا ــــ ما أحدق بالموضع المذكور من المراعى والبساتين. ومنه: الحديقة، وهى: الروضة ذات الشجر، أو البستانُ من النخل والشجر،  أو كل ما أحاط به البناء، أو القطعة من النخل. كما فى القاموس.

وتجمع على حدائق، ومنه قوله تعلى: (فأنبتنا به حدائق ذات بهجة)، وقولُه سبحانه: (وحدائقَ غُلبا).

وفى معلقة عنترة بن شداد:

جادت عليها كل عين ثرة/        فتركن كل حديقة كالدرهم

فقول الشماخ: أطاع له من رامتين حديق:  معناه اتسع له من هذا الموضع المرعى المحدِق، وأمكنه أن يرعاه، ويرتعَ فيه.

ففى تهذيب اللغة للأزهرىّ: “عَن ابْن السّكيت: يُقَال: قد أطَاع لَهُ المَرْتع إِذا اتّسع لَهُ المرتع، وَأمكنهُ من الرّعْى. وَقد يُقَال فِى هَذَا الْموضع: طَاع…”.اهـ (طوع).

قلت: ومنه  قول النابغة الذبيانىّ:

كَأَنَّما الرَّحْلُ مِنْهَا فَوْقَ ذِى جُدَدٍ/   ذَبِّ الرِّيادِ إلى الأشْباحِ نَظَّــــــــــــــــارِ

مُطَرَّد أُفرِدَتْ عَنْهُ حَلاَئِلُـــــــهُ/       مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ أَوْ مِنْ وَحْشِ ذى قارِ

مُجَرَّس وَحَد جأْب أَطاعَ لَهُ/         نَباتُ غَيْثٍ مِنَ الوَسْمىِّ مِبْكَــــــــــــــارِ

وقول ربيعة بن مقروم:

كأَنَّ الرَّحْلَ منهُ فَوْق جَأْبٍ/ أَطَاعَ لهُ بِمَعْقُلَةَ التلاَعُ

ونحوه قول زهير:

كأنّ الرحل منها فوق صَعْل/  من الظلمان جُؤجُؤُه هواء

أسكّ مصَلّم الأذُنين أجْنَى/  له بالسِّىّ تَنــُّــــــــــــــــــــــــــــومٌ وآء

فقد خفى على البغدادىّ، رحمه الله تعلى، المراد من الحديق مع شدة وضوحها! وقد اعترف بذلك. ولا ينقص ذلك من علمه وفضله، بل هو أعظم دليل على أمانته وبعده عن التكلف. وقد رأيت فى أشعار المفضليات والأصمعيات كلمات كثيرة لا تجدها فى المعاجم، وكثيرا ما ينص محققو المدونتين  على ذلك.

***

وهنالك منزع آخر: وهو أن الطرف ــــ وإن كان فى الأصل مصدرا، بمعنى تحريك الأجفان، أو إطباق الجفن على الآخر ـــ بعبارة الجوهرىّ ـــــ  فإن العرب أطلقته أيضا على الجفن نفسه، وعلى البصر، وعلى العين، وعلى النظر، كما فى المعاجم اللغوية. بل قال بعض اللغويين، بعد ذكرهم لبعض هذه المعانى: هو “اسم جامع للبصر”، وسياقات كلام العرب هى التى تحدد المراد.

ففى لسان العرب:

الطَّرْفُ: طرْفُ الْعَيْنِ. والطَّرْفُ: إطْباقُ الجَفْنِ عَلَى الجفْن. ابْنُ سِيدَهْ: طَرَفَ يَطْرِفُ طَرْفاً: لَحَظَ، وَقِيلَ: حَرَّكَ شُفْره، ونَظَرَ. والطَّرْفُ: تَحْرِيكُ الجُفُون فِي النَّظَرِ. يُقَالُ: شَخَصَ بصرُه فَمَا يَطْرِفُ. وطَرَفَ البصرُ نفسُه يَطْرِفُ، وطَرَفَه يَطرِفُه وطَرَّفَه كِلَاهُمَا إِذَا أَصاب طرْفَه، وَالِاسْمُ الطُّرْفَةُ. وَعَيْنٌ طَرِيفٌ: مَطْروفة. التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ: الطَّرْفُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْبَصَر…” (طرف).

وفى تفسير الطبرىّ: “وَقَوْلُهُ: (لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ)، يَقُولُ: لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ  ـــ لشِدَّةِ النَّظَرِ ـــ أَبْصَارُهُمْ” (13/710)، ففسر الطرف بالبصر.

ونحوه فى كثير من التفاسير.

وفى تفسير الماوردىّ، عند هذا الموضع:

“والطرف: هو النظر، وسميت العَيْن طرْفاً لأنه بها يكون , قال جميل:

وأَقْصرُ طَرْفى دُون جُمْل كرامةً … لجُمْلٍ وللطرْفِ الذى أنا قاصِره”. (3/141).

فأطلق الطرف على النظر.

وفى تفسير القرطبىّ عند هذه الآية أيضا:

وَالطَّرْفُ الْعَيْنُ. قَالَ عَنْتَرَةُ:

وَأَغُضُّ طَرْفِى مَا بَدَتْ لِى جَارَتِي حَتَّى يُوَارِىَ جَارَتِى مَأْوَاهَا”.

فأطلقه على العين.

وفسر أبو حيان فى البحر المحيط الطرف فى هذا الموضع أيضا بالعين، وأنشد بيت عنترة  هذا، ثم قال:

“ويقال: طرَف الرجلُ أطبق جفنه على الآخر ، وسُمّى الجفن طرْفاً لأنه يكون فيه ذلك”. (5/419).

وقال تلميذه العلامة السمين الحلبىّ، فى عمدة الحفاظ فى تفسير أشرف الألفاظ:

“قوله تعلى: (قبل أن يرتدّ إليك طرفك): أى قبل أن يرتدّ إليك جفنك عند فتح عينك، يقال: طرَف يطرف: إذا فعل ذلك…” إلى أن قال: “والطرف: الجفن، وهو أيضا تحريك الجفن للنظر، إذ كان تحريك الجفن يلازمه الطرف”. اهـ (2/393).

وذكر أبو السعود فى تفسيره من معانى الطرف أنه يطلق على: “نفس الجفن”. (5/55).

وفى فتح القدير للشوكانىّ، عند آية النمل: “وقيل هو نفس الجفن“. (4/139).

 

ولا أحد يفهم من قولهم: “طرف كحيل”: كحيل تحريك العينين، أو  من قولهم: “غضيض الطرف”: غضيض تحريكهما،  أو  “فى طرفها حور”:  فى تحريكهما حور. فالمصدر الدال على الحدث قد تنوسى فى هذا الإطلاقات، وتمحض الاستعمال فيها، وفيما يشابهها، للجفن.

وانظر إلى كراع النمل على بن الحسن الهُنائىّ الأزدىّ المتوفى سنة 310ه، حيث قال فى مُنَجَّدِه ـــ وهو أول معجم شامل فى المشترك اللفظىّ ـــ : “والغَضِيض الطَّرْفِ: المُسْتَرْخِي الأجفان”. (277).

ومِن تمحُّلِ بعض من قلد الزمخشرىّ أن قالوا فى تفسير قوله تعلى: (لا يرتد إليهم طرفهم): لا يرتد إليهم تحريك أبصارهم. وعبارة الزمخشرىّ: “لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم، أى: لا يطرفون، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان”.

وهذا الذى قاله ــ وإن كان هو أصل الاستعمال ــ فالتكلف فيه واضح.

لكنه حكى أيضا وجها آخر فسّر فيه الطرْف بالنظر، فقال: “أوْ: لا يرجع إليهم نظرهم…”اهـ (2/528).

وإذا كانت العرب قد أطلقت الطرف على الجفن اتساعا، وصار الطرف فى كثير من كلامهم مرادا به الجفن نفسه، أو العين، أو البصر ــــ كما رأيت ــــ فلا ينبغى الجمود على تلك الكلمة التى قالها الأزهرىّ، ورددها من بعده لغويون ومفسرون ـــــ تقليدا ــــ  أعنى منع جمعه  وتثنيته مراعاة لأصل المصدرية. وإلا فيلزم إنكار جميع ما كان هكذا، وطرد القاعدة فى الباب كله.

فإن قال قائل: ما قبلنا جمعه وتثنيته ورد به سماع. قلنا: فكذلك هاهنا أيضا، ولا فرق.

وبالله التوفيق.

وصفوة القول: أن الطرف ثبتت تثنيته عن ثلاثة من شعراء العرب. وإذا ورد الدليل الصحيح من كلامهم، فهو الفيصل عند النزاع، فى هذا الباب؛

وأنه ورد مجموعا فى كلام بعض السلف أيضا؛ على ما جاء فى الأثر المذكور أعلاه؛

 وأنه قد ذهب إلى جواز جمعه وتثنيته من علماء العربية: الإمام الجليل أبو محمد عبد الله ابن مسلم بن قتيبة الدِّينَوَرىّ، النحوىّ اللغوىّ الكاتب، المتوفى سنة 276ه، وحكى العلامة النحوىّ أبو البقاء العكبرىّ أنه ورد مجموعا، وكذا صاحب القاموس، وأجاز جمعه وتثنيته العلامة النحوىّ المحقق الأديب الكبير عبد القادر بن عمر البغدادىّ، فى حاشيته على شرح ابن هشام لقصيدة بانت سعاد، والإِمَام اللغوىّ أبو عبد الله مُحَمَّد بن الطّيِّب بن مُحَمَّد الفاسىّ، شيخ الزَّبِيدىّ صاحب تاج العروس؛ وهو ظاهر مذهب الزَّبِيدىّ نفسه؛ وقد وجدناه مجموعا فى كلام الإمام الطبرىّ، ولم نجد من تعقبه؛

وأن الزمخشرىّ  محجوج بما أورده فى أساسه وربيعه، فضلا عن الشواهد الأخرى؛

وأن الأزهرىّ، مِن قبله، ربما يكون قد ذهب إلى ما ذهب إليه ذهولا عن هذه الشواهد ــــ  فيما نرى ــــ ، وأن أكثر  القائلين بقوله، ممن جاءوا بعده، إنما جروا على تقليده، أو تقليد الزمخشرىّ، فى ذلك.

فصح يقينا بكل ما ذكرناه جواز تثنية الطرف وجمعه فى كلام العرب. وهو المطلوب. 

ومن المعلوم ــــ ضرورة ـــ أن الشعراء الثلاثة الذين استشهدنا بكلامهم على تثنية الطرف، يرجعون جميعا إلى عصور الاحتجاج، فيُستشهد بشعرهم فى جميع الأبواب، إذ كان آخرَ من يحتج بكلامه من الشعراء ــــ فى قول الأصمعىّ وغيره ـــ هو إبراهيمُ بن هَرْمة القرشىّ الذى شهد الدولتين الأموية والعباسية.  وبالله التوفيق.

***

ــــ ومنها أن بعضهم استشكل استعمالَه لفظة “الروابع”، قالوا: لم نجدها فى القاموس!

والجواب أنه ليس كل مقيس منصوصا عليه فى المعاجم، ولو فعل مؤلفوها لأوشك أن تضيق بها السبع الطباق، ولبطل التصريف والاشتقاق. فالروابع: جمع رابعة، وهى المرأة المقيمة بالربع، أى الدار. ورابعة وِزان فاعلة، وجمع فاعلة قياسا مطردا فواعلُ صفةً كانت، أو اسما علَما، أو غيرَ علَم، كفواطمَ وعواتكَ، وضواربَ، وفواتحَ، وعواقبَ، ولو لم تلحقها التاء كطالق، كما نص عليه علماء اللغة والنحو والتصريف…

وقد اضطره حال هؤلاء المعترضين إلى أن يذكر ذلك فى مقطوعة شعرية، شرح فيها المسألة، كما ضمّنها رسالة موجزة لا تخلو من طرافة.

وقد جلب فيها أقوال طائفة من علماء العربية على اطّراد هذا الجمع، فنقل كلام ابن مالك فى التسهيل والكافية والخلاصة، والدمامينىّ على التسهيل، والمرادىّ على الألفية، وكلام ابن هشام وغيرهم من النحاة.

***

 ــــ ومنها: أنه جمع حَرْفا ـــ لطرَف الجبل، تشبيها للناقة الضامرة الصُّلبة به ـــ على حِرَف، بكسر الحاء، وفتح الراء؛ وذلك فى قوله:

(يا مُعْمِلين  قِلاصا حاكت  الحِرَفا /  سارت وصارت لها أنواعُه حِرَفا)

والجواب أنه جمع نادر، لكنه منصوص فى العباب، والقاموس المحيط، وتاج العروس، وقد نقله الفراء قديما، ولا نظير له فى اللغة، إلا طِلَلٌ فى جمع طَلّ.

وقد دافع الشاعر عن هذا الجمع فى فائيته التى خاطب بها محمدّ ابنَ مُحَمْدِى الشاعرَ العلوىّ الخنذيذ الذى استشكل هذا الاستعمال، ولم ينكره، لكن نقل بعض الوشاة إلى الشاعر أنه نسبه فيه إلى اللحن.

قال فى القاموس المحيط: “الحَرْفُ من كلِّ شىءٍ: طَرَفُهُ، وشَفيرُهُ وحَدُّهُ،

ومن الجَبَلِ: أَعْلاهُ المُحَدَّدُ، ج: كعِنَبٍ، ولا نظيرَ له سِوَى طَلٍّ وطِلَلٍ”. (حرف).

وقال الإمام الشيخ مرتضى الزَّبِيدىّ، فى تاج العروس، عند هذا الموضع: “قَالَ الفَرَّاءُ: ج حَرْفِ الجَبَلِ: حِرَفٌ، كعِنَبٍ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ سِوَى طَلٍّ وطِلَلٍ، قَالَ: وَلم يُسْمَعٍ غَيْرُهما، كَمَا فِى العُبَابِ، قَالَ شيخُنا: أَى: وإِن كَانَ الحَرْفُ غيرَ  مُضَاعَفٍ”. اهـ (حرف).

وإلى هذا الإشارةُ بقول صاحب الديوان مدافعا:

“حرْفُ  الكُدَى  لا سِواه جمعُه حِرفٌ /  وِزانُه عِنبٌ، والجمع قد عُرفا

ثانيه طَلٌّ، ولم يُجمع على فِعَل /   فَعْلٌ سِوى  ذَين  قد كانا به اتصفـــا”.

فكلام الشاعر واللغويين صريحٌ فى أن هذا الجمع خاص بالحرْف الذى هو أعلى الجبل، أو طرَفُه، أو ما نتأ فى جنبه كهيئة الدكان الصغير أو نحوه، حسب عبارات علماء اللغة فى تفسير المراد بحرف الجبل الذى تُشبّه به الناقة الضامرة الصلبة  ــ عادة ــ فى أشعار العرب، واشتهر ذلك هذا الإطلاق وكثر على ألسنتهم حتى صار إطلاقه على طرَف الجبل مما لا يكاد يعرفه ــ  فى الغالب ــ  إلا اللغويون.

قال الجوهرىّ فى صحاحه:

حرف كل شئ: طرفه وشَفيرُهُ وحَدُّهُ. ومنه: حَرْفُ الجبل، وهو أعلاه المُحَدَّدُ…والحَرْفُ: الناقةُ الضامرة الصلبة، شبهت بحرف الجبل. قال الشاعر:

جُماليّة حَرف سِناد يشُلّها/  وظيفٌ أزجُّ الخَطْو  ظمآنُ سَهْوَقُ“. اهـ

وهذا التشبيه هو الذى قصده الجد بقوله:

(يا معمِلين قلاصا حاكت الحِرَفا) .

وما قاله الجوهرىّ دقيق جدا، فقد جمع للناقة ــ إذا وُصِفت بأنها حرف ــ  بين وصفى الصلابة والضمْر، وهما وصفان قد يجتمعان، إذ كانا غير متناقضين، فى حين ذهب بعض اللغويين إما إلى هذا، وإما إلى ذاك، فلاح لبعضهم أن ثمة تعارضا. وليس الأمر كذلك.

انظر ما حكاه ابن سيده فى المخصص، حيث قال:

“أَبُو عبيد: الُحْرجُوج والَحرَج: الناقةُ الضامِرُ، وَقد تقدَّم أَنَّهَا الطويلةُ على وَجْه الأَرْض، والحَرْف مثلهَا، شُبِّهَت بحرفْ الجبَل.

 ابْن السّكيت: أحْرفْتُ ناقَتِى: هَزَلتها، وَمِنْه قيل للناقة المَهْزُولة: حَرْف؛ وَمِنْه: حَرفت الشىءَ عَن وَجهه.

 صَاحب الْعين: هِىَ النَّجِيبة الَّتِى قد أنْضاها السَّفَرُ، وَقيل: هِىَ الصُّلْبة. وَأنْشد:

(جُمَالِيَّة حَرْفٌ سِنَادٌ يَشُلُّها/ وَظِيفٌ أزَجُّ الخَطْوِ رَيَّانُ سَهْوَقُ)

قَالَ: فَلَو كَانَ الحَرْف مهزُولاً لم يَصِفْها بِأَنَّهَا جُمَالِيَّة سِنَاد، وَلَا أَن وَظِيفها ريَّانُ”. اهـ من (باب نعوت الإبل فى قلة لحومها).

ورأيت ابن منظور،  بعد أن نقل هذا الكلام بلفظه، يقول فى اللسان: “وَهَذَا الْبَيْتُ يَنْقُضُ تَفْسِيرَ مَنْ قَالَ: نَاقَةٌ حَرْفٌ: أَى مَهْزُولَةٌ، شُبِّهَتْ بِحَرْفِ كِتَابَةٍ، لِدِقَّتِهَا وهُزالها؛ وَرُوِىَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنه قَالَ: الحرْف النَّاقَةُ الضَّامِرَةُ، وَقَالَ الأَصمعىّ: الحرْفُ النَّاقَةُ الْمَهْزُولَةُ؛

قَالَ الأَزهرىّ: قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ فِى تَفْسِيرِ قَوْل كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:

حَرْفٌ أَخُوها أَبوها مِنْ مُهَجَّنةٍ، … وعَمُّها خالُها قَوْداء شِمْلِيلُ

قَالَ: يَصِفُ النَّاقَةَ بالحَرْفِ لأَنها ضامِرٌ، وتُشَبَّهُ بالحَرْف مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَهُوَ الأَلف لدِقَّتِها، وَتُشَبَّهُ بحَرْف الْجَبَلِ إِذَا وُصِفَتْ بالعِظَمِ. وأَحْرَفْتُ نَاقَتِى إِذَا هَزَلْتَها؛ قَالَ ابْنُ الأَعرابىّ: وَلَا يُقَالُ جملٌ حَرْف، إِنَّمَا تُخَصّ بِهِ الناقةُ”.اهـ

قلت: لكن رُوى: (…أزجّ الخطو ظمآن سهْوقُ). فعلى هذه الرواية يقوَى قصد الضُّمْر، وهو لا ينافى الصلابة، كما تقدم.

ويبدو  من كلامه أن الحرف له إطلاقان فى هذا المقام: فإذا أريد وصف الناقة بالضمر والهزال، فوصفت بأنها حرف ــ انصرف المعنى إلى  تشبيهها بحرف الهجاء فى الدقة، وخصوصا الألف، وإذا أريد وصفها بالعظم والشدة فقيل إنها حرف، فالمراد حينئذ: طرف الجبل أو جانبه. وهو جمع حسنٌ بين أقوال أئمة اللسان، والسياق هو الذى يحدد المراد.

ومما يكشف لك سرّ  هذه المسألة أن كراع النمل علىّ بن حسن الهنائىّ ـــ وهو من قدماء اللغويين نسبيا ـــ إذ كانت وفاته سنة 310ه ــــ جعل الحرف من الأضداد فى لغة العرب، فقد قال فى المنتخب من غريب كلام العرب:

والحَرْفُ من النُّوقِ: العظيمة، كأنها حَرْفُ الجبل، ويقال الصَّغِيرَةُ، ويقال الضَّامِرَةُ؛ ضدّ”.اهـ (1/587).

لكن الذى تميل إليه النفس أكثر هو ما ذهب إليه الجوهرىّ. والله أعلم.

وفى العباب: “…تشبيها لها بحرف السيف، أى حده. زاد الزمخشرىّ: فى هُزالها ومضائها فى السير”.  انظر التاج: (حرف).

وفى المخصص أيضا: “ابْن جنّى: ناقةٌ حَرْفٌ: نَجِيبَةٌ، ماضِيَةٌ، شُبِّهَت بِحَرْفِ السَّيْف فِى مضائه، وَقد تقدَّم أَنَّهَا المهزولة“. اهـ (نعوت الإبل فى سيرها ورياضتها وذلتها).

قوله: وقد تقدم أنها المهزولة: أى على رأى، وكأنّ أصله ما حكاه الأصمعىّ، كما يؤخذ من كلام صاحب التاج: (حرف). والله أعلم.

ويؤيده ما فى كتاب الإبل للأصمعىّ:

ويقال: ناقة حرف: إذا كانت قد يبِست وهُزلت”. (ص:103، تح: حاتم الضامن).

وفى اللسان أيضا: هى النجيبة الماضية التى أنضتها الأسفار، شبِّهت بحرف السيف فى مضائها ونجائها، ودِقتها. اهـ (حرف).

وقد اقتصرت فى حديثى المرئىّ الذى بثته قناة شنقيطى عن الشاعر  ـــ على أن الحرف يراد به: الناقة القوية، وأيضا: حدُّ الشىء وطرَفه. وهذا صحيح، لكن لم أبين أصل التشبيه، لأن المقام ليس مقام إفاضة فى شرح أصول المفردات، ولأنى أفترض أن من لهم دراية بالديوان، أو بهذه القصة بالذات، يعرفون موضع النزاع، ويذكرون معى قول صاحب الديوان:

(حرف الكُدَى، لا سواه جمعه حِرفٌ/ وزانه عنبٌ، والجمع قد عُرفا…).

وقد أكثر  الشعراء من وصف الناقة بأنها حرف ــ على أوجه التشبيه التى ذكر اللغويون أعلاه.

فمن ذلك قول الحارث بن حِلِّزة اليشكرىّ:

أَنْمِى إِلى حَرْفٍ مُذَكَّرَةٍ/ تَهِصُ الْحَصَى بِمَوَاقِعٍ خُنْسِ،

وقول طرفة بن العبد:

جُماليّةٌ وجناءُ، حَرْفٌ، تَخالُها/ بأنساعِها والرّحلِ صرحاً مُمَرَّدَا

 وقول لبيد رضى الله عنه:

عُذَافِرةٌ حَرفٌ كأن قتُودَها/  تَضَمنَّهُ جَوْنُ السَّراة عَذُومُ

وقوله أيضا:

لولا تُسَلِّيكَ اللبَانَةَ حُرَّةٌ/      حَرَجٌ كأحناءِ الغَبيطِ عَقيـــــــــــــــــــــــمُ

حَرْفٌ أضرَّ بها السِّفَارُ كأنَّها/  بعد الكَلالِ مُسَدَّمٌ مَحْجُــــــــــــــــــومُ.

وقول كعب بن زهير  رضى الله عنه:

حرف أبوها أخوها من مهجنة/  وعمها خالها قوداء شمليل

وفى بعض الروايات: “أخوها أبوها”

وقول عبد الله بن سلمة الغامدىّ، وهو من شعراء المفضليات:

فَتَعَدَّ عَنها إِذ نَأَتْ بِشِمِلَّةٍ/ حَرْفٍ كَعُود القَوْسِ غَيْرِ ضَرُوسِ

وهو  بحر لا يدرك غوره.

ونختم هذه العجالة بقول صاحب التاج فى مادة (طلّ):

الطَّلُّ: الْمَطَرُ الضَّعِيفُ، أَو أَخَفُّ الْمَطَرِ، كَما فِى المُحْكَمِ، أَو أَضْعَفُهُ، كَمَا فِى الصَّحاحِ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَهُوَ مالَهُ أَثَرٌ قَليلٌ، ومنهُ قولُهُ تَعلى: (فإن لَم يُصِبْهَا وابِلٌ فَطَلٌّ)، أَو هُوَ النَّدَى الَّذِى يَنْزِلُ من السَّماءِ فِى الصَّحْوِ، أَو هُوَ فَوْقَهُ ودُونَ الْمَطَرِ،ج:طِلاَلٌ، بالكسرِ، أَنْشَدَ ابنُ جِنِّى فِى المُحْتَسَبِ، للقُحَيْفِ العُقَيْلِىِّ:

دِيارُ الحَىّ يَضْرِبُها الطِّلالُ … بِها أَهْلٌ مِنَ الخافِى ومالُ

 وطِللٌ، كَعِنَبٍ، هَذِه عَن الفَرَّاءِ، ومثلُهُ حَرْفُ الجَبَلِ وحِرَفٌ، قالَ: وَلم يُسْمَعُ غَيْرُهما”.

ولعل الشيخ باستعماله لهذا الجمع النادر  كان يرمى إلى الجمع بين عنصرى الإفادة والإغراب. وبالله التوفيق.

***

ـــــ ومنها: الجَلوُ، حيث جعله مصدرَ جلا الشىءَ يجلوه: إذا كشفه وأوضحه، وذلك فى قوله:

“لو خضت لجة قاموس وجدت به/  دُرّا جلاَ جلوَ مصباح الدجى السُّدَفا”.

فقد أنكره عليه ابن محمدى أيضا.

 والجواب أنه مصدر صحيح سماعا وقياسا. يقال: جلا الصبحُ ظلمةَ الليل يجلوها جَلْوا: إذا كشفها، وجلوْتُ  السيف أجلوه جَلوا وجِلاء: إذا صقلته.

ــ قال إبراهيم الحربىّ، فى غريب الحديث: “أَخْبَرَنِى أَبُو نَصْرٍ, عَنِ الْأَصْمَعِىِّ، يُقَالُ: جَلَوْتُ بَصَرِى بِالْكُحْلِ جَلْوًا”. (1/118).

  ــ وفى تهذيب اللغة للأزهرىّ:

“وَقَالَ أَبُو زيد: يُقال:

 جَلَوْتُ بَصَرِى بالْكُحْلِ جَلْواً… وجَلَوتُ عَنِّى هَمِّى جَلواً، إِذا أَذهَبته”. (باب الجيم واللام:11/127).

 ــ وفى جمهرة اللغة لابن دريد:

“جلوت السَّيْف وَغَيره أجلوه جَلْوا وجِلاء إِذا أزلت عَنه الصدأ…

وجلوت الْهم جلوا: أذهبته. قَالَ الراجز:

(يَا هِنْد قد نجْلو الهموم جَلْوَا/  (ونمنع الْعينَ الرُّقادَ الحُلوا )

وجلوت بَصرِى بالكحل جَلوا”. (ج ل و).

 ــ وفى كتاب الأفعال لابن القطاع: “”جلا” العين بالكحل جَلْوًا”. (1/189).

قلت: ومعناه: نوّرها، وصقلها بالإثمد، ليذهب عنها ما قد يعلوها من رمد أو غشاوة.

 ــ وفى المخصص لابن سيده: “أَبُو زيد، الجَلاَ: الكُحْل، لأنَّه يَجْلُو العيْنَ، وَقد جَلَوْت بِهِ عَيْنِى جَلْواً وجِلاء”. اهـ (باب الكحْل والمِيل).

 ــ وفى المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده أيضا:

“وجَلاَ الأمرَ، وجَلاَّه، وجَلَّى عَنهُ: كشفه وأظهره. وَقد انجلى، وتجلَّى.

وَأمر جَلِىّ : وَاضح.

وجَلا السَّيْف والمِرآة وَنَحْوَهمَا، جَلْوا، وجِلاء: صقلهما.

وجلا عينَه بالكُحْل جَلْواً وجِلاَء.

والجَلا: الكُحل، لِأَنَّهُ يجلو الْعين، قَالَ المتنخل الْهُذلِيّ:

وأَكْحَلْك بالصاب أَو بالجلا …  ففَتّح لكُحْلك أَو غمِّضِ”.

(7/548).

 ــ وفى اللسان: “وجَلَوْتُ عنى هَمِّى جَلْواً إِذا أَذهبته”. اهـ (جلو).

 ـ وفى التاج ممزوجا بمتن القاموس: “(و) جَلا الصَّيقلُ (السَّيفَ والمِرْآةَ) ونحوَهُما (جَلْواً) بالفتْح، (وجِلاءً) بالكسْرِ: (صَقَلَهُما).

 (و) مِن المجازِ: جَلا (الهَمَّ عَنهُ) جَلْواً: (أَذْهَبَهُ).اهـ (جلو).

***

وأيضا فهو مصدر مقيس، وإن لم يذكروه. فكيف، وقد نصوا عليه، كما رأيت.

وبيان كونه مطردا مقيسا أن فَعْلا بفتح الفاء وسكون العين هو قياس مصدر المتعدى من الثلاثىّ: فعَل ـ بالفتح ـ ، وفعِل ـ بالكسر، كما هو معلوم.

 وإليه الإشارة بقول ابن مالك فى الخلاصة.

 (فَعْلٌ قياسُ مصدر المُعَدَّى/  من ذى ثلاثة كردّ ردّا).

قال العلامة ابن قاسم  المرادىّ  النحوىّ  فى توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك:

“شمِل قوله: “المعدى من ذى ثلاثة” فعَلَ وفعِلَ, فقياس مصدرهما فَعْلٌ ــ بفتح الفاء وإسكان العين ــ نحو: ضرَب ضرْبا وفهِم فهما، وظاهره أنه مقيس فيهما بلا قيد، وقيَّد الفَعْل لمكسور العين فى التسهيل بأن يُفْهِم عملا بالفم نحو: شَرِب شَرْبا, ولقِم لقما.

ولم يقيده سيبويه أو الأخفش, بل أطلقا.

“تنبيه”:

اختلف فى معنى القياس هنا، فقيل: إنما يقاس على فَعْل فيما ذكر، عند عدم سماع غيره، فإن سُمِع غيرُه وُقِف عنده، وهو مذهب سيبويه والأخفش.

 وقيل: يجوز القياس مع ورود السماع بغيره، وهو ظاهر قول الفراء”. اهـ (2/862).

فعلى افتراض أن جلوا لم يسمع مصدرا لجلا، وإنما سمع الجِلاء وحده ــ مثلا ــ فمن علماء العربية من يجيزه إعمالا للقاعدة المذكورة، وهو ظاهر قول الفراء.

***

ــــ كما أخذ عليه ابن محمدى أن “صيّر  همز القطع متصلا”، فى قوله:

 (إنكار من ليس يدرى اشدِدْ به غررا/  إذ هوّ من جُرُف الأَلحان فوق شَفا).

والجواب: أنه جائز فى ضرورة الشعر، وأنه أكثر دوَرانا فى الشعر من عكسه، أى من قطع همزة الوصل. كما ذكر ابن جنّى وغيرُه. وهو سائغ فى الأفعال والأسماء معا.

وقال السيوطىّ فى شرح همع الهوامع، عند مبحث الضرائر:

“هَذَا مَبْحَث الْأُمُور الَّتِى تجوز لضَرُورَة الشّعْر، وَلَا تجوز فِى غَيره:

 يجوز للشاعر أَن يرتكب مَا لَا يجوز فِى الِاخْتِيَار. قَالَ ابْن مَالك: إِن لم يجد عنه مندوحة، بِأَن لم يُمكنهُ الْإِتْيَان بِعِبَارَة أُخْرَى، وَجوّزهُ ابْن جنّىّ وَابْن عُصْفُور وَأَبُو حَيَّان وَابْن هِشَام مُطلقًا، أَى وَإِن لم يُضْطَر إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَوضِعٌ أُلِفَت فِيهِ الضرائر”. (3/273).

وعدّ من هذا الباب جعل همزة القطع وصلية. وقد عُلم من هذا النصّ أن الترخص الذى يرتكبه الشعراء إما أن يُضطروا إليه، فيكون ضرورة سائغة فى الشعر، عند ابن مالك، وإما ألا يُضطروا إليه، ولكن يتسمحون فى استعماله، فهو جائز عند ابن جنّى وابن عصفور وأبى حيان وابن هشام، مطلقا. وحسبك بهم.

فعلى التقديرين لا إنكار على الشاعر، عند أحد من الفريقين.

وقد أنشد أبو علىّ الفارسىّ هذا الرجز:

إن لم أُقاتِلْ فالبِسونى بُرقُعا /  وفَتَخاتٍ فى اليدينِ أَرْبَعا

وأنشد ابن جنّى  قول حاتم الطائىّ:

أبوهم أبى والأمَّهاتُ امهاتُنا فأنعِم، ومتِّعنى بقيس بن جحدرِ

يريد: والأمهات أمهاتنا

وأنشدوا قول الشاعر:

(ألاَ اَبْلِغْ حَاتِما وَأَبَا عَلِىٍّ/  بِأنَّ عرَابَةَ الضّبعِىَّ فَرَّا).

وينظر لما ذكرنا من الشواهد: شرح الأبيات المشكلة الإعراب، لأبى علىّ الفارسىّ: 335، والخصائص لابن جنّىّ: 3 / 151، والمحتسب له: 1 / 120، وضرائر الشعر لابن عصفور: 98،  100، واللمحة فى شرح الملحة لابن الصائغ: 2/775، وهمع الهوامع للسيوطىّ: 3/284.

ومن ذلك قول الطرِمّاح بن حكيم الطائىّ، وهو صنو بيته فى تثنية الطرْف ـ أعلاه:

(ألا أيها الليل الطويلُ ألا اَصبِح /  بصبح، وما الإصباح منك بأروح)

وقد جر ما نُقِل من تخطئة ابن محمدى إياه، فى جمع حرْف على حِرَف، مساجلةً بينهما، فانتصر لصاحب الديوان بعض تلامذة أبيه، فوجهوا بعض القصائد إلى ابن محمدى، فلما انتهى الخبر إلى الشيخ سيدى الكبير قال كلمته المشهورة: لئن انتصرتم لابن شيخكم لأنتصرنّ لابن شيخى. وذلك أن ابن محمدى سبط العلامة حرمة بن عبد الجليل الذى أخذ عليه الشيخ سيدى علوم العربية وغيرها.

فما كان من ابن مُحَمْدِى إلا أن اهتزت أريحِيَّتُه، فانبرى يدبّج قصيدة اعتذارية تعدّ من فرائد الشعر وعيونه، ثم ركب ناقته إلى أن انتهى إلى مسجد الشيخ، فأنشدها، فيقال إن الشيخ قال له: ليتك هجوتنا كل يوم، واعتذرت إلينا بمثل قصيدتك هذه.

وبذلك طويت صفحة تلك المساجلات، وانحسم أمرها.

هذا ولم يكن لما بدر من ابن محمدى أىّ تأثير إيجابىّ أو سلبىّ على شاعرية صاحب الديوان، لأمور كثيرة، نشير منها فى هذا المقام إلى ثلاثة:

ــــ أولها: أن المقطوعة التى انتقَد منها ابنُ محمدى كلمة هى من شعره المتأخر، إذ قالها فى رحلته إلى الساقية الحمراء، ومعلوم أنه إذ ذاك كان قد بلغ الغاية القصوى فى  الفن  الشعرىّ  والإبداع.

ــــ ثانيها: أنّ تصحيح خطإ لغوىّ فى مفردة واحدة أو أكثر  ــــ  لو صح أنه خطأٌ بالفعل ــــ لا علاقة له بشحذ الشاعرية، وجلب التألق الإبداعىّ لأىّ شاعر لم يكن مبدعا ولا متألقا من قبل.

فكيف، والشاعر لم يخطئ فى المفردة المذكورة، ولا فى الكلمات اللاحقة الأخَر، كما رأيت؟

وكم من حافظ للغات العرب، معدود من جهابذة النحاة، لا يكاد يخطئ فى كلامه، لا يحسن قرض الشعر، ولا هو ممن دُفع إلى مَضايِقه قط. بل يوجد منهم من لا يميز بين جيده ورديئه.

وكم من متعاط لصناعة الشعر والنثر، مبدع فيهما أو فى أحدهما، وبضاعتُه فى النحو واللغة مزجاة. وخير مثال على ذلك جمهور الشعراء والكتّاب لهذا العهد مشرقا ومغربا، إلا من شاء الله.

فإتقان هذه العلوم شىء، وإجادة الشعر والنثر شىء آخر. على أنه من المستحسن والأفضل أن يكون الأديب على جانب عظيم من إتقان هذه المعارف والعلوم، وإن لم يبلغ فيها درجة بعض علمائنا المتأخرين كمحمد بن يعقوب وأثير الدين.

وأما المتقدمون، فدون اللحاق بشأوهم خرط القتاد.

وقد جمع الله الحسنيين لصاحب هذا الديوان: رسوخ القدم فى علوم الآلة، وإتقان صناعة الشعر؛ لا يدفع ذلك إلا مكابر أو جاهل.

ــــ ثالثها: أن والد صاحب الديوان ــــ وهو من هو فى سَعة علمه، وتنوع معارفه، وجودة شعره، ومهارته بعلوم الأدب واللسان ــــ كان يتولى بنفسه غربلة شعر ولده، وتقويمَ زيغه  وأوَده، وكان مما يمزق بواكير إنتاج طفولته وصِباه.

فلما بلغ أشده واستوى استغنى فى شعره عن مراجعة الوالد وتمحيصه، كسائر من جاز القنطرة من فحولة الشعراء.

بل قال فيه والده كلمته المشهورة: “الآن قال صاحبكم الشعر”.

فأىّ شىء أحدثته المساجلة المذكورة فى عالم الإبداع عند صاحب الديوان، مما لم يكن موجودا عنده من قبل، وهى لم تعدُ جزئيات لغوية كان الحق فيها معه؟!

هذا وللرجلين الشيخ سيّدى محمد، وابن محمدى من عيون الشعر والصدارة فى مضمار القول، والاقتدار على تطويع اللغة، والتمكن من ناصيتها، والتفنن فى الأساليب، وسلاسة الشعر، ورقته وجزالته، ما ينبغى أن يستأثر باهتمام النقدة والباحثين، بعيدا عن الخوض فى مسألة صغيرة، وجزئيات عقيمة لن يقال فيها على وجه الإنصاف أكثر مما قيل فى هذا المقام.

*** 

وبما أن الشاعر لم يتجاوز الأربعين من عمُره، فلم يعش بعد والده إلا سنة واحدة آلت إليه فيها الخلافة العامة على الحضرة والعشير، وفرَض عليه الواقعُ التواصلَ المباشرَ مع مواقع نفوذ الشيخ الوالد فى هذه البلاد وما جاورها من الأصقاع، والنهوضَ بأعباء الخلافة على كل صعيد، سياسة، وتربية، وإفتاء، وتدريسا، وإصلاحا وإنفاقا، وقِرى وبذلا وإحسانا، فقد انشغل عن مراجعة بعض نصوص مدونته الشعرية، فوجدنا بياضا فى أربعة مواضع لأبيات لم تكتمل.

وقد أكمل حفيده الأديب الكبير الشيخ إبراهيم بن الشيخ سيدِىَ بابه الموضع الذى وقع فى العينية المطولة، فوُفّق فى ذلك غاية التوفيق، وأكملت أنا المواضع الباقية، أولها فى القطعة البائية التى يرثى بها ابنَ عمه إبراهيم بن الطالب بن المختار بن الهيبة، وثانيها فى المديحية النبوية الشهيرة بالواوية، والثالث فى قطعة رجزية يدعو فيها لوالده بالشفاء.

وأرجو أن أكون قد حَظيت فيها بالتوفيق كذلك.

وكنت قد عرضت الموضع الأول والثانى على شيخنا العلامة نادرة الزمان محمد سالم ابن عبد الودود، فاستحسنهما، وقال لى عن تكملة بيت الواوية: كذا كان الشيخ يريد أن يقول. وقص علىّ فى ذلك رؤيا للأديب “محمدٌ بن المختار بن حامد الديمانىّ لم يعد مستحضرا لجملتها، لكنه قال لى: هذا تأويل رؤياه من قبل.

***

وصفوة القول أن الرجل كان قامة سامقة فى سماء الأدب والشعر والبلاغة والنقد، مسلحا بثقافة إسلامية عميقة، متنوعة، من قرآن وفقه وأصول وسيرة وأنساب وتاريخ وتصوف وسلوك ولغة واشتقاق وبلاغة ونحو وتصريف …

وقد برزت كل هذه المعارف بشكل واضح فى مدونته الشعرية التى بين يديك، واستُغلت ثمراتُها فى تضاعيفها استغلالا فنيا ناجحا؛ كما ظهرت فى تآليفه وتقييداته المستكثرة، ورسائله العلمية ونوازله وفتاواه المحررة؛ 

 وقد تبين أنه كان سابقا لأوانه، فى مجال النقد والإبداع والدعوة إلى التجديد فى مضمار الشعر، وأنه أعظم دعاة الجهاد والإعداد والإصلاح السياسىّ  والاجتماعىّ عبر الكلمة الشعرية البديعة فى هذه الربوع.

فمن بيت أبيه انطلقت دعواتُ الإصلاح والجهاد وبناء الدولة، وجمع الكلمة ولمّ الشعث، ورأبِ الثأى، وإصلاحِ ذات البيْن، ونبذِ الفُرقة والشقاق. وكان هو لسانَ تلك الدعوات، وترجمان تلك الصيحات، بشعره، ورسائله، ومساعيه…

وبهذا وغيره مما سبق الإلماع إليه، فلا غرو أن يتبوأ قمة الشعر فى هذه البلاد غيرَ مدافع. وبذلك وصفه جمع من الأعلام الجهابذة كالعلامة الأديب البليغ المفسر شيخ المدينة النبوية فى عصره محمد المختار بن محمد الأمين الجكنىّ الشنقيطىّ، رحمه الله.

***

وقد اشتغل بهذا الديوان الأستاذ المدرس الأديب الأريب الأخ الفاضل السيد عبد الله ابن محمد ابن سيديا، منذ عقود، وأخرجه أولَ مرة إخراجةً عَجْلى اضطَرَّتْه ظروفُ التخرج والامتحان إليها، فبقِى فى نفسه من ذلك، رغم ما بذله من جهد فى الجمع والتحقيق.

فعزَم على إعادة الكَرّة من جديد، فعكَف على الديوان يجمع نسخَه ورواياتِه، ويوازن بينها، ويسأل عن مشكلاته ومناسباته، ويعترض الركبان، ويتصفح المعاجم والوثائق، ويأخذ عن الأكابر، ويحقق، ويدقق، إلى أن استوى له هذا العمل واتسَق.

وقد لحَظتُ ما بذله من عظيم الجهد فى ضبط ألفاظ النص ضبطا صحيحا، رغم حُزونة اللغة أحيانا، وما علّق به من شرح الألفاظ معتمدا على بعض المعاجم المشهورة، وسؤال أهل الذكر. إلا أنه أغفل شرح مفردات يحتاج إلى معرفة دلالاتها أكثرُ قراء اليوم، اعتقادا منه أنها من الوضوح بمكان، وأنها لذلك غنية عن البيان.

وقد لفَتُّ كريم انتباهه إلى شىء من ذلك، فتلافى منه ما أمكن. ولعله يسعى لإكماله فى الطبعة اللاحقة إن شاء الله.

وقد عايش الأستاذ هذا الديوان منذ مدة تنيف على ثلاثين سنة، فعرف غوامضه، وحرر مادته، وعرف مناسباتِه وأبطالَه، وظل هجّيراه تقليبَ النظر فيه، والتعليقَ عليه، ودرْسَ بيئته ومحيطه، حتى أصبح جزءا لا يتجزأ من حياته اليومية.

وقد طوى كثيرا مما يعلم عنه، لأنه ليس بصدد الشرح المفصل، أو الدرس والتحليل. علما بأنه من بنى عمومة الشاعر الأدنيْن، وأن جدته لأمّ بنت ابن الشاعر، رحمهم الله جميعا.

وقد قرأ علىّ كل نص من هذه المدونة ثلاث مِرار إبّان اشتغاله به أولَ مرة، ولم يزل يراجعنى ويسائلنى عنه إلى هذه اللحظة. وربما سأل غيرى أيضا ممن يثق  بعربيتهم وضبطهم.

ثم إنه مدرّس لغة وأدب، وممن أتيح له الجمع بين الدراسة المحضرية، وبين التكوين التربوىّ، والدرس المنهجىّ المعاصر فى المجال نفسه. فكان عمله هذا فى صميم تخصصه، وميدان اهتمامه.

وقد عرفت فيه الميل إلى التدقيق والتحرير فى كل ما يقرؤه ويكتبه من ذلك.

ويكفيه أنه جمع تفاريق النصّ، واجتهد فى ضبط ألفاظه، وإيضاح غامضه.

كما أنه مما يُعدّ من محاسن عمله أنه لم يُثقل هوامش المدونة بالحواشى، لأنه يهدف أساسا إلى إخراج النص صحيحا، مضبوطا، مقابَلا على أصح النسخ، مشروحا منه ما يحتاج ــــ فى نظره ــــ إلى الشرح، بأوجز عبارة، وأخلص إشارة.
وقد أفلح فى هذا المقصد، إذ به يقدّم خدمة جُلَّى للأمة، والأدب واللغة، بل ولملة الإسلام. ثم فيه من الوفاء للشاعر، وتخليد تراثه، والتعريف به أكثرَ، والمفاخرة به خارج هذه الربوع ما يسَوّغ بمفرده نشره على الناس، وإخراج عمله من ظلمات المجامع  والكنانيش، إلى نور الحياة، وحركة الوجود.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى