بين السرد والتاريخ في رواية «غارب»
عندما ننتهي من قراءة رواية «غارب» للمصري محمد عبدالقهار، والتي صدرت في القاهرة حديثاً على نفقة الكاتب، سيكون علينا التوقف لالتقاط الأنفاس بعد ذلك الشوط الروائي الطويل الذي لم يترك لنا كاتبه أية فرصة للتوقف خلاله، وهو الذي استطاع بحنكة وبراعة أن يبني عالماً متكاملاً يموج بأحداث عظام، عالم كل لحظة من لحظاته تمثل علامة فارقة على مستوى الشخصية الرئيسية أو على مستوى الأحداث التاريخية التي تَمَكّنَ من أن يمزج بينهما ليقدم لنا شخصية ترتفع إلى مستوى أبطال التراجيديات العظيمة من أمثال يوليوس قيصر، وهاملت، والحلاج… إلخ، ويصل به إلى ذروة درامية تظل ماثلة في الأذهان بعد انتهاء قراءة العمل بما للنهايات من أثر باق دوماً. ذلكم هو موسى بن أبي غسان، الأمير الذي لم يعش في قصر الحمراء سوى أربعة أعوام قبل أن ينقلب أخوه الأكبر أبو الحسن على الأب وينتزع منه إمارة غرناطة ويطرده وزوجه الأخيرة وابنه منها. سوف يكون من العبث تلخيص هذا العمل الضخم الذي يغطي زمنياً العقود الأربعة الأخيرة التي سبقت سقوط غرناطة في العام 1492 ومعها دولة بني الأحمر، آخر معاقل الحضارة الإسلامية، التي امتدت إلى ما يزيد على سبعة قرون في الأندلس.
بل يجب أن يكون الانصراف إلى البنية، لأن أحد أعاجيب هذا العمل أن تتضام فيه البنية بالموضوعة وتتضافر معهما اللغة التراثية في عمليات تناص تطل من حين إلى حين لتدعم السرد، بالإضافة إلى الزمن الحقيقي الذي يغطي مساحة أربعة عقود ومقابله الزمن الروائي الموازي الذي يُقسم إلى اثني عشرة شهراً هي عناوين فصول الرواية ذاتها بأسمائها المأخوذة عن اللسان الأندلسي (ينير، فبرير… إلخ) لتتوازى مع الزمن الخارجي، كلها معا تُنتج وتقدم لنا عالماً روائياً ملحمياً متماسكاً، هذا اللعب الجميل يدعمه داخل الفصول تقسيم درامي آخر يقسم كل فصل إلى (أنا، هو، أنتَ) ليغوص في أعمق أعماق الأمكنة والأزمنة والشخوص والأحداث، كاشفاً في جزئي (الأنا والهو) عن حالات التاريخ في وقفاته الكبرى التي تمزج بين البشر والأحداث والمشاعر وتصعد بهم إلى ذرى البطولة، وهم يحاولون المستحيل لإنقاذ عالمهم من الضياع أمام الخطر الداهم الماثل في أعدائهم القشتاليين الذين يتربصون بهم الدوائر، أو تهبط وتنحط بهم إلى سفلى أنواع السلوك والأفعال والمواقف التي تكشف عن مواضع خسة يلجأ إليها بشرٌ ضعاف النفوس في مواجهة المواقف نفسها.
ثم يتوقف عند نهاية كل فصل أمام (أنتَ) ليجري محاكمة داخل نفس الشخصية الرئيسية ذات الأبعاد الوجودية، طبقاً لتقسيم صرّح به النص في ص 28: «ثم جعلت لكل من أسماء أجزائك نصيباً، الملك: قلب الدين، والوزير: ابن لبابة، والقاضي: أبو الضمير، وأرباض الحب والكره والصبر والعجز والرضا والحسد وشهوات البطن والفرج واللسان… إلخ». هكذا تظل الأحداث تتدافع بموسى من طفولة غريرة تناولتها يد جده لأمه بعناية من نوع خاص حيث أنكر عليه نسبه لأبيه ودعاه لنفسه تقية له من الاغتيال على يد أحد شقيقيه (أبي الحسن، وعبد الله الزغل) اللذين تنازعا وانتزعا ملك الأب، ليظل حبيساً في كنف ذلك الجد (عبدالملك) إلى أن يحرره موت الجد وهو ابن سبعة عشر عاماً، تاركاً خلفه شخصية حائرة متسائلة تتخبط في بحثها عن هوية بين صنوف المهن… «ذلك الشعار آفتُك أبداً، الأمير موسى بن سعد بن الأحمر المنسوب لأبي غسان» (ص29)، ليعمل في مطلع أمره ناسخاً خطاطاً من طراز خاص، «كتبتُ عقود النكاح والوكالة والمساقاة والمغارسة وسائر العقود، وكنتُ أنفق على ضيافة الزبائن فوق ما آخذ منهم» (ص117). وفي مناجاته لنفسه (ص175) يفصح لنا عن تقلبه بين الأعمال، «عشَق الخط في صورة سليمان الناسخ وأقلامه، والعلم في صورة ابن عاصم الليثي المحدث ودفاتره ووجهه الملطخ بحبر أغلاطه، وعشَق الطب في صورة ابن زرقون ومباضعه، وعشَق صاحب القراريط في صورة أبي إسماعيل اليهودي وسوطه الذي يؤدب به غلمانه، وكلما تنقّل بين صنعة يدخل ربض العُجب مزهواً إلى قصره».
ثم تأتي نقطة الانكسار Breaking Point التي ستغير من طبيعة الشخصية في بحثها الحائر عن جوهرها المكنون الذي ستكشف عنه الأحداث، عندما يخطئ خطأ قاتلاً كطبيب، فإذا به «الرجل الذي لفّ الجرحَ فقتل صاحبه. مبتدأ لا يستلزم خبراً» (ص153). في المسجد وقف أمام القاضي وثلاثة أطباء شهود عدول: «إن علاجه للمتوفي بشد الجرح على الكسر أحدث الموت خطأ»، ثم أردف واحدٌ منهم: «ذلك ما يفعله الجُهَال من الأطباء». حُوكم إذن وحُكم عليه بدفع دية ألف دينار وعتق رقبة. وهو في حضيض اليأس يصطلي بناره التي تحرق حشاه، يسمع زوجه (ابنة عمه التاجر) فاطمة تقول له: «بعد غزوات النصارى قال أبي ليس لنا عيشٌ في الأندلس، نبيع الأرض وبرج الفحص والديار والدكاكين ونسافر على فاس. تعجب ولم يدر بماذا يجيب: وزوجك أش يبيع؟ – نبيع البيت والدكان في المدينة، والدار والبساتين في الحوض، وندفع الدية ونسد أبا إسماعيل». فعل مضطراً، مع ما في ذلك من هلاكه وضياع ماله، لكن عزماً وُلد داخله»، «لن يترك موطنه نهباً للأعداء». تخلى عن زوجه فاطمة بعد مشاجرة حامية نشبت بينهما، تركها تغادر آخذة ولده عبد الملك معها، ولم يبق من ماله إلا جواده العجيب الأسود (غارب) ولما نحى إليه وجده فقد البصر وإن لم يفقد البصيرة. سيصير ذلك الجواد الذي منح الرواية عنوانها رمزاً للكبرياء الجريح والبطولة الأسطورية. ها قد آن له وهو مجرد من كل شيء (المال والزوج والولد) أن يجد نفسه التي بحث عنها طويلاً، نفس جياشة بعاطفة قوية غير هيابة للموت، تحمل أملاً برّاقاً في دحر الأعداء المتربصين بما تبقى من الأندلس من مدن وضياع متناثرة (غرناطة ولوشة وألمرية ومالقة…) سيخوض صراعاً مريراً عند كل المستويات مع النفس والأعداء والرفاق والقادة، فلم يكن له صديق سوى غارب، وواقع مرير. عند النهاية يقر المحيطون به بالانكسار والهزيمة، ليبقى هو وجواده وحدهما فقط من لا يعترفان بانكسار ولا يقران بهزيمة. سنراه على صهوة جواده، خارجين ليلقيا مصيرهما المحتوم، «وأنت أيضاً يا غارب حتفاً طلبتَ وحتفاً تنال» (ص425). جواد أعمى وفارس مخذول… «يبصر الملك سن الحديد يهدم رأس البرج، فيكب على وجهه، وتميد مملكة النفس صارخة، ويهوي الجسد من فوق الجواد» (ص425). تنتهي الرواية ولا تنتهي الأسئلة. نحن إذن أمام عمل اكتملت له أسباب التميز، لغةً وهندسة بناءٍ وجِدة وامتلاك لآليات وتقنيات السرد كلها، عمل ملحمي ضخم بكل ما تعكسه الكلمات من معنى، ولم يلتفت إليه الواقع الأدبي العربي ويوليه حقه من الدرس والنقد. نحن بإزاء عمل يجاور «ثلاثية غرناطة» لرضوى عاشور، و «ليون الأفريقي» لأمين معلوف، وقد قفز إلى ذهني ما كتبه محمود أمين العالِم عن مجموعة جمال الغيطاني الأولى: «أوراق شاب عاش من ألف سنة»، في معرض حديثه عن قصة «هداية أهل الورى لبعض ما جرى في المقشرة»، حين قال: «إن جمال الغيطاني يقدم لنا قصة جديدة هي القصة التاريخ». هو اصطلاح نحته العالِم نحتاً صادقاً لأنه ليست اللغة وحدها التي كُتبت بها قصة «هداية أهل الورى…» ما يبرر ذلك، بل حالة التقمص لصوت المؤرخ واستدعاء روح التاريخ معاً، فرض الاصطلاح فرضاً. نحن هنا نجد أنفسنا أمام حالة تدعونا لأن نقول: إن محمد عبدالقهار يقدم لنا الرواية التاريخ.
عن جريدة الحياة