«فكتوريا» لابراهيم المويلحي: هذا الافتتان العربي بالديكتاتوريين الأجانب
قبل فترة، قدمنا في هذه الزاوية قصيدة بائسة نظّمها واحد من كبار الشعراء العرب في القرن العشرين، في مديح واحد من أعتى ديكتاتوريي القرن، متسائلين عما كان يدفع مفكرين وشعراء من الطبقة الأولى، الى تبجيل زعماء كان العالم مجمعاً على بؤس حكمهم وتعسّفهم. يومها، كنا نتحدث عن محمد مهدي الجواهري وجوزف ستالين. وهنا، نعيد الكرة طارحين السؤال نفسه من خلال نشر قصيدة لا تقل بؤساً عن قصيدة الجواهري، نظّمها إبراهيم المويلحي الذي كان معروفاً عند نهاية القرن العشرين بكونه من كبار المفكرين النهضويين كما بكونه الأب الذي أنجب واحداً من مؤسسي الفن الروائي العربي، محمد المويلحي صاحب «حديث عيسى بن هشام». وهو نظم تلك القصيدة في مديح… الملكة فكتوريا. لكن يشفع له أنه ما نظّمها إلا بناء على طلب من الخديوي عباس الثاني الذي كان يريد في العام 1897، الاحتفال بعيد ميلاد الملكة التي كانت جيوشها تحتل بلاده منذ سبع سنوات، فوجد في كتابة واحد من رعاياه المرموقين، قصيدة مهداة إليها ما يفي بالغرض.
> يقول إبراهيم المويلحي في قصيدته التي كتبها عن طيب خاطر إن لم يكن إرضاء للملكة الإنكليزية فاسترضاء للخديدي المصري ولي نعمته على الأقل: «فكتوريا مالكة الممالك/ طاهرة الصفات كالملائك. منصورة الأعلام في المعارك/ عدوّها وقف على المهالك/ ومجدها أدناه فوق النجم. أسطولها في البحر كالأطواد/ وهو يمر كالسحاب الغادي/ فتصبح الجبال كالوهاد/ دكا من الأبراق والأرعاد/ من سفن مملوءة بالرجم. وجندها في البر كالأسود/ وغابهم بنادق الحديد/ ونصرهم في طالع السعود/ وهمّهم حرية العبيد/ وقمع جبار شديد الغشم. راياتها مأمن كل خائف/ في لجة البحر وفي التنائف/ وسيفها يردع كل حائف/ على اختلاف الناس والطوائف/ وحكمها نصّ القضاء الحتم. إن الغنى في مشرق ومغرب/ صورتها الغراء فوق الذهب/ مشرقة التاج شروق الكوكب/ في مجلس الأعيان أو في موكب/ فرسانه من الملوك الشمّ. الملك إن عدّوه بالإنسان/ فملكها يعدّ بالبلدان/ لأنه لم يجتمع في آن/ للفرس واليونان والرومان/ والأرض إرث عادل في الحكم. ستين عاماً حكمت دولتها/ وشرفت بين الملا أمتها/ فأقبلوا ليشكروا نعمتها/ ويلثموا لعزهم سدّتها/ وهم مثال للنهى والحزم. من كادهم فكيده عقيم/ وألف شاهد له أقيم/ والمخلص الود لهم حكيم/ ذو دربة بدهره عليم/ ينال منهم ما اشتهى بالسلم. قد أصبحت مصر بهم تختال/ في ثوب عز قبله أسمال/ والناس قد أحيتهم الآمال/ وكلهم في رغد أمثال/ من بعد ما كانوا عبيد الوهم. ما الكاتب البليغ في إنشائه/ والشاعر المفلق في إطرائه/ والأخطب الأفوه في إلقائه/ والنافل المكثر في أنبائه/ ببالغين وصفهم في الحلم. مليكة تهنأ الدنيا بها/ وأمة منصورة من ربها/ موكب عيدها لفخر شعبها/ منتظم من شرقها لغربها/ ووصف علياها ختام النظم.»
> لسنا ندري ما إذا كانت هذه القصيدة الركيكة قد تُرجمت يومها الى لغة الملكة فكتوريا أو ما إذا كان قرأها عدد من كبار أدباء الإنكليز الذين وقفوا جزءاً من أدبهم بل حياتها على مقارعة تلك الحاكمة «من مشرق الأرض الى مغربها» بنزعتها المحافظة وعدائها لكل ما هو حر ومتقدم. لكن يقينا أنه لو قيّض لواحد منهم أن يفعل لوقع على مؤخرته من الضحك/ مندهشاً كيف ان ابن بلد عربي تحتله جيوش فكتوريا يكتب مثل ذلك الكلام.
> ومع هذا، لو تبحر قارئو القصيدة في تاريخ الشاعر الألمعي لدهشوا، إذ رأوا في ذلك التاريخ ما يحول دون تصديق أن قصيدة فكتوريا كانت من «إبداعه»، فابراهيم المويلحي كان من أقرب الحواريين الى قلب جمال الدين الأفغاني وعقله، ومع هذا فإن أحمد شفيق باشا يتهمه (في مذكراته) بأنه كان عميلاً لأبي الهدى الصيادي، بينما نعرف، من خلال كتابات جرجي زيدان (في «مشاهير الشرق») وعبداللطيف حمزة (في «أدب المقالة الصحفية في مصر»)، أن ابراهيم المويلحي ظل حتى رحيله عام 1906 يعتبر نفسه تابعاً مخلصاً للخديوي اسماعيل، حتى بعد أن خلع هذا الأخير وجيء بالخديوي توفيق مكانه. والحال، أن ابراهيم المويلحي كان محقاً في إخلاصه للخديوي المخلوع، إذ إن هذا الأخير كان ذا فضل كبير عليه.
> فالمويلحي حين بدّد في مضاربات البورصة، الثروة التي كان أبوه قد تركها له ولأخيه عبدالسلام، أحل على الأخوين نعمته، فساعد عبدالسلام بمبلغ ضخم مكّنه من أن يجلّس أوضاع مصنع الحرير العائلي (واصلاً الى حد إصدار الأمر الى حريمه بعدم ارتداء أية ملابس حريرية إن لم يكن حريرها من إنتاج مصانع المويلحي)، فيما وهب ابراهيم مبلغاً مالياً كبيراً وعينه عضواً في مجلس الاستئناف، وبعد ذلك جعله عضواً في اللجنة التي كلفت بوضع «اللائحة الوطنية» بعد سقوط وزارة نوبار باشا المختلطة. وبعد ذلك، عيّن المويلحي سكرتيراً لراغب باشا ناظر المالية. والحال، أن هذا كله، وكان من أفضال الخديوي اسماعيل عليه، مكّن المويلحي من أن يتفرغ للأدب ولنظم الشعر اللذين كانا هوايته الأساسية ومبرر حياته الحقيقي.
> ومن هنا، تمكّن ابراهيم المويلحي وهو بعد في أواسط الثلاثينات من عمره، من أن يؤسس جمعية عرفت بجمعية المعارف، وينشئ مطبعة تولّت نشر العديد من الكتب التراثية، مثل «تاج العروس» و«أسد الغابة» و«رسائل بديع الزمان». وعلى ذلك النحو، بدأت مكانة ابراهيم المويلحي في الحياة الثقافية المصرية والعربية تتبلور، ولما كانت الصحافة – الجديدة على مصر في ذلك الحين – المكان الذي يمكن من خلاله تعزيز تلك المكانة والإطلال على الجمهور العريض، بدأ المويلحي يتّجه الى الصحافة ليؤسس مع عثمان جلال (مترجم موليير) جريدة «نزهة الافكار» التي لم تلبث السلطات أن أقفلتها بعد أن استشعرت خطورتها. غير أن ذلك لم يسئ الى علاقة المويلحي بالخديوي اسماعيل، الى درجة أنه حين نفي هذا الأخير الى نابولي في إيطاليا، تطوّع ابراهيم للسفر إليه في المنفى تاركاً مناصبه الحكومية وأعماله. ومن إيطاليا، لم يتوقف المويلحي عن الاتصال بالآستانة آملاً بالتقريب بينها وبين اسماعيل، في الوقت نفسه الذي راح يصدر فيه صحيفة إثر الأخرى يدافع فيها عن اسماعيل ومواقفه وينتقد الباب العالي، فكانت صحيفة «الخلافة» ثم صحيفة «الاتحاد». ولقد أزعجت هاتان الصحيفتان السلطان الذي جعل يكثّف اتصالاته بالسلطات الإيطالية أملاً بدفعها الى إيقاف نشاط المويلحي.
> وفي 1884، سافر المويلحي الى باريس حيث أصدر العدد الرابع من مجلة «الاتحاد» ودائماً برعاية الخديوي اسماعيل، وهنا مرة أخرى ثارت ثائرة السلطان واتصل بالحكومة الفرنسية التي استجابت وطلبت من المويلحي التوقف عن نشاطه، ثم اعتقلته وأبعدته فتوجه الى لندن بدعوة من جمال الدين الأفغاني الذي أشركه في تحرير «العروة الوثقى» و«ضياء الخافقين»، وإضافة الى هذا أصدر المويلحي في لندن صحيفتين هما «الأنباء» (التي يقول زيدان وعيسى اسكندر المعلوف أنها صدرت في باريس، بينما يؤكد حمزة صدورها في لندن)، و«عين زبيدة».
> والغريب أن المويلحي بعد سنوات كان خلالها ينتقد السلطان العثماني، بدأ يندفع في مدحه والدفاع عنه منتقداً السياسة الغنكليزية. وفي النهاية، دعاه السلطان للعيش في الآستانة، فتوجه إليها حيث أكرمه السلطان وعينه عضواً في مجلس المعارف. غير أن ذلك الهناء لم يدم، إذ سرعان ما اصطدم المويلحي بالسلطات العثمانية، حين حاول، وفق أحمد شفيق، أن يدس على حاشية الخديوي عباس حين زار الآستانة. وفي الوقت نفسه، أثبت جواسيس السلطة أن المويلحي يكتب – من دون توقيع – مقالات معادية للسلطان ينشرها في «المقطم»، وهي المقالات نفسها التي ستكون أساس كتابه «ما هنالك» الذي سيصدره في مصر بعد عودته إليها، إذ إنه عاد إليها بعد 10 سنوات أقامها في الآستانة، على الرغم من أن «الخديوي كان مستاء من دسائس ابراهيم المويلحي ومن تقاريره التي كان يرسلها للمحابين». ووصل المويلحي الى مصر في 1895، حيث راح ينشر مقالات تفضح الحياة الخانقة في عاصمة الخلافة.
> وفي 1898، أنشأ مجلة أسبوعية سماها «مصباح الشرق» أوقفها فجأة في 1903، ثم أصدر جريدة بعنوان «المشكاة» لم تدم طويلاً هي الأخرى. وخلال السنوات الأخيرة من حياته، عاش المويلحي كعلم من أعلام الفكر والصحافة في مصر، يتندر الناس بتقلباته وبصراعاته مع الإمام محمد عبده، وبمواقفه من الباب العالي، وهو كان بلسانه اللاذع وشعره الهجائي لا يتوقف عن التنكيل بخصومه وكانوا كثيرين. غير أن ذلك لم يمنعه وحتى أيامه الأخيرة، من العمل الدائم من أجل الإصلاح داعياً له في إطار «جامعة إسلامية تحت الراية العثمانية»، على غرار ما علمه أستاذه الكبير جمال الدين الأفغاني.
ابراهيم العريس والمقال للحياة