نجوى الناصر: كل نَصٍّ يسرقنا منا هو شعر
الشاعرة نجوى الناصر؛ مسكونة بالقلق وتراه توأمها المصاحب، ورفيق حياتها الذي لا يخون، أزعجها اسمها في طفولتها، وعندما كبرت أحبته، ومع كتابة الشعر أصبحت لديها مناعة ومحبة كبيرة لذاتها. تبحث في القراءة عما ينير العتمة ويكسر الحيرة ويضعها أمام المحك، وفي مواجهة مع الأفكار الجديدة. وتقول إن الكتب تمنحنا فرصة التعرف إلى عقولنا وأفكارنا من جديد. وإن التسليم بما جاء في الكتاب ليس مهمتنا. صدر للشاعرة ديوانان، الأول «أنثى على أجنحة الليلك» والثاني «مساحة منذورة للفراغ». «الحياة» التقتها وحاورتها حول تجربتها ومواضيع أخرى.
• «موجع/ أن تضحك/ فتخونك ذاكرة فمك!». هل أنت كائن يميل للحزن أم يقلقك ما يأتي من مجهول؟
– كثيراً ما كان الأصدقاء يلومونني لأن ما أكتبه لا يتناسب وذائقتهم في المدى الشاسع الذي يمتد فيه الحزن، ويحرّض على الأسى وقد ذهب البعض إلى كونه يتآمر عليهم مع الاكتئاب. الحزن كائنٌ نبيلٌ ومرهف رغم وجعه الذي لا ينام، لا ينفك عن منازعة الأيام طعمها ولا يثقل عليها حمله على كتفها. وكما يصعب أن تَخِزك الحياة بالحزن دون أن تقطف أزهاراً من بستان الفرح، لا يمكن أن يحصد قلبك الفرح دون أن تسقيك الحياة من كأس الحزن. أما القلق فهو توأمي المصاحب دائماً، ورفيق الحياة الذي لا يخون مهما كانت ظروف السعادة تتنفسني ملء رئتيها، فإنه يدور في فلكي ويحوم حولي. رغم الشهوة التي تتلبسنا في استكشاف المجهول، إلا أن التوجس يفرض وجوده بالمقابل. لك أن تتصوّر كيف يمكن أن تكون نصوصي دون هذين الشعورين المجنونين! إذا كنا نتكوّن من لحم ودم وشعورٍ ما، لا ينفكّ عنّا ولا يحيد عن مفاصل أعمارنا، فإنني أتكوّن من لحم ودم وحزن وقلق.
• في نص «نجوى»: «وحيد وخافت/ رباعي الوجع/ نزف/ جوى/ وهم/ وارتجال». إلى أي حد تتوحدين واسمك وهل صحيح أن للاسم تأثيراً خفياً على الإنسان/ الشاعر؟
– الاسم هويّةٌ لم نخترها لكنها تمثلنا غالباً، ومن النادر أن تتخلى عنا أو ننشقّ عن أثرها. تندّر كثيرون حول اسمي عندما كنتُ صغيرةً، وكانوا يتبعونه بجنسياتٍ مختلفةٍ بقصد الفكاهة، وقد أزعجني هذا للحدّ الذي جعلني أكرهه وأتمنى لو كان لي اسم آخر. حين كبرتُ وفهمته، أحببته. وحين كتبتُ أول قصيدة، أدركتُ أنه لم يكن إلا أنا، ومعناه وحتى إيحاؤه لم يكن إلا هويتي. لا أظن أن كلاسيكية الأسماء قد تحدّ من الشاعرية، ولكن بالتأكيد أن شاعرية الأسماء ستضيف للتجربة الشعرية الخاصة بكل شاعر.
• تذرعين الحياة على وتر حر، وتعانقين الموت كصديق أبدي. «أنا وجه عبثيتك الفاتن/ أنا مجاز صباك/ أنا أنتَ/ يا صديقي الموت». هل أنت مسكونة بالحياة أم الموت؟
– سؤالٌ محيِّرٌ جداً. الأضداد تثبتُ بعضها. كل ضد يثبتُ وجود الآخر في رقصةٍ متناغمة مع موسيقى المشاعر. الحياة والموت صديقان لا بد من الوفاء لهما في ذات الوقت. أعتقد أننا نتفق على هذا. أنا الطفلة التي لا تزال تصعد الأرجوحة وتذهبُ عالياً جدّاً لتقطف النجوم من سماء أحلامها بخفةٍ لا متناهية، وأنا أيضاً العجوز التي لا تألو جهداً في ارتجال الموت واحتضان لحظاته كلّما عنَّ له زيارتها أو اضطُرَّت لارتكابه. وهنا تماماً أتمثّل في حيرتي قول الشاعر محمود درويش: «فلربما أنا بينَ بين/ وربما أنا ميّتٌ متقاعدٌ/ يقضي إجازته القصيرة في الحياة».
• «الحديقة الباهتة» هل اتسعت مع مرور الوقت؟ هذه المساحة المرعبة من اللاشيء ألا ترممها خضرة الروح والأماني، القصيدة الجديدة، أو الغيمة المثقلة بالمطر؟!
– كل تجربةٍ تمرُّ بنا هي قطرةٌ تتعهد بريّ القادم من حيواتنا وأحلامنا وأفكارنا وأمانينا إما بالدهشة والجمال أو بالخوف والانطفاء. كل مساحةٍ من اللاشيء يقابلها في الضفة الأخرى امتلاءٌ ما، وشعورٌ ما. نحن، يا سيدي، لا نمنح الفراغ كامل نشوته إلا حين نعترف بخيانتنا له.
• «الكتب عربات ضوئية لارتياد الآفاق، فلا يعود الكتاب محطة في مكان، إنه مشهدٌ شاسعٌ عابرٌ يخترق التاريخ والجغرافيا». قاسم حداد؛ ما الكتاب بالنسبة للشاعرة الناصر؟
– تضعني في موقفٍ لا أُحسدُ عليه أمام تعريف الأستاذ الشاعر قاسم حداد، ما الذي يمكنني أن أقوله! حسناً، أعتقد أن الكتاب هو الشجرة دائمة الخضرة، تلك التي تثمرنا كل مرة بعمقٍ جديد أو تمنح عمقنا ثباته ومعناه. نحن القرّاء نبحث بشكل دائم عن عوالم جديدة تارةً تنير لنا عتمة الحيرة وتارةً تضعنا أمام محكّ الأفكار وتارةً أخرى تكتبنا من جديد أو تغرينا بالبحث عن عالمٍ آخر مختلف. هناك الكثير من الكتب تمنحنا فرصة التعرف إلى عقولنا وأفكارنا من جديد. ليس التسليم بما جاء في الكتاب مهمتنا ولا حتى محاكمته، بل عرضه على خبراتنا المتراكمة.
• «لم تنتصر قبيلة بلا شاعر، ولم ينتصر شاعر وإلا مهزوماً بالحب». محمود درويش؛ هل الناصر شاعرة مهزومة؟
– من الذي يحدد مقاييس الانتصار والهزيمة؟ وما هو الأساس الذي يحدد ذلك من خلاله؟ من منا يمكنه أن ينجو من هذه الهزيمة أو تلك؟ أو يسلّم بانتصاره؟ أعتقد أنهما أمران نسبيّان وهناك العديد والعديد من العوامل التي تؤدي إلى التسليم بأحدهما. لا أعلم حقيقةً كيف يمكن الإجابة عن هذا السؤال المراوغ دون مراوغة، لذلك سأتركه مفتوحاً!
• «والشعر لُبّ لسان المرءِ يعرضُهُ… على المجالسِ إن كيساً وإن حُمُقا
وإنّ أشعر بيتٍ أنتَ قائلـــــــــــهُ… بيتٍ يقال إذا أنشدتَهُ: صدقــــــــــا». حسان بن ثابت؛ ما الشعر في مفهوم الشاعرة نجوى الناصر في الفجر الأول من الألفية الثانية؟
– كنتُ دائماً ما أبحث عن مكانٍ أستطيع أن أمارس فيه جنون أفكاري دون قيدٍ أو شرطٍ أو هاجسٍ أو خوفٍ أو تظاهرٍ بما ليس أنا، مكانٍ أترك لأفكاري فيه حرية الانطلاق والتحوّل والخلق والتعثر والموت حتى. كنتُ أخاف أن أموت دون أن أتحرّر مني، دون أن أفرغني مني لأملأني بي مجدَّداً. حين كتبتُ، أدركتُ أنني وجدتُ الملاذ الذي طالما بحثتُ عنه، الملاذ الذي يُشرق داخلي مهما أخلصَ الليل لي. الشعر؛ حريّتي وأماني. والشعر، ليس فقط الحروف التي نكتبها أو نقرؤها، وليس مجازاً فقط تأكل الطير من رأسه وبعيداً عن رتابة الجدليّة الدائمة بين الشعر والنثر، فإنَّ الشعر ليس شكلاً فقط وإنما روح وشعور ومعنى. كل نَصٍّ يسرقنا منا هو شعر. أرى الشعر في كل ما حولي؛ غناء العصافير، بكاء الكمان، ابتسامات الأطفال، العناقات الدافئة، الغروب، الاعترافات الخجولة، الذكريات، الصور الفوتوغرافية، اللوحات التشكيلية.. إلخ. كل هذه وأكثر قصائد أقرؤها في حياتي اليوميّة.
• «العصافير التي كانت تغنّيكَ في قلبي ماتت لكنّ قلبي احتفظ بأصواتها». الذكرى كنقوش العابرين على الحجارة كما يقال. هل أنتِ مسكونة أم أسيرة للذكريات وإلى أي حد؟
– الذاكرة هي عصفورتنا الشقيّة ولعنتنا الأبديّة. هي اللغة الخاصة التي تتحدث بها حياة كلٍّ منا معنا ولا يفهمها غيرنا. أسرارنا التي تنمو داخلنا. لا يمكننا التنصّل منها ولا يمكنها الاختباء عنا، فهي تبدأ دائماً كلما انتهتْ. كنتُ كثيراً ما أمارس جنون التمنّي بأن تتخلى عني ذاكرتي حين تنبض ذكرى ما بوجع كبير أو نزفٍ لذكرياتٍ أخرى تجرُّ خلفها كل السلبية الممكنة في الحياة، لكني أعود وأتخلى عن هذا الجنون المحض. الذاكرة هي كل ما سيتبقى لي مني وممن أحب. إذا فقدتُها، سأفقدني وأفقدهم، وحتى لو تمكنتُ من التصالح مع فكرة فقدي، كيف سأتمكن من التصالح مع فكرة فقد مَن أحب مرّتين؟
• بين «أنثى على أجنحة الليلك» و«مساحة منذورة للفراغ»؛ ما القادم شعرياً في العام الجديد للناصر؟
– بعد «أنثى على أجنحة الليلك» و«مساحة منذورة للفراغ» مساحةٌ ممتدّةٌ من التأمّل، ومحاولاتٌ لخوض تجارب جديدة أكثر نضجاً في القراءة والكتابة، وأملٌ كبير للأجمل دائماً.
المادة للحياة
تعليق واحد