خريفيات (محمد لمين محمودي)
لا اريد المطر ولا اسأل الله ان تكثر نوقكم ودوابكم.. المطر بالنسبة لي يعني الأمراض والبعوض وضيق التنفس والترحال والطرد من ظل المخبزة.
الآن في هذه الساعة المتأخرة من الليل لا يتحرك غير انفاسي وهي ترتفع وتهبط..السل ينخر عظامي والبلاط القذر بدأ يسخن بعد ان كان باردا دون ان يمر بمرحلة الدفء.. لقد دخلنا موسم الاكتئاب وتقلب أمزجة المتصدقين..في فصل الخريف لا أحد يتصدق علي..الأثرياء لن يخرجوا ايديهم من سياراتهم اوثلاجاتهم خشية ان يحترقوا فالحر قاتل..الفقراء عادة يمرون من هنا في سيارات اجرة متهالكة في طريقهم الى الجنوب فعلاقتهم بجنة تفرغ زينة علاقة عمل او سؤال او تملق بالنسبة للسيئين منهم..حين تتوقف احدى السيارات ارفع رأسي لمعرفة صاحبها من حذائه او ساقه او قدمه.اذ لم اعد قادرا على الوقوف..احس بصداع صار ملازما..تميد بي الأرض متى هممت بالوقوف وكلمة الصدقة لم تعد قادرة على الخروج من فمي كما كانت ايامي الأولى في قتل كرامتي..حذاء اوروبي دخل صاحبه المخبزة مسرعا وخرج ليطير بسيارته قبل ان احاول الزحف نحوه..موسيقى صاخبة..لابد انهم جينكات او بنضيات هؤلاء يعطون بكرم ويداعبونني عادة ويحدث ان يعرضوا علي لفافة مخدرات..لا اريد فالطبيعة انتصرت علي وانا في صحاتي فكيف اذا غيبت وعيي..احس الحمى تعبث بعقلي وصدري يؤلمني فثمة خطب لم اعرفه..لايهم..مرضت مرات وشفيت دون ان اقترح على نفسي الذهاب الى المستشفى..طبعا كنت سأقترح فقط..الحياة بالنسبة لي مقترحات لاغير..اقترح على نفسي الركوب مع تلك البيضاء التي تتحدث مع صاحب المخبزة بالانكليزية ورغم انها بيظانية الا انها تكره النعنع وتتحمس كثيرا حين تقول لبائعاته انا لا اشرب الشاي ولايعجبني..لم افهم! لكنني اقترح على نفسي تمضية وقت معها في بيتها..معطفي البسه منذ عشرين سنة..لم اغيره مرة واحدة..هو بطاقة هويتي الحقيقية فيه آثارالمناخ الذي اظلني منذ امد بعيد وفيه امراضي وادوائي وذكرياتي وعلاقاتي الغرامية ومن تصدقوا علي ومن عبسوا في وجهي ومن حزنوا لرؤيتي ومن مروا دون ان يلحظوا وجودي وما اكثرهم..في بعض الأحيان يخيل الي ان احدهم سيمر مني..لست شفافا الى هذه الدرجة لكنه لايعتبرني فقط.
مشاهد عديدة مرت من امامي في الكثير من الحالات اكون نائما تحت كيس من كرتون او في ظل سيارة اعرف برنامج صاحبها اليومي..مات اناس كانوا يعتقدون بأنني سأسبقهم الى جهنم وافتقر اغنياء بعضهم كان لايعيرني اهتماما وبعضهم ك”رائحة حجر” بالنسبة لهم..مر انقلابيون من امامي وهم يعتقدون انهم سيحولون زوجاتهم الى “تكيبرات” وابناءهم الى بدور لكن انتهت احلامهم في السجون..اضواء المدينة لم تعد مريحة لقد مددوا ساعات الحر بمصابيح الطاقة الشمسية..لم يعد بمقدوري النوم اذ اصبح النهار نهارين احدهما يصلح للنوم لكن فقط لمن بيوتهم صغيرة وموصدة..بيتي كبير ومضاء بالكامل بالطاقة الشمسية ولايزعجني اكثر من ذلك الا ذهابكم الى بيوتكم حيث ابقى في المدينة الكبيرة وحيدا وقد تحفني القطط وتعزف لي بمواء جنائزي معزوفة “الراعي الوحيد” ..هل تصدقون ان اصحاب المطاعم يرسلون الطعام الى المكب ولم يفكروا فقط في انني احتاجه..يظنونني انسانا آليا يصرخ ويعمل بالصراخ دون بنزين..احيانا اكرر
جئت لا اعلم من اين ولكني اتيت..حقا لا اتذكر من انا ولماذا انا مختلف وهل كان لي قوم يحبونني ويهتمون لأمري..لا اعرف..ما انا موقن منه الآن هو انني ابكي فلايبكي احد واحزن ولايحزن احد واجوع فلايطعمني احد ولايكترث لمرضي اي منكم..والأكيد انني سأموت ولا احد منكم سيبكي..هنالك شخص تعيس الحظ سيحملني مضطرا الى حفرة ويدفنني ليعود وقد فاته ربع يوم من ايام الافتراس: مات بجانبي احد المتسولين فوجدت نفسي ملزما بدفنه لكن تعطلت في المستشفى حتى ندمت على مبادرتي..هكذا سيبكيني ذلك الرجل..اكح بوتيرة غير مألوفة..هل هي النهاية ورائحة الخبز حين ينضج تزكم انفي..ايعقل ان اموت في اسعد الأوقات الى قلبي، ايعقل ان اموت في الساعة التي يناجي فيه الخباز ربه وهي ساعة عطفه علي..هل سأموت دون ان احمل رغيفي معي..لا لن اموت فلابد مني لأنني انسيهم مآسيهم متى ابصروني اسير كالجناز: صدقة صدقة.
لن اموت فأنا نقطة استدلال مهمة في حياة الجميع..لابد من بقائي حتى يقول احدكم لزوجته وابنائه: احمدوا الله فنعم الله علينا كثيرة ماذا لو كنا مثله..تريدون صوتي في استسقائكم؟ بيعوا دابة او دابتين وامنحوني الحياة..لم تفعلوا ولن تفعلوا انا لا اريد البلل والرطوبة لذا لن أسأل ربي قطرة ماء واحدة.