سيريندا/ مباركه بنت البرا
سيريندا
اسمها سيريندا، اسم شاعري يصلح عنوانا لمجموعة شعرية يكتبها شاعر رومانسي. تبدو في الثلاثين من العمر، ممتلئة الجسم، قصيرة القامة تقابلها عادة صبيحة كل ثلاثاء، وكأنهما على موعد مع هذا اللقاء.
تأتي سيريندا قبل كل الناس لتمسح البلاط، وترتب مكاتب المشرفات، وتنظف الحمامات، وتأتي هي الأخرى بدورها مبكرة لتضمن الحضور قبل بدء الدوام، نظرا لتعذر المواصلات، وبعد الشقة في هذا الشتاء الثلجي العاتي.
وجهها الأسمر يحمل طفولة شقية يطالعها المتبصر في عينيها اللتين انطفأ بريقهما واستحال صفرة داكنة، أما ابتسامتها المسالمة فما تزال تختزن شموسا وضيئة من الشرق رغم الجهد والإرهاق، كلما ترى زينب تبتسم لها وتحتفي بملحفتها التي تشبه في لفتها ثوبها المحلي الذي تركته في مرفئها القديم، وَأُبْدِلَتْ به بلوزة زرقاء داكنة اللون، كتب عليها بالبنط الأبيض العريض”شركة الرائد للتنظيف”، تبادلها البسمة وهي تحس دفء مشاعرها وحاجتها إلى وجه حنون.
حداها فضول غامر هذا الصباح أن تسائلها، وأن تتجاوز لغة العيون إلى لغة الحديث، أحست أن رابطا ما يجمعهما، وأنهما بحاجة إلى الحديث، التقتا في هذا المكان بحي الملز، وكأن القدر يرتب حديثا بينهما، فكلاهما جاءت من بلاد بعيدة يحكمها الفقر وسطوة المتنفذين، وكلاهما تأتي صباحا قبل كل الناس، لتقوم بواجبها المهني، و تجاوزت زينب حاجز الصمت وبادرتها:
– ما اسمك (وات إيز يور نييم؟)
– سيريندا.
– ومن أي بلد، (وير آريور كونتري؟)
– سيريلنكا.
– وأسرتك؟ (وير إيز يور فاميلي؟)
– ابتسمت وقالت: كلو في سيريلنكا؛ ماما، بابا، بيت، بقرة، موز!
– هل لديك أولاد؟ (دو يو هاف اتشيلدرن؟)
– زادت البسمة أكثر وأضافت: في سيريلنكا. – كم عددهم؟ (هو مني ؤوف يور اتشيلدرن؟)
أشارت بالخنصر والبنصر، لتوضح أن ابنيها ما زالا صغيرين، وترقرقت في عينيها الدموع.
توقفت زينب عند هذا الحد من المساءلة؛ فإنكليزيتها المبتدئة، وعربية محاورتها المكسرة استنفدتا مخزونهما ، والذكرى العارضة حملت مواجعها، وأذكت في الذهن أسئلة ملتهبة!
آه كل شيئ في سيريلنكا ماما، وبابا، والطفلان الصغيران!!!، اقْتُطِعَ هذا الجسد من فصيله وأرضه، وجاء هنا روحا غريبة، تركت كل ما لديها في سيريلنكا، وجاءت تبحث عن شيء لسيرلينكا، فأكثر منقاسم مشترك يجمع بينهما إذن.
وانسحبت محدثتها بسرعة بعد أن نابت لغة الدموع عن الكلام، كانت تجر وراءها السطل الكبير والمنشفة والمكنسة، إذ لم تنه التنظيف بعد، ولا تريد أن تتأخر في مهمتها. ودت زينب لو استوقفتها محدثتها وطرحت عليها نفس الأسئلة:
-ما اسمك؟
-ومن أي بلد أنت؟
-وأين أسرتك؟
لماذا لم تسألها فتقدم لها بطاقة تعريفها كاملة؛ كما قدمت هي الأخرى بطاقة تعريفها؟ يا لها من عبيطة!
ألم تتعلم آداب الحوار؟ عرفت عنها زينب ولم تعرف هي عنها، ولا عن بلدها. لم تعرف أن مسائِلتها قطعت آلاف الأميال وتركت كل شيئ هناك في ذلك البلد الساجي في أطراف الصحراء، جاءت مثلها تبحث عن شيء لبلدها، وتركت أشياءها الجميلة في الحياة. ما قيمة الحياة بدون أشيائنا الجميلة ؟
كيف نترك الحياة ونأتي بحثا عنها؟
لم تتريث، ولم تبيت الفكرة كثيرا كما لم يبيتها غيرها ممن تفرقت بهم السبل وتوزعتهم القارات، جادين في البحث عن سبل للحياة.
عرفتهم الأزقة والحواري، وامتلأت بهم الأرصفة ومحطات المترو والأحياء الفقيرة في كبريات المدن الإفريقية والآسيوية والأوروبية؛ تجدهم في زايير والكونجو وآبدجان وطرابلس ووهران وانيويورك ومدريد ولاس بالماس وباريز وبلجيكا!
في كل مكان موريتانيون تائهو النظرات، محدودبو القامات رغم حداثة سنهم، يمارسون أشغال الباعة المتجولين، والحمالين، وسائقي التاكسي وعمال التنظيف، في المتاجر والمقاهي، والمزارع، وحتى تجدهم متسكعين في الحدائق العمومية وعلى أطراف الأرصفة. جلهم من حملة الشهادات العليا، ومن ذوي التخصصات العلمية التي تحتاجها كل دولة تساير ركب التقدم، جدوا واجتهدوا، وعادوا إلى الوطن بحقائب تملؤها الشهادات والآمال، وبابتسامات مشرقة تعلو الوجوه، دبجوا السير الذاتية ومهروها بالشهادات مصدقة من الجهات المعنية، ووزعوا الملفات في الدوائر الحكومية، ولدى الشركات الخاصة، وترددوا سنين عددا دون كلل أو ملل على المكاتب دون جدوى!
ثم بدأوا شوطا ثانيا عن طريق الوساطات فوزعوا الملفات من جديد على المسؤولين، توسلوا لحارس المنزل كي يشرع الباب أمامهم، وتقدموا بهدايا قدر المستطاع للأولاد والزوجات.
في مرحلة لاحقة، وبعد يأس ارتأوا أن ينتظموا في الأحزاب السياسية ويختصروا الطريق من الباب الأوسع، فانتسبوا لأحزاب الأغلبية الرئاسية، ودأبوا على التفاني في الحملات الانتخابية وزيارة مقر الحزب الجمهوري صباح مساء، وصفقوا في وجه الأمين العام للحزب، لينفتح الكنز السحري ويخرج علي بابا برجال الأربعين حاملا معه الكرسي الهزاز والسيارة الفارهة (س ج ) وأرصدة في مختلف البنوك.
لقد نصحهم الأقربون دوما بالتأني والصبر، وعدم اليأس فالمستقبل واعد، والحزبيون حريصون على إرضاء مشاييعهم. وهكذا لبثوا أعواما يتحينون الفرصة ويحرصون على متابعة مجالس الوزراء كل يوم أربعاء، لم يكن يتسنى لهم أن يروا مسؤولي الحزب البارزين إلا لماما، رغم أنهم مستميتون في الخدمة، ومتطوعون بالجهد والوقت، لذلك ظلوا يفكرون في اليوم الموعود، حين ينعقد المهرجان، وتعلق الشعارات المختلفة، وتزدحم الأكتاف وسط قرع الطبول، وهياج المتحمسين، وأزيز السيارات.
يحضر الأمين العام محاطا بكوكبة من المقربين والأتباع، فيعلو الهتاف بحياة الرئيس، والأمين العام، ثم يشتد التصفيق، وتنمو الآمال وتزهر بهذا اللقاء مع الحزبيين، ويوزع الأمين العام الابتسامات، ويعد العاطلين بالعمل، والموظفين بالترقية، ويتحدث عن افتتاح العديد من المشاريع التنموية لصالح الشباب والنساء؛ مما يضمن رفاها شاملا للمواطنين، ويعدد إنجازات القيادة الوطنية، وما ينعم به البلد من هدوء واستقرار ورفاهية يحسده عليها الجميع، ويقطع الهتاف والتصفيق الخطبةَ العصماء، وقبل أن ينزل من المنصة للخروج إلى سيارته الفارهة يهمس في أذنه أحد المقربين، فإذا به يعتلي المنصة من جديد، ويجأر بحباله الصوتية مردفا:
-سألتقي كل ذوي الشهادات العاطلين عن العمل بعد انتهاء حملتنا الميمونة وسأنفذ كل المطالب…