مجموعة الشيخ بكاي القصصية القصيرة جدا “الزقوم” في عرض للكاتبة النجاح بنت محمذن فال ح (1)
شعر وجن:
“غنى الجرح دما وهو يحلم بعناق دافئ مع السكين، وهام في وادي الجن يردد أنشودة شعرية رائعة صاغتها جنية مبدعة قبل أن تُمسخ في شكل إنسي..
.. فَحَّ إنسي
قال الجرح: الجنُّ تعبد الشعرَ والانسُ تبيعه
“.. وهرب
احيانا تنتظم خيوط الابداع فى نسق أدبي يجمعه خيط..
وفى مجموعة “الزقوم” ياتى هذا الخيط مستمدا من كآبة
الرومانسي وهروبه إلى الطبيعة كملجإ ومغارة لمطاردة الاحلام..
فى القصة الاولى تطالعنا الجروح وهى تغنى احْتِفَاءً بلقاء دافىء بين جرح وسكين، فى قصة زمانها مجهول، ومكانها وادي الجن. وللقصة بطلان رئيسيان هما السكين، والجرح.. ولها بطلان ثانويان هما الجنية ( أنثى) و الانسي (ذكر)..
ولانلبث ان يتحد بطل القصة (الجرح) مع بطل ثانوى، حيث مجد الجن الذين يعبدون الشعر على عكس الانس الذين يبيعونه..
يتنزل هذا النص ضمن أدب القصة القصيرة جدا، لكنه مشبع بمداليل الحلم الرومانسي المنتظم ضمن الدراما المنبعثة من لقاء السكين والجرح فى هيام.. وأنشودة شعرية صاغها الجن ملهمو الشعر، لياتى الهروب.. غير أنه هروب إلى اللازمن فى تحد للقيود طالما تعاطاه الشيخ بكاي، الذي يقول في مقام آخر:
قيدي قوي وقيدك أقوى ”
وظلك يكفى..
فلا تهربي”
.
من الطبيعى أن يتوق الاديب إلى حرية افتقدها دهرا فى سجون الطغاة.. فقد كان الشيخ بكاي سجينا ايام انتفاضة الناصريين 1984 .. فالقصة مليئة بالإيحاءات المعبرة عن الغضب : “السكين” ، و”الجرح ” تعبيرعن الحالة الشعورية للاديب الجريح ..
تبدأ القصة: “غنى الجرح دما “.. هذا ثراء منقطع النظير. فالجرح الذي “يغنى دما” بقي حالما يتوق إلى دفء العناق فى حرية طليقة (وادي الجن)،حيث لاسطوة للقيود …
ولكن القصة ايضا مليئة بالسخط !.. سخط الذكورية على الانوثة.. فالجرح حالم لكن السكين جامدة إلى حد الانفصال عن وادي الحرية، وادي الجن.. بل الى حد ان مسخت في شكل إنسي.. وهنا تحضر نزعة الرجل الشرقي. فلاصوت يعلو فوق الجراح..
وكخاتمة يانس الجرح -البطل – لحرية الجمهور فى وادي الجن، ويخفى قسرا أنوثة جامدة: سكين تقتل.. تجرح.. ولكنها
لاتوزع الدفء.. فتكون الخاتمة استأناسا للجمهور بلا انثى : (قال الجرح: الجن تعبد الشعر والانس تبيعه)، فى مقت صريح لمجتمعات القيود -التى تخضع الشعر الذى يرمزهنا للحب فى تجليه فى اللقاء الدافىء- لعقود البيع..
ومع ان هذا الفن لم يحظ حتى الآن بما يستحق من الدراسة إلا ان وسائل التواصل الاجتماعى قد تفرضه كبديل عن بعض الالوان الأدبية.. ثم إن الاديب الموريتانى ايا كان، قد يلائمه هذا اللون المناسب كما وكيفا لثقافة (لغن ) ذات التميز ثراء واختصارا..
فهل نستطيع الجزم بان القصة القصيرة جدا عند الشيخ بكاي هي( طلعة ) نثرية فيها هام فى وادي الجن ينشد حرية مفقودة فى عالم الانس ليستمر هذا الخيط الناظم لمجموعة الزقوم المستوحاة من القرءان “إن شجرة الزقوم طعام الاثيم ” فيصل الى حد اقصاء البشر فى القصة الثانية:
( النجيع):
“زلت قدم ..غاص غراب في الطين، وغنى مع البوم أنشودة الحلم – السم..
وفي مكان قصي استيقظت نحلة على صوت كائن يقول: لك الخيار بين القلب والرئة والكبد…
وقبل أن يرد النائم غشيه دفق النجيع، ومضى يصارع الموج الأحمر وسط الظُّلَلِ الدكناء”..
فى القصة الثانية “النجيع” تبدو الشخوص مختلفة حيث يختفى الأنس إناثا وذكورا وتنفرد كائنات اخرى بدور البطولة: “الغراب” ،”البوم: “النحل”..
ينهزم الحلم حين يغدو سما فيحيل إلى انعدام الحياة البشرية رغم توفر شهودها ( أطلالها) ومنها الغراب والطين.. والمعروف أن اول حياة بشرية بدات بهذين الشاهدين:
الطين الذي كان منشانا (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ)، والغراب الذى كان اساس الفرج فى حل الابهام الذى حل بابن ءادم ( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه).
وغير بعيد عن عملية الخلق تبدأ القصة بالزلة:
“زلت قدم”، لينسجم التلاقى الفنى بين الغراب والطين وزلاتنا( فازلهما الشيطن عنها) لتاتى ملحمة النشوء اوأنشودة الحياة في جملتين “زلت قدم “.. “غاص غراب فى الطين”..
ولكي يبقى لهذه الانشودة معنى أطل علينا مايرمز للحياة من خارج فعل البشر.. انه الغناء :
“وغنى مع البوم أنشودة الحلم – السم” نحن إذا أمام ملحمة فى أقل من سطرين..
حياة تتراءى رمزيتها من خلال شخوص من خارج البشر وانشودة حياة صاغها أبطال هذا الكون منذ الوهلة الأولى:
-“الغراب” ، و”البوم” الذي هو عند الموريتانين رمز لخلو المكان من الجنس البشرى..
-النحلة:
وهي البطل الرئيس الذى يمثل الشاهد على الفتك. فكأن هذا الشاهد جاء ليفك الابهام المتاتى من “الحلم – السم” .. بل لكأن الغراب الذى كان مصدر فك للابهام يوما ما، جاء هذه المرة ليعزز الابهام المتمثل فى غناء مالبث ان أصبح سما، لتاتى النحلة وهي فى رمزيتها الدينية من مصادر فك الابهام: ،(يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه فيه شفاء للناس ) غير أنها وهي الانثى بطلة القصة بمالها من تطاول وازدواجية فى الرؤى تاتي لتكون شاهدا على فتك بنائم ما استيقظ إلا على خيارات اللدغ الثلاثة : القلب ، الرئة أو الكبد.
ويستمر الابهام فلا تتاح للنائم فرصة الاختيار إذ يلفي نفسه وقد جرفه نجيع دمائه..
ليس جديدا أن يتفرد أديب عربي فى كون خال من الانوثة البشرية.. وقد لايوافقنى البعض لكن الشنفرى تفرد هو الآخر:
تَرودُ الأَرَاوِي الصُّحْمُ حَوْلِي كأنها / عَذَارَى عَليهنَّ الْمُلاءُ الْمُذَيَّلُ
قد يكون الشعور بالمرارة تجاه غياب أنثى البشر متات من حالة اليأس التى عاناها الانسان العربى شاعرا كان اواديبا إزاء مالحق بانثى قومه من شبه انقراض نتيجة لظاهر ة وأد الانثى التى انتشرت قبل الإسلام.. كل ذلك لايزيد هذه القصة الا ألما وحسرة، وابهاما ناتجا عن انعدام الحلم الذى استحال سما..
وتاتى الخاتمة :
فعلى افتراض ان النائم الموغل فى رمزيته للابهام هو من ذلك الطين الذى هو ابن ءادم فلم يترءى فى القصة إلا حين حل به الدمار و دفق النجيع، و”مضى يصارع الموج “الأحمر” وسط “الظُّلَلِ الدكناء” ..
وكان البعث: …
“استنشق “خيوط” أوكسيجين شحيحة تسبح كسلى مخنوقة بين روائح المعقمات والأجساد الآدمية المتخاصمة مع الماء..
طفق يشرب الحزن من شفاه أشباح الليل المتثائب
أطلت لحظةٌ من الزمن الهارب…
قالت نفحة عطر لجرعة أمل نائمة: “استيقظي”…
وكان البعث…”
بين حالة انعدام الحياة البشرية فى برزخ القصة القصيرة جدا ” النجيع”، وحالة البعث من اللاحياة تأتي القصة القصيرة جدا “… وكان البعث”.
فإذا كان من خصائص القصة القصيرة جدا التهكم والسخرية والهجاء اللاذع فإن قصة “وكان البعث” انسجمت مع كل هذه الخصائص بدء من شح “خيوط” الاكسجين وكسلها عندما تسبح فى ضدية متناهية مع المطلوب ..ثم الهجاء اللاذع فيما هو غير متوقع من رواىح المعقمات والاجساد الآدمية ثم
العودة الى الضدية فى الاجساد الآدمية المتخاصمة مع الماء والحال ان البشر من ماء أصلا ( وجعلنا من الماء كل شيء حي)..
فلا تترءى الضدية هنا فى تناقض هذه الاجساد الآدمية مع الماء فقط، بل تتعداه إلى خصام مع الحياة مع الحلم ..لان الماء أصل الحياة..
ومازلنا مع ضمير الغائب : البطل المعتوه المتخاصم مع الحياة حتى طفق “يشرب الحزن من شفاه أشباح الليل المتثائب” .. كلها صفات تجمع بين الضدية والهجاء اللاذع..
وبما ان المسند إليه هنا هو البطل الذى يمثل- وجوديا-
المعتوه الخارج من كل تلك الاجساد المتخاصمة مع الماء،
فلاغرابة إذا طفق يشرب الحزن من “شفاه أشباح الليل”..
الكل هنا متناغم.. ضمير الغائب الذى هو بطل القصة الوحيد منذ البداية، هو نفسه الذى استنشق خيوط أوكسيجين شحيحة ، ولذلك طفق يشرب الحزن.. وقد تم ذلك فى تناغم مع معظم الخصائص الفنية للقصة القصيرة جدا..
وبما أن الاحلام لاتموت وقد تجرى الرياح بما لاتهوى السفن.. فإنه بين شخوص القصة (نفحة عطر)، وجرعة أمل نائم ، تراءت الاحلام الهاربة ليستيقظ الحلم، حيث كان البعث..
هل كان البعث حقيقة ام سرابأ ؟.. إذا كان البعث يمثل الرؤى والحلم فهل يكون السراب كذلك..؟ سنحكم على ذلك من خلال هذه القصة:
سراب:
“صب الخيال في أذن الحلم الدفين أنشودة الأمس فانتفض.. السراب”.
من المداليل المشتركة بين ماهو غيبى وماهومرئي من الطبيعة، ومنه استلهم القرءان مشبها اعمال الكافرين بالسراب الذى يحسبه الظمآن ماء.. اما من المنظور الجغرافى فهو انعكاس اشعة الشمس على سطح الارض يخاله الناظر من بعيد ماء..
اما السراب من المنظور المادي المحسوس فهو وهج يخاله الناظر ماء وهو انعكاس لاشعة الشمس على قاع الارض وهو هنا بطل القصة لكنه فى تجليه الغيبى والجغرافى لايحيل إلا إلى العدم..
لذلك تناغم مع الخيال فى مستويين الأول:
– مستوى الحلم فى دلالته على المستقبل..
الثانى : أنشودة الامس، فى إحالته إلى الماضى. فنحن أمام بطل واحد يتنازعه الزمن الماضى (انشودة الامس)، مع الزمن المستقبل ( الحلم الدفين),,
لكن البطل لايخضع لا إلى “الحلم الدفين”، ولا إلى “انشودة الامس” .. بل يخرج فى تمرد صارخ .. و”انتفض السراب” فكانت الخاتمة صرخة فى وجه الزمن العاتى بشقيه الامس والغد..