مجموعة الشيخ بكاي القصصية القصيرة جدا “الزقوم” في عرض للكاتبة النجاح بنت محمذن فال ح (2)
<strong>نفحة عطر
“أرسلت مُزْنةٌ نفحة عطر محتشم وغنت من مقام يعرفه.. مد الحنين ذراعين مفتوحتين فعانق السراب..”
المزن مصدر للماء الذى هو اصل للحياة ( افرايتم الماء الذى تشربون آنتم انزلتموه من المزن ام نحن المنزلون ) وهو بمثابة المنبه الدافع إلى كل احداث القصة ..وهو الفاعل فى جملة فعلية يتصدرها فعل متعد -ارسل-
اما العطر فمرسل من قبل المزنة ولذلك فهو محتشم لالتصاقه بالانثى – المزنة – التى اسند إليها فعل الغناء -وغنت – هنا الكثافة ..فالمزنة هي التى ارسلت نفحة عطر .. وهي التى غنت مقاما …ويتسرب الإبهام هنا الى القصة حين لايتم التعرف على العارف بالمقام المُغنٌى ..
ف ليتم التلاقى بين اثنين هل هذا المجهو ل هو العطر القادم من المزن
ام أن هذا المخفى هو الذى ما يلبث ان يظهر فى القصة الا وهو الحنين – مد الحنين ذراعين مفتوحين – ليكتمل التلاقى بين اثنين فقط من شخوص القصة هما :
نفحة العطر فى رمزيتها للانوثة -المزنة –
الحنين فى رمزيته للذكورية المستمدة من اسناده إلى فعل مد فى الماضى مسندا للمذكر :الحنين فضلا عن دلالة لفظ الحنين إلى المفرد المذكر …
وقد اتت كل الافراد فى صيغة المفرد :
– مزنة – نفحة – عطر – مقام …. الى غير ذلك من مفردات القصة باستثناء الذراعين المفتوحين ! فى تعلقهما بالاحتضان المنبعث الذى يتناغم مع الحنين ولكن اي احتضان ؟
هنا تعود القصة بنا الى الابهام .. إلى الرمزية
فهاتان الذراعان المتسعان لاحتضان حلم مايلبث ان يتبخر فالحنين عانق السراب لتكون نهاية القصة ماساوية تلك القصة التى بدات بالحياة.. بالمزن ..بالعطر .. بالغناء.. إلا ان الهزيمة داهمت احد اهم شخوصها ألا وهو الحنين الذى ءالت به الاحوال إلى عناق السراب
ومن عناق السراب الى قصة :
العناق
“حمل الصوت عطرا.. عانق الشوق العطر وجلسا يستنشقان رائحة أرض بللتها دموع الذكرى…”
تبدا القصة بجملة فعلية مكتملة الاركان يتصدرها فعل حمل وهذه الحمولة الثقيلة هي عبء على صدر البطل الذى هو الصوت الحامل للعطر فى ابهام مايلبث ان ينكشف بمجرد ان يعانق العطر المحمول الشوق.. ثم يتحدا فى فعل جلسا الذى ورد فى صيغة الماضى فى انسجام مع فعل حمل الذى تصدر القصة ..هذا المنبه- البشرى- (الصوت المحمول) ماجاء إلا ليعزز كثافة فائقة فى هذه القصة يتنامى بمقتضاها مفهوم الحمولة ليسع : العطر ، الشوق ، رائحة الارض ،الدموع ،الذكرى ….
ليحدث انزياح و تدرج فى شخوص القصة فبعد ان كان الفاعل – الصوت – هو القائم بالفعل فى القصة تطور الموقف ليصبح العطر والشوق هما طرفا العناق
اما الشوق فهو الطرف الثانى فى عملية العناق فهو الفاعل لتكتمل اركان عمل ملحمى فى سطرين :
صوت يحمل عطرا
شوق وعطر فى عناق بعيدا عن محدودية التجسيم ..بعيدا عن ضغط الرقيب بعيدا عن كل المدركات ..
هروب من المدركات العقلية والحسية يعطى للعلاقة الاسنادية حريتها لتسبح فى مدارج الخيال ..
من خلال إسناد فعل الجلوس إلى ثنائي الشوق والعطر فيظل الابهام سيد الموقف.. وليستمر الشوق مزاحما للعطر حتى يصيراجليسين فى محنة تيه تتقاذفهما رائحة الندى المنبعث من ارض أمطراها دموعا وهذه الصورة مستمدة من الذاكرة العربية فيما يتعلق بحسرة اللقاء .. المنبعثة من قرب ساعة البين :
“وإن شفائى عبرة مهراقة
فهل عند رسم دارس من معول”.
وقد يغذيها إخفاء مصدر الدموع فى خاتمة القصة ( ارض بللتها دموع الذكرى) …
هنا الكثافة والابهام على عكس ادب اللقاء عند العرب الذى نادرما يسند حسرة البين وترقب اللقاء للمراة كمافى شعر امرئ القيس:
“وماذرفت عيناك إلا لتضربى
بسهميك فى اعشار قلب مقتل
وان كانت الحسرة هنا موغلة فى الابهام بحيث لاتسمح لغير الاثنين بتعاطيها فإن حسرة اللقاء بين العطر والشوق كذلك لا تسمح لغير اثنين بان يلتقيا على ارضها المبللة بدموع الذكرى ..
اما الخاتمة
فهي فى رمزية الذكرى الى كلما يحيل الى الجليسين ..الى دموعهما ..
الى الارض..
إلى الدموع ..
إلى الذكرى .
الزقوم
“هجر المصحفَ متعهدُه واستسلم للإغواء… بال ثعلبان على وجه المصحف..
ومن غيمة بعيدة أذَّنتْ هواتف : سيبقى المصحفُ هو؛ والثعلبانُ كما كان…
وليشرب آكلُ الشجر الزقوم عليه الحميمَ شُربَ الهيمِ”.
الزقوم
هذا العنوان مستوحى من القرءان الكريم ( إن شجرة الزقوم طعام الاثيم ) فمن الوهلة الاولى تتراءى المداليل الغيبية التى تفوح بمناحى الترقب والقلق اتجاه ماهو مغيب عن الانسان .. ولذلك بدات القصة بالهجر !
واي هجر ! هجر للمصحف ! بل ومن قبل متعهده ! لتتعدد شخوص القصة على النحو التالى :
-المصحف -الوجه فى رمزيته للحبيبة
-متعهده في رمزيته للعاشق المتبتل
– الثعلبانُ فى رمزيته للمكر وفى إيحائه بالتازم.
ويبدا المسار -الماساة بقبحه الكثيف وهجائه اللاذع لاهم شخوص القصة وهومتعهد المصحف الذى هجر ذلك الوجه المقدس ! وتمشيا مع حاجة القصة القصيرة جدا إلى الابهام والتكثيف تاخر ذكر الوجه -المصحف ولم يرد إلا كتجسيد لتأزم العقدة فى القصة (بال ثعبان على وجه مصحف )فمن كا يجب أن لايهجر ذلك الوجه المعبود ؟
ومن كان يجب ان يبقى لصيقا به يقرا فيه ويتبتل ؟
إنه بطل القصة -متعهد المصحف – الذى هجره .. فاستسلم الوجه للإغواء ..هنا تاتى العلاقة الاسنادية لتعززالابهام اكثر ..فالفعل (استسلم ) ذو فاعل مستتر ، هل هو المصحف -الوجه ام متعهده ؟ إنها هي بمايمثله المصحف- الوجه من رمزية لها …إنها هي بكلما يتنزل بمنزلتها من المعبودات ..
اما البطل الثانى الثعلبانُ فقد اتى ليعزز مسار الابهام والتمرد والثورة فى القصة ولينفض الغبار عن ملامح الرجل الثانى فى القصة الذى اغوى ! ربما واقتحم قداسة التفرد العاطفى .. انتهك حرمة المصحف -الوجه -المعبود المقدس – بال ثعلبان على وجه مصحف –
إنه الغازى .. إنه الغاوى ..
وللإغواء إيحاءاته الرمزية الدينية ايضا ذات الارتباط بالعذاب (فاغوينكم إنا كنا غاوين فإنهم يومئذ فى العذاب مشتركون )كما ان له مداليل اخرى ذات منحى عاطفى..
فلطالما كان محل نفور واستهجان من قبل عاشق يتوق الى مغريات التفرد !
تفرد طالما تخيله ادباء العربية يقول الشيخ بكاي نفسه :
“ولو كان لي الامر ماكنت جرحا يؤرق ليلى .. ويسرق عمرى ..
وكنا سكنا عيون السحاب ..وكان لنا الفجر بيتا يطير.
فنعلو .. ونعلو فنسبح بين ذرات الأثير..
فنطفو على قمم الغيم نلهو ،
ونمرح فوق هضاب النجوم..
ونفترش الأفق الذهبي بعيدا
ونلبس صافي النسيم”؟
وبين تشنج القصة بين ما هو دينى وعاطفى ، يطل علينا احد ابرز شخوصها .. الا وهو الثعلبانُ فى رمزيته للخسة والوضاعة القبيحة ..فى تسلطه من جهة، وفى نديته للغاوى -متعهد المصحف الذى هجره، ليكتمل تكثيف الازمة الأخلاقية والدينية والعاطفية فى نفس الوقت ، بما تاتى من مسخ لمتعهد المصحف الذى هجره وتركه فريسة للغاوى الذى استحال في مرحلة ما من مراحل القصة إلى ثعلبان ..
وتتعالى هنا نبرة الموروث الدينى والثقافى العربي خاصة فى حكاية غاوى ابن عبد العزى الذى كان سادن صنم فراى الثعلبان يبول عليه فانشد :
“أرب تبول الثعلبانُ براسه ؟
لقد ذل من بالت عليه الثعالب” .
ثم اسلم وسماه الرسول عليه الصلاة والسلام راشد بدل غاوى !
وفى حين تنتهى حكايته بانفراج للعقدة كذلك كان الامر فى قصة “الزقوم” حيث تتوارى نبرة السخط والهجاء حين سطع بعض النور القادم من صوت غيمة بعيدة لكنه مايلبث ان يعزز الابهام فى القصة لان الاذان مجهول المصدر “اذنت هواتف…”.
كان الاذان بمثابة منبه الى طرف ثالث ماجاء إلا ليفتك بالبطلين :
متعهد المصحف، والثعلبان ، حيث أبقى للمصحف قداسته ، وللثعلبان خسته .. ثم تكتمل الصحوة ..
تاتى خاتمة القصة مليئة بالأيحاء الغيبى: “الزقوم” ،”الجحيم” ، “شرب الهيم” .. وذلك نكاية بالكل ممثلا فى متعهد المصحف.. وفى ما وصف في القصة بالمصحف، وفى الغاوى الذى مايلبث ان يتحول الى ثعلبان..
لكن يد الاقدار تفتك بالكل ! نكاية وتذمرا، فى تصور وجودي يطرح من جديد ازمة الانسان عندما يتهاوى امام القدر !!