ديوان “سطور حمراء”… وبدايات الحداثة في الشعر الموريتاني / المختار السالم
أدرك أولئك الرجال أنَّ أقدام الحائرينَ لا تُـعبِّدُ الطرق، وأنَّ طريقَ العودةِ لا يغفرُ لأقدامَ المترددين؛ فالدروب “مؤمنةُ الأسفار”، التي لا تخدعُ مرتينِ!.
ولكن الدروب لا تحتاج أقداما ثابتة فحسب، بل لا بدَّ من “كلمات ثابتة” في ضمائر أصحابها المناضلين الثائرين على واقع لا يستحقه الشعب ولا البلد في سلطتي المكان والتاريخ.
لقد صدر مؤخرا ديوان “سطور حمراء”، بإشراف وتنسيق الزميل محمد عبد الله بليل. والكتاب غير المسبوق من نوعه، تضمن المادة الشعرية التي صدرت في ملحق “سطور حمراء” في صحيفة “صيحة المظلوم” الصادرة 1974، ومن المعروف قصة الصدور الاستثنائي لتلك الصحفية السرية في حقبة حاسمة من تاريخنا الوطني.
تضمن الديوان، الصادر عن “دار جسور عبد العزيز” في نواكشوط، 70 صفحة من الحجم المتوسط، وضمَّ بين دفتيهِ أربعة عشر (14) نصا شعريا، أنتجت في الفترة ما بين نهاية الستينات وبداية السبعينات (1968-1973م)، وكانت قد نشرت بأسماء مستعارة، ولعلها سابقة موريتانية أن يصدر ملحق أدبي كلّ نصوصه موقعة بأسماء مستعارة.
هذه الأربعة عشر نصا شعريا أنتجها خمسة شعراء هم: أحمدُّ ولد عبد القادر (الاسم المستعار: أ. عبد الله)، محمدن ولد إشدو (الاسم المستعار: الشيخ بن محمد) أحمد بابا مسكه (الاسم المستعار: أ. بابكر)، الإمام ولد اطفيل (الاسم المستعار: أحمد نعمان)، ومحمد فاضل ولد الداه (الاسم المستعار: م. فتاح).
إن قصائد “سطور حمراء” أنتجت في ظرفية وطنية وإقليمية ودولية معروفة؛ هي مرحلة الثورة على الاستعمار وعلى مخلفاتِ الاستعمار والهيمنة، والمعركة الداخلية مع التحولات الكبرى التي صاحبت انتقال المجتمع من الريف إلى المدن، وصدمة تحدياتِ التخلفِ وتشعباتهِ.
في عالم يمورُ بأحداث مفصلية من حروب وميلاد تكتلات واندثار أخرى، وتبادل حضارات أدوارها على السُّلم الإمبراطوري، وتمدد أنساق الوعي البشري على جبهات عريضة قادها الفلاسفة والمفكرونَ والمثقفون والفنانون والطلاب والطبقات الكادحة والبرجوازية على وهج الهالة الرهيبة من أوَارِ القدح بين معسكرات الشرق والغرب.
في ظلال ذلك الجو وقيظهِ وحرائقِه؛ ومن ضبابِ أبخرتهِ، ومن ندى لحظاتهِ الإنسانية المشرقةِ؛ قدر للشعراء الموريتانيين الخمسة أن يكونوا الرأس الذي يحمل محرك القاطرة. لم يكن وعيهم السياسي وحصيلتهم الثقافية مجرد الدافع رغم وجاهته؛ كانت الموهبة والحسّ اللحظويِّ بالتاريخ هو محفز “المغامرة” بهذا “الشعر” الخارج على النمطية.
وفي هذا السياق؛ نلفتُ الانتباه إلى أن أشعار “سطور حمراء” كان كل نص منها يوزع فور إنتاجهِ على النشطاءِ المناضلين من طلاب ومعلمين وشغيلة، وكانت تصل بسرعة وبقوة إلى الصالونات وقاعات الدرس والمكاتب، والقرى في الأريافِ، وكانت تنتشر بين الجمهور بسرعة كبيرة، وذلك قبل أن تصدر كملحق في “صيحة المظلوم”.
إن صدور ديوان “سطور حمراء”، يفرضُ علينا أن نعيدَ تلوينَ بعض الحقائق التي لا غبار عليها، والتي قد لا تكون بالضرورة “معلومة مشاعة” لدى الأجيال الجديدة من الموريتانيين.
الخلاصة الأدق في هذا الإطار؛ هي أنَّ الشعر الموريتاني ما بعد نصوص “سطور حمراء” أخذ منعطفا آخرَ لا يمت للطريق السابق بأي محاذاة ولا موازاة ولا اتجاه، والأدق حتى لا أرضية مشتركة. فالشعر الموريتاني ما قبل “سطور حمراء” شيء، وما بعدها شيء آخر تماما.
فقد كانت “سطور حمراء” بمثابة الرحم والقابلة، التي رعت التجربة الشعرية الوليدةَ، ومكنت لها في البنية الذهنية والذائقة الشعرية الموريتانية. لتُحْضِّرَ لقيام كيان شعري جديد، لم يكن في شكله ومضمونهِ بأقلَّ دهشة من إنشاء الكيان الدولتي الوليد وقتها، ومن “الانتماء العالمي” الذي وضعَ حدًّا لمأساة “العزلة” ولو نظريا.
إنَّ هذا الشعر الجديد المتنسمِ لأريج التجارب الشعرية العربية والإنسانية المجايلة وقتها، استخدم “شكلا فنيا جديدًا”، ففضلا عن كسر وثن “الشكل العمودي” في أذهان الموريتانيين منذ قرونِ، تم على مستوى القصائدِ (الخليليةِ)، العمل بشكل لافت على مستوى إيقاعِ الموسيقى الداخلية وبنيتِها الصوتيةِ.
جاء شعر “السطور الحمراء” بلغة ثالثة تمتاز، على رقتها، بالقوة الشديدة والشفافية البلورية الآسرة، وتمكنت من إحلال قاموس لغوي شعري محل آخر على مستوى الشعر الموريتاني. فقبل “الشعراءِ الخمسةِ” كانت القصيدَة الموريتانية غير مجازة بالانتجاع خارج هوامش القاموس، حتى الاقتراب من تلك الهوامش كان مذمة، وكانَت، تلك القصيدة “سمكة بحر لغوي”، غير مسموح لها بالتنفسِ خارجهُ.
بالطبع، هو أول شعر وطني ينحاز إلى منظومة فكرية وإنسانية شاملة وواعية بأهدافها على المستوى القيمي والحضاري.
لقد رفع سقف القيم الفوقية (العدل/ الحرية ومقوماتهما)، فشنَّ الحرب على الفقر والجهل والمرض.. شعر رفع شعار النضال الثوري لتحقيق مطالب الشعب وشغيلتهِ، ناصر حقوق العامل والمرأة والطفل واليتيم والسجين، وتصدى للظلم الاجتماعي في بنيتيه: الموروثة عن المجتمع التقليدي، والمستجدة مع إدارة وليدة لم تتحدد معالم موقعها من المستعمر الغائب الحاضر.
لنعتبر أنه كانَ قضاء وقدرًا أن “القوميين العرب” (على اختلاف تغير المسمياتِ لاحقا)، وتنوع “الأدبيات الثورية”، هم المنتج لهذا “الشعر الثوري” فكرا واهتماماتٍ، وشكلاً فنيا. وقد سعا هؤلاء إلى شعر جديد يمكنُ للتوجه الحضاري للشعب الموريتاني، كيف ولا هم المنافحون عن اللغة العربية والتعريب، وهم المصرون على رفض الاستلاب والتغريب، وهم منشدو جوهر الإنسان وقيمهِ وشرفِ عرقهِ.
لذلك كان هؤلاء بديعين ومبدعين في “لغتهم الشعرية” التي فطروها في هذا القطرِ، ولم تكن تمتُّ بصلة إلى “لغة الطرر” و”هلمَّ تقليد”. جاؤوا بلغة صقيلةِ أنيقة ثورية نابضة بدلالات جديدة للعبارة اللغوية، وزاخرة بملايين الألوانِ للصورة الشعريةِ (الثورة، الرفاق، الجراح، الظلام، الغول، النهوض، الزيتون، الورود، الآراء، الأفكار، الأهداف، الصباح الجديد، صرح الحياة، وعش الظلام، رفاق الجراح، جبل الحديد، مقبرة العربات، الوجه المكرس للنكبات، الوطن المكبل بالقيود، الطابور، العسف والتعذيب والإرهاب، السجين، النار والكرباج، الفساد، المظاهرات، الجموع الزاحفة، الرحيل، الحمامة المعتوقـة، والعيون الملأى بالسراب).
لقد كان البناء الشعري في نصوص “سطور حمراء” شلال قيم فنية وجمالية وفكرية يضخ في وريد الوطنيةِ؛ شعرًأ قارع الاستبداد الفردي (طابور)، والجمعي (“قف بالبطاح”، و”نشيد العمال”، و”يا سيدي الهمام”… إلخ). وكانَ لهذا الشعرِ الثوري دورًا محوريا في بناء “العقل النضالي الوطني” من خلال عمل أكثر من رافعة جمالية. فلا يخفى، مثلا، البعد التشكيلي الجديد في الصورة الشعرية النابضةِ بالحياةِ وهي المرسومة منَ مشهد العذاباتِ، والملتقطة من فوهةِ الاندثار.
في “سطور حمراء”؛ قد يكون مصدر شاعرية النصّ المتدفقة وحميميته الإنسانية البالغة عائدة إلى معاناة الأركان الشعرية الخمسة المؤسسة لبواكير الشعر الموريتاني الحديث. فهؤلاء الشعراء الخمسة تعرضوا للسجن والتعذيب والملاحقة على مدار النفَس. بيد أنهم، أيضا، وقعوا تحت ضغط مسؤولية أكبر، فرضت عليهم مواكبة وتخليد نضال الآلاف من مواطنيهم (رفاقهم)، الذين خاضوا معارك نضالية بطولية في سبيل التأميم والتعريب والإصلاح ومحاربة الفسادِ والعبودية والظلم والغبن الاجتماعي والتهميش.
لقد كرس هؤلاء الشعراء من خلال الكلمةِ الشعرية، الفن الموريتاني الأول، ورسخوه أعمق في الهوية الثقافيةِ الوطنية، ولا شك أنَّ إصدار ديوان “سطور حمراء” مجهود بالغ الأهمية للباحثين والمختصين ولجمهور الأدب وللمكتبة الموريتانية والعربية، فهذه المدونة الشعرية (سطور حمراء) تحتاج أطاريح لإعطائها حقها من القراءة الواعية في سبيل نقدها أدبيا وثقافيا باعتبارها “فعلا مؤسسا” وحقبة فاصلة في الأدب الموريتاني.