بلاغة الصمت.. وصمت البلاغة
الصَّمْتُ لُغَةٌ، وأيّ لُغَةٍ! إنَّه النزيفُ الداخِلي للمَشاعِرِ، الهَذَيَانُ المُقَدَّسُ للأفْكارِ، لأنَّ الإنسانَ حيوانٌ ناطِقٌ، حتى ولوْ اسْتَغْرَقَ فِي الصَّمْتِ، فهو يُفَكِّرُ باللُّغَةِ، وهذا ما يَعْنِي أنَّه لا يُوجَدُ صَمْتٌ أبْيَضُ، خَالٍ تَمَاماً منْ أيِّ لُغَةٍ، وإنَّما قُصَارَى الأمْرِ أنَّ هناكَ حديثاً مسموعاً، يُسَمَّى كلاماً، وهناك حديثٌ أخَرُ غيرُ مسموعٍ، يُسَمَّى صمْتاً، فحِينَ يَنْسَكِبُ صَبِيبُ مُدْرَكَاتِ الحَوَاسِّ الخَمْسِ، إلى مَرْكَزِ الدِّماغ، شَلاَّلاً هُلامِياً منَ المَشَاعِرِ، يَبْدَأ جهازُ اللغةِ هنالكَ فِي ترْجَمَةِ الأحَاسِيسِ المُلْتَبِسَةِ، لإعْطائِها مَعَانِيها وصِفَاتِها،ـ وصُورَها، عَبْرَ عَمَلِياتِ التَّمَثُّلِ والتَّمْثِيلِ، تَخْييلاً، وتَعْبيراً، حيث لا تتمُّ واحدةٌ من تلك المَراحِلِ إلاَّ باللغةِ، وبِقَدْرِ ثَرَاءِ مُعْجَمِ الترْجُمَانِ اللُّغَوي، تَسْتريحُ النفْسُ البشريةُ، في التنْفِيسِ عنْ مَكْبُوتاتِها، ويَتَجَلَّى مَدَى وُضُوحِ أفكارها، ودِقَّةِ تصَوُّراتِها.
ومِنْ هُنا كانَ الإفْصَاحُ ضَرُورَةً وُجُوديةً، وكانَ البَيَانُ نِعْمَةً من الله مُرَادِفَةً لِنِعْمَةِ الخَلْقِ ذاتِها، فمِنْ رَحْمَتِه بِنَا-جَلَّتْ قُدْرَتُه- أنَّه عِنْدَما “خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ”، إذْ لَوْلاَ وُجُودُ اللغةِ لانْفَجَرَتْ أجْهزةُ العَقْل البَشَري، بما يَتَفَاعَلُ ضِمْنَهَا من مُبْهَمَاتِ الأحَاسِيسِ، ومُعَقَّدَاتِ الأفْكَارِ، ومُلْتَبِسَاتِ التصَوُّرَاتِ، لِدَرَجَةِ أنَّه حتى الأخْرَسُ حِينَ يَنْعَقِدُ لِسَانُه، يُحَوِّلُ- بالفِطْرَةِ-كُلَّ جَوارِحِهِ ألْسِنَةً، ويَبْتَدِعُ- لِكَيْ يَسْتَمِرَّ فِي الحَيَاةِ- لُغَةَ الجَسَدِ تعْبيراً بِرَمْزِيةِ الحَرَكاتِ، وهذا قريبٌ تماماً منْ عَمليةِ الرَّقْصِ، حينَ يُداهِمُ إحْسَاسَ الرَّاقِصِ من الانْفِعَالِ بالنَّغَمِ مَا لا تَحْتَمِلُهُ أصْواتَ جِهَازِه اللُّغَوي، فتنْطِقُ كلُّ ذَرَّةٍ منْ كِيانِه بلُغَةِ الجَسَدِ الأفْصَحِ في هذا المَقام، إذْ” كُلَّمَا اتَّسَعَت الرُّؤَى ضَاقَت العِبَارَةُ” ،كما يقول النّفري.
ومَهْمَا يَكُنْ فإنَّ لُغَةَ الصَّمْتِ تكونُ أبْلغَ حتَّى منْ لُغَةِ الصَّوْتِ، لأنَّ الكَلاَمَ المَسْمُوعَ رَهِينٌ بِمَواقِع إنْتَاجِه منْ مَخَارجِ الحُرُوف، وضَوَابط المَنْطِقِ، وسياقِ الموْضوع المُحَدَّدِ، بيْنَما الحديثُ الصامِتُ، لا يَنْضَبِطُ بمَحْدُودِيةِ مَواقِعِ الأصْواتِ التي تَقْتَضِي التَّنَاوُبَ لَحْظَةَ إنْتَاجِهَا، كَمَا أنَّه مُتَحَرِّرٌمنْ أحَادِية السياق، حيث يَتَمَوَّجُ معَ تغَيُّرَاتِ طقْسِ التفْكير، وتَلَوُّنَاتِ صُور التخَيُّلِ والتخْييلِ، فهو يَبُثُّ على أكْثرَ من مَوْجَةٍ، ويلْتَقطُ على أكثرَ من تَرَدُّدٍ، ولا سيما بالنسبة للشُّعَرَاءِ، الأرْهَف إحْساساً، والأوْسَع خيالاً، والأبْدَع تفكيراً، والذين لمْ يَكونُوا لِيُجِيدُوا الكلامَ، لوْ لمْ يُجِيدُوا الصَّمْتَ، إذْ يَنْطَبِقُ عَلَى جَدَل الحَدِيثِ و السُّكوتِ عندهم، كوْنُ الأوَّلِ إذا كانَ من فِضَّةٍ، فإنَّ الآخَرَ من ذَهَبٍ، عكْسَ المَألوفِ من الاهْتِمَامِ – في دَارِجِ المُفَاضَلَةِ- بِشِعْرِهم الصَّائِتِ، أكثر من شِعْرهم الصَّامِتِ، رغْم الحِكْمَةِ العربية البَالِغَةِ، التي تقولُ: إنَّ الصَّمْتَ يَكُونُ- أحْيَاناً- أبْلغُ من الكَلام.
وفي هذا السياقِ يَحْدُثُ أنْ يَسْتَغْرِقَ الجَمْعُ في الثرْثرَة حَوْلَ مَكاسِبِهمْ المادية، أمْوالهم، مُؤسَّساتهم، دُورهم، قُصورهم، سياراتهم، وظائفهم، وحتى تفاهاتهم، ثم يَنْتَبِهُونَ فَجْأةً إلى أنك- بينهم- خارجَ التغْطية تماماً، تنْتظرُ أنْ يَخوضُوا في حَديثٍ غيره، تشتركُ مَعَهم ترَدُّداتِ أمْواجِه، فيَتَعَجَّبُون من سُكوتك، غير مُدْركين أنَّكَ في صَمْتِكَ تَتَكَلَّمُ أكْثَرَ، وترْتادُ عَوَالِمَ أبْعَد، وتبْنِي مَشاريعَ أكْبرَ، وحين تُضْطر للإجابة، تَسْتجْمِعُ الروحُ كبْرياءها، أمامَ التغوُّل المادي، فيَنْفَجِرُ الصَّمْتُ قصيدة، من نزيف المشاعر، تتلقف ما يأفكون:
أيريـــبـكَ الصمتُ .. الذي يَغشـاني؟
القلبُ يَهـذي .. تحتَ صمـتِ لساني
إنـِّـــي أراكَ .. ولا أراكَ .. لأنّــــنـي
دانٍ .. بعيـدٌ .. منكَ .. حينَ تَــراني
فأنــا.. أشارككَ المكــانَ .. ورُبمــــا
أرتــادُ كونًا ..خـلْفَ كلِّ مـكــــــــان
إنـِّي غريبٌ .. بين قومي ..هــا هنـا
ليس المكـانُ.. ولا الزمانُ زَمــاني
أنا شاعـرٌ .. قد فـاض في وجــــدانه
نبـعُ الـمَعــانِي .. من يَـدِ الرحـمــان
صمْتي: نزيفُ مشاعري ..وعبـادتي
ومقـدَّسٌ – مِلْءَ الخُطَى – هذَيــاني
أدي ولد آدب