الشاعر وانتهاك العرف والمقدس/ مباركه بنت البراء
يظل الشعر تجاوزا واختراقا للمعهود على مستوى اللغة ، انتهاكا لنظمها الأسلوبية، وخروجا على مواضعاتها المألوفة والمتداولة، وسعيا جاد إلى إعادة ترتيبها من منظور الشاعر الذي يروم ترتيب الْمَاحَوْلِ؛ وهو ما حاول النقاد والبلاغيون تقعيده وأرادوا حصره، مع أن طاقات اللغة لا تحد، والمبدع الحق لا يرضى لنفسه الاتباع ولا الاحتذاء.
إلا أن هذا التجاوز لا يتوقف عند حدود إعادة ترتيب اللغة، بل يتعدى إلى فرض الشاعر رؤيته وإن جاءت مغايرة للأعراف والدين، وبثها عبر تجربته الإبداعية.
فلأمر ما ضاق المجتمع الجاهلي بالصعاليك فنبذهم وطردهم من الحمى حتى ألفوا الفيافي، وأنسوا للكواسر والوحوش، وبثوا تفاصيل حياتهم الموحشة في قصائد الشنفرى وتأبط شرا والسليك بن السلكة وغيرهم.
وقد جاء هدي الإسلام حاثا على الفضائل، مانعا للفحش في القول، رادعا لأصحاب الهجاء والثلب والتغني بالمحرمات، ولذا كان معيار الدين والأخلاق حاضرا لدى نقاد الشعر قبل أن يحضر الحكم الفني على النص، فقليلة هي الآراء النقدية التي فتحت الباب مشرعا للشاعر ليقول ما أراد دون تجريح ولا تحذير، بل لعل الاستثناء الوحيد هو رأي القاضي الجرجاني(ت 392هـ ) الذي أورد في معرض حديثه عن تجاوزات المتنبي قوله: “إن الشعر بمعزل عن الدين” وهو ما اعتد به كثيرا دعاة الفن للفن، مع أن أغلب النقاد عارضوا تعمد الشاعر انتهاك المحظورات.
إن الغنى الإنساني المضفور بالغرابة والمفارقة وروح التمرد، يظل يسكن الشاعر دوما ويغريه بكسر المواضعات وانتهاك حرمة المقدس، وهو ما نشهده في دواوين الشعر وكتب الأدب.
يطالعنا في صدر الإسلام كثير عزة، العاشق المتبتل في حضرة الحب العذري، بقوله:
رُهْـبَـــانُ مَدْيَـــنَ والذينَ عهدتُهــمْ ** يبكونَ منْ حَذَرِ العذابِ قعودَا
لو يسمعونَ كما سمعتُ كلامها ** خـــروا لِــــعّــزَّةَ رُكَّــعًا وسُجُـــودَا
ويقر صنوه جميل بن معمر بما يشغله وهو في أقرب لحظاته إلى الله؛ حيث يأتي حضوره في الصلاة ذا طابع خاص:
أُصَلِّي فَأَبْكِي فِي الصَّلَاةِ لِذِكْـرِهَا ** لِـيَ الْـوَيْـلُ مِـمَّا يكتبُ الْمَلَكَانِ
ويحج عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان المعروف بالعرجي لحاجة غير أداء المناسك والتحلل من الخطايا:
إنِّي أُتِـيـــحَــتْ لِـي يَــمَــانِـــيَّـــــةٌ ** إِحْـدَى بَـنِي الْحَـارِثِ مِـنْ مَذْحَــجِ
نَـــلْـبَــــــثُ حَـــوْلًا كَـامِــــلًا كُـلَّـــهُ ** لَا نَـلْـتَـقِــــي إِلَّا عَـــلَى مَــــنْـــهَـــجِ
فِي الْحَجِّ إِنْ حَجَّتْ، وَمَاذَا مِنًى ** وَأَهْـلُــهُ إِنْ هِـيَ لَـــمْ تَحْـجُــــــــجِ؟!
ولما أنشد القصيدة بين يدي عالم مكة عطاء بن أبي رباح، قال عطاء رادا عليه: “الخير كله في منى وأهلها، حجت أم لم تحجَّ.”
ويتابع العرجي المتمرد المجدد أبو نواس فيعلن عن نسك في الحج ليس مما أنزل الله في كتابه:
وَعَـاشِـقَـيْـنِ الْـتَــفَّ خَدَّاهُـــمَا ** عِـنْـدَ الْـتِـثَـــامِ الْحَجَـرِ الْأَسْــوَدِ
فَاشْـتَـفَـيَـا مِنْ غَـيْـــرِ أَنْ يَأْثَمَا ** كَـأَنَّـمَـا كَـانَـا عَـلَى مَــوْعِـــدِ
لَـوْلَا دِفَــــــاعُ الـنَّـاسِ إِيَّـاهُـمَـا ** لَـمَّا اسْـتَـفَـاقَـا آخِــرَ الْمُسْـنَــدِ
وبدوره لم يكن الشاعر الحساني بمنأى عن الوقوع في المحظور، وإن اشتد الرقيب الديني والاجتماعي؛ يقول أحدهم متناسيا أن شرط الإمام عند المالكية ذكر مكلف عارف بأحكام الصلاة:
صَــلَّـــيْـــــتْ إبْ مِـنْـــتْ @@ سِــــيـــــدِي سَــــالِـــــمْ
وَانْــگَـــصْـــتْ ؤُزِدْتْ @@ مَــــــــانِي عَــــــالِـــــمْ
ويقول شاعر ثان معلنا مسؤوليته الكاملة عما سيجري له من عقاب في الدار الأخرى:
لَا هَـابُـونِي فَامْرْ الْعَـرَّادْ @@ لِمْلُـوكْ أَرَاهُـمْ هَـابُـونِي
وِيـلَ بَـطُّـونِي يَسْــوَ زَادْ @@ إِرَاوْ اعْــلَاشْ إِبِطُّـونِي
أما الشاعر إلبو ول امين فينحو منحى خاصا في حمْدِهِ الله مُستَحِقَّ الحمد:
مَلْـگَ طَـبْ التِّـحْــجَـــالْ @@ يَالْـجَـــــلَالْ أَلَّ قَـــــــــالْ
لَا وَسَـيْـــتُـــــولِي حَــــــــالْ @@ فِــيــهْ الْحَـمْـدْ، انْـوَدِّيـهْ
وِيـــــــلَامَ يَــــا الْـــجَــــــلَالْ @@ وَسَــيْــتُــــولِي خَلِّـيــــــهْ حَامِــــدْ لَكْ، غَيْـــرْ الْبَــالْ @@ أَلَّ بَـــــاگِي شِي فِـــيــهْ
ويتجاوز شاعر آخر الخطوط الحمراء في قوله:
إِلْمَالِي عَـنْ فِعْـلُو لَـوْدَه @@ مُـولْ الْمُلْكْ إِلمَالُـو ثَـانِي إِيــلَ مَا طَانِي مَسْعُودَه @@ هُــوَّ حَاشَاهُو شِـعْـطَانِي؟
وهكذا يظل الشاعر رافضا دوما كل القيود التي تحد من حرية القول لديه، متيحا لنفسه متسعا من الخروج على النواميس المتبعة، ومتحججا كلما قارب حبل المشنقة رقبته بقوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون)