وقفة مع طلعة محمد باب ول امحمد ول أحمديوره/ مباركه بنت البراء
مَشْرَعْ لِحْجَارْ اغْلَبْنِي صَــوْنْ @@ دَمْعِي عَنْـدُو مِنْ هُــونْ ؤُدُونْ
ؤُعَنْدْ الدَّخْلَه دَمْعِي مَگْـرُونْ @@ دَلَّالِــي رَخْـــوُو مَـــا صَـــــابُـــو
غَـيْــرْ امْنَادِمْ كِـيفِي مَمْكُـونْ @@ يِــسَّــــدَّرْ فِادْيَـــــارْ أَحْــبَــــــابُــو
إِيــلَ مَـــا جَـــابُـو مِـــنُّـو كُــونْ @@ الــدَّمْعَـه، مَـعْـــلُــومْ احْـجَـابُـو
وِالنَّـخْـلَه وِامْـشَــيْـــرِعْ لَحْـجَـارْ@@ اللِّي مِــنْ دَمْــعِي مَـا جَــابُــو
بِيهْ ؤُوگِـفْــتْ الْيَــوْمْ اعْلَ دَارْ@@ جِـتِّـيــمْ ؤُرَاحِــــتْ بَاعْــگَــــابُــو
وقفات على الديار تستثير الشاعر فتتوزعه الأمكنة؛ لا يكاد يبكي دارا حتى تستوقفه أخرى، فيذرف الدمع مدرارا، ولا يكاد يصحو من شجن حتى يحل محله شجن أشد وطأة وأقوى أثرا.
حملت الطلعه زمانا من الأحداث، واستدعت فيضا من الذكريات، وأهاجت سيلا من الدموع.
ويظل الشاعر البدوي دوما رهين الطلول الدوارس؛ ما إن يمر بها حتى تفتح أمامه سجلاتها الثرية؛ فيرخي العنان للذات لتستعيد الماضي، وتسترجع اللحظات بكل تفاصيلها؛ إنها ذات الشاعر تندثر رويدا رويدا وتتلاشى أمام ناظريه، فلا يملك إلا أن يحزن ويعتبر؛ فالمكان جزء منه، والزمان عمره المُولِّي، والشاهد هو المرابع التي يقف عليها؛ هذه الطلول تحمل جيناته، وهذا التراب يختزن بصماته، وذلك الهواء مرطب بنغماته وآهاته، و تقاسيم حياته.
إنها دنيا من الفناء تختزن عمرا من الذكريات؛ وليست رسومها إلا يوميات رُقِـمَ عليها شغبه مع الأتراب، وزهوه مع الخلان، والنظرة الأولى التي جعلت قلبه يخفق، ولغته تتجسد أخيلة، ونهارات الحل والترحال، وليالي السمر في الفضاء الرحب، وهطول الغيث على الأرض المعطاء، والقمر المداعب للروابي، وأهازيج الرعاة بعد يوم من سقي العطاش وذود المواشي.
ديار لا يصده عن ذكرها عاذل، ولا يسمع فيها مقالة قائل ولو كان أبا نواس الذي سخر من بكاء الديار وتتبعه الآثار، ونزع إلى ارتياد الحانات واصطياد المغنيات:
عـــاج الشقـي على ربــع يسائــلــــــه ** وعجـــت أسأل عن خمَّــارة البــلـــد
يبكي على طلل الماضين من أسد ** لا درك درك قــل لي من بنو أسـد؟
منذ البدء يعلن شاعرنا ارتباطه الوثيق بالمكان، يتتبع الديار تتبع الواله، ويجود عليها بدمعه الهتون، يوزعه بينها ليقضي دينا؛ وفاء بالعهد وحفاظا على ود الأحبة.
كانت الوقفة الأولى بامشيرع لحجار حيث غلبه الدمع، وتلته الدخله حيث تدفق وانساب أكثر، فبها هاجت الذكرى واشتد الوجد:
مَشْرَعْ لِحْجَارْ اغْلَبْنِي صَــوْنْ @@ دَمْعِي عَنْـدُو مِنْ هُــونْ ؤُدُونْ
ؤُعَنْدْ الدَّخْلَه دَمْعِي مَگْـرُونْ @@ دَلَّالِــــي رَخْــــوُو مَـــا صَـــابُـــــو
ويقف ليعلل الأمر ويلتمس العذر مما ألم به في مسلمة عاطفية مقنعة؛ وهو المحب الذي يعاين ديار الأحباب، فيكون الاعتبار والبكاء أقل ما يفي بحقها:
غَـيْــرْ امْنَادِمْ كِيفِي مَمْكُـونْ @@ يِــسَّـــــدَّرْ فِادْيَـــارْ أَحْــبَـــــابُــو
إِيــلَ مَـــا جَـابُـــو مِـنُّـو كُـــونْ @@ الــدَّمْعَـه، مَـعْـــلُــومْ احْجَـابُـو
ويكون هذا التعليل المقنع معبرا لمزيد الحديث عن الديار والبكاء على الأوكار؛ فلم يكن الشجن خاصا بالمكانين السابقين؛ “امشيرع لحجار والدخله” وإنما يقتسمه معهما “جتيم”؛ ولعله أكثرها أثَـرَةً لدى الشاعر، فجاء به ختاما للوقوف بالمرابع، وكما يقول المثل الحساني: “التالي هو الغالي”، كما أنه استوفى في بكائه له كل ما تبقى من الدمع:
وِالنَّخْلَه وِامْشَـيْـــرِعْ لَحْـجَـار@@ اللِّي مِــنْ دَمْــعِي مَـا جَــابُــو
بِيهْ أُوگِـفْـتْ الْيَـوْمْ اعْلَ دَارْ@@ جِـتِّـيــــمْ، ؤُرَاحِــتْ بَاعْـگَـــابُــو
فالمكان الأخير ذو علاقة تليدة بوجدان الشاعر، موصول بماضيه؛ فقد وقف به قبله أبوه امحمد ولد أحمد يوره، وخلده في شعره، وَرَوَّى بالدمع الهتون خمسة أمكنة من أجله، فأصابتها عدوى هواه، يقول امحمد متغنيا به:
هَــذْرَايِــتْ بِالـدَّمْعَـه لَـرْمَــــاگّْـ @@ فَـاتِـــتْ غَــلَّاتْ اعْـــلَ لَخْــلَاگّْـ
مَـسْـيَـلْ جِـتِّـيـمْ امْنَيْنْ اظْيَاگّْـ @@ مِـنْ گِـبْـلَه وِانْكَـفْـحُـو شِلْخُـو
وِالْــخِــرَّيْـــراتْ ؤُبُــو مِـــــزْرَاك @@ بِالْــبَــرْكَه فِادْلِـيـلي رَسْـــــخُو
وِابْجُـوكْ ؤُلِمْلَيْـگَـه وِالصَّــاگْـ @@ وِالــرَّكْـنَـه وِانْـخَـــلْ وِلْ الْخُـو
مَــفْــرُوظْ اعْـلِـيـهِـمْ يَالْخَـلَّاگْ @@ إِفْ مَــرْگِــــتْ هَــاذَ يِـنْـتَـبْـخُو
لقد وفى الشاعر الأمكنة حقها وقوفا، وأترعها بكاء؛ فوردت مفردة “الدمع” أربع مرات، تأكيدا على تأثر الشاعر وصدق أحاسيسه تجاه الربوع، وقد أحسن تعليل وقفاته الطللية بالمثل القائم مقام الحكمة المقررة “معلوم احجابو” وآثر الأسلوب السردي الأخاذ وسيلة لنقل تجربته النابضة بالاعتبار والادكار.