شعر الفتوحات (بين واجب الجهاد ونوازع الذات)/ باتة بنت البراء
إن المتابع للشعر العربي أيام الفتوحات الكبرى في الشام وبلاد ما وراء النهرين ومصر وغيرها، يجد نفسه أمام مدونة ثرية الموضوعات، لصيقة بالذات، صادقة في تصويرها الواقع، وفي تعبيرها عن الهواجس الإنسانية الموزعة بين العواطف الآنية؛ والمكاسب الأخروية؛ يأتي ذلك في لغة سهلة رفيعة، تحكي قصة الشاعر المرابط على أبواب الثغور، وعند بوابات الحصون.
وتوضح هذه المقطوعات والقصائد أن الشعر العربي في هذه الفترة ، لم يكن متدني المستوى، ولا ضعيف التركيب، كما يتوهم بعض المؤرخين والنقاد الذين رأوا أن الشعر في العهد الإسلامي الأول، ضعفت لغته وانحسرت صوره مقارنة بالشعر الجاهلي، فقد حكم ابن سلام الجمحي على شعر حسان بن ثابت بأنه لان وضعف مقارنة بشعره في العهد الجاهلي.
ولسنا بصدد المفاضلة بين الشعر خلال هاتين المرحلتين، ولكننا نود التنبيه إلى أن الناس انشغلوا عن الشعر في العهد الراشدي؛ فانصرفوا عن القريض إلى تعلم أمور الدين وتدبر معاني القرآن الكريم، كما شُغلوا بالمهام التي يكلفهم بها الرسول –صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدون من بعده.
ذلك أن المسؤولية الملقاة على الفرد المسلم أيام تأسيس الدولة الإسلامية، لم تترك الوقت الكافي للجنوح إلى الخيال، ولا إطلاق العنان له؛ وإنما أصبح هناك واقع يتطلب عملا جادا، والتزاما بأوامر الله ونواهيه، وتفقها في أمور الدين، ومساهمة في بناء الدولة.
إلا أننا لم نعدم في هذه الفترة شعراء ظلوا أوفياء للشعر، ينظمونه دفاعا عن الإسلام ونبيه الكريم، وردا على أعداء الدين، وتغنيا بانتصارات المسلمين، ومن هؤلاء نذكر شاعر الرسول الكريم: حسان بن ثابت، وعبدالله بن رواحة، -رضي الله عنهما- وغيرهما.
ولا يعني هذا القول أن الدين الحنيف حارب الشعر أو وقف ضده، وإنما نبذ الإسلام ذلك النوع من الشعر الذي يكرس قيم الجاهلية ؛ فيدعو إلى الغواية ويذكي نار العصبية ويهتك أعراض الناس.
فبالمقابل شجع الإسلام الشعر الملتزم الذي يتغنى بالقيم الفاضلة ، والعواطف السامية ، ويسعى إلى تهذيب الأخلاق، والحفاظ على تماسك المجتمع .
ولعل أشعار الفتوحات التي نحن بصدد الحديث عنها تقدم نموذجا للشعر الرفيع، الذي يحمل تلك العواطف الإنسانية السامية، الصادرة عن تعاليم الدين الحنيف، والتي تجعل الإنسان يستجيب لمنادي الجهاد، ويمتثل أوامر ولي الأمر، فيضحي بالنفس والمال من أجل إعلاء كلمة الحق، وصون الوطن، والدفاع عن حمى الإسلام، وفي ذات الوقت فإن هذه الأشعار تحمل مشاعر الإنسان المبعد عن أهله وأرضه، وما يكابده من شوق وحنين، وما يعرض له من هواجس وأحلام، وهو المرابط في بلاد الغربة، أو الداخل ساحات القتال؛ أو الأسيرا بأرض العدو، كل هذا بأسلوب سلس شيق، ولغة بعيدة عن الغرابة، بليغة الصور ، حافلة بنوازع الذات.
وسنتوقف عند نماذج من هذا الشعر، لنقرأ من خلالها تلك النوازع النفسية المختلفة، التي تتجاذب الإنسان في مثل هذه المواقف، وكيف عبر عنها شعراء الفتوحات، أثناء رحلتهم الجهادية وهم يعيشون بعيدا عن مرابعهم وذويهم، ويحلمون بالعودة الوشيكة إلى أرضهم.
يظهر الشاعر المعروف النابغة الجعدي لحظة السفر إلى بلاد الشام ، موزعا بين عاطفتين قويتين: عاطفة الالتزام الديني والواجب الجهادي، الذي لا يمكن التأخر عنه ولا التهاون في شأنه، وعاطفة الزوج الحنون الذي يفارق زوجه وأمه وأولاده، متوجها إلى ساحة الحرب في أرض بعيدة، ليواجه جيش الروم القوي، فيقول في نبرة حزينة تحمل فيما تحمل أساليب الإقناع والتسليم:
يَـا بِـنْتَ عَـمِّي كِتَابُ اللَّـهِ أَخْرَجَـنِي *** عَـنْـكُــمْ، وَهَـلْ أَمْـنَـعَـنَّ اللَّـهَ مَـا فَـعَـلَا
فَإِنْ رَجَعْـتُ، فَرَبُّ النَّاسِ أَرْجَعَـنِي *** وَإنْ لَحِـقْـــتُ بِــرَبِّــي، فَـابْـتَـغِـي بَــدَلَا
مَا كُنْتُ أَعْـرَجَ أَوْ أَعْمَى فَيَعْـذُرَنِي *** أَوْ ضَارِعًا مِنْ ضَنًى، لَمْ يَسْتَطِعْ حِوَلَا
إنه في هذه اللحظة الحرجة لا يجد بدا من إقناع زوجه بالدليل والحجة الواضحة، فالله فرض عليه الجهاد بالنص الصريح ، ولم يجعله من المعذورين في التأخر عنه؛ ولا المسامحين بشأنه؛ فلا هو بالأعمى ولا الأعرج ولا المريض؛ ويحيل الشاعر في ذلك إحالة واضحة إلى قوله تعالى من سورة الفتح:
{ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج، ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما }
إن الشاعر في هذا الموقف لا يحاول أن يقنع زوجته فحسب، وإنما يحاول كذلك أن يوطن نفسه على الفراق، سعيا إلى أداء الواجب ونيل النعيم الذي وعد الله به عباده المتقين.وإحساسه في مثل هذا الموقف هو إحساس بالغ التأثير، حيث تتجاذبه عاطفتان؛ عاطفة البقاء قريبا من أمه وزوجه وصغاره، وعاطفة الواجب الديني التي تلزمه بالرحيل إلى ساحة الجهاد، وتعده بالثواب.
وفي هذا المقام لا يغيب عن الشاعر أن يُذَكِّـرَ زوجه بأن عودته من هذه الرحلة ليست أكيدة، فربما يكون فراقه لهم أبديا، فعليها أن توطن نفسها على ذلك الاحتمال الصعب:
فَإِنْ رَجَعْـتُ، فَرَبُّ النَّاسِ أَرْجَعَـنِي *** وَإنْ لَحِـقْــتُ بِــرَبِّي، فَـابْـتَـغِـي بَــــدَلَا
وهنا نلاحظ كيف ابتعد الشاعر عن الأنانية، وأظهر تسامحه وتفهمه لظروف زوجه بعد موته، فترك لها مطلق الحرية في أن تختار شريك حياة ، يسهر عليها ويرعاها، وفي هذا الموقف الكثير من الإنصاف والوفاء.
غير أن هذه القوة التي أظهر الشاعر أمام زوجه، وذلك التماسك الذي أبدى أمام أمه، لا يلبث أن ينقلب حنينا وبكاء بعدما ابتعد عن الديار، واقترب من أرض العدو؛ ففي هذه اللحظة أطلق لنفسه العنان، فبكى بحرقة، وتذكر موقف أمه الحزين وهي تودعه، وتوسلات زوجته أمامه بأن لا يرحل:
حَـتَّى إِذَا هَـبَطَ الْأفْـلَاجَ وَانْقَطَعَـتْ *** عَـنْـهُ الْجَـنُـوبُ، وَحَـلَّ الْغَـائِـطَ السَّـهِـلَا
أَبْـكَى وَلَهَّـفَ أُمَّـيْـهِ، وَقَـدْ لَهِـفَـــتْ *** أُمَّـاهُ، وَالْأُمُّ مِـمَّــا يُـنْـحِـــلُ الْـخَـــيَــــلَا
إنه في هذه اللحظة يعي حقا لحظة الفراق، ويحس من اللوعة والحنين ما كان أخفاه عن نفسه سابقا، خاصة بعدما دخل أرض العدو، واقترب من ساحة القتال، في رحلة لا يمكن أن يتنبأ بما ستؤول إليه.
أما على الجبهة الشرقية، فيصف الشاعر بشر بن ربيعة الخثعمي حالته النفسية وهو يخوض معارك القادسية ، إنه يصف واقع الشاعر المغترب، الذي يزوره ليلا طيف زوجه الحبيبة، فيثير أشجانه، ويذكره بالديار والأهل؛ طيف قطع المسافات الشاسعة ، ليوافيه وهو الجندي المرابط في أقاصي ديار فارس:
ألـــمَّ خَـيَــالٌ مِنْ أُمَـيْـمَـةَ مَـوْهِــــنـًا *** وَقَـدْ جَعَـلَـتْ أُولَى الـنُّجُـــومِ تَغـُـورُ
وَنَحْــنُ بِصَحْـــرَاءِ الْعُـذَيْبِ وَدَارُهَا *** حِـجَـازِيَّـةٌ، إنَّ الْمَـحَـــلَّ شَـطِـــيــرُ
وَلَا غَـرْوَ إِلَّا جَوْبُهَا الْبِيدَ فِي الدُّجَى *** وَمِـنْ دُونِـنَــا رَعْــنٌ أَشَــمُّ وَقُــــورُ
هذا الطيف يزيد من ألم الشاعر، فتبدو الدنيا بالنسبة له سجنا كبيرا، لا يشاركه فيها حالته النفسية، ولا موقفه العاطفي، إلا ناقته التي بدأت تحن حنينا موجعا يحمل كل آلام الشوق والغربة؛ تلك الغربة التي اشتدت وطأتها حتى على البهائم، فكان حنين الناقة أبلغ تعبير عن الألم والبعد :
تَـحِـــنُّ بِـبَـابِ الْقَـادِسِـيَّـــةِ نَـاقَـتِي *** وَسَـعْـــدُ بْــــنُ وقَّـاصٍ عَلَيَّ أمِـيــرُ
وليست غربة الشاعر وزيارة الطيف له هي ما يؤرقه فحسب، وإنما إحساسه بالعجز أمام قائده القوي، الذي لا يتهاون في شأن من يخرج على الطاعة من الجنود؛ إنه سعد بن أبي وقاص ذلك الرجل المخلص والصارم، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يتهاون في أمور الحرب، لقد قُضِيَ على الشاعر أن يكون جنديا تحت إمرته، لذلك لا يجد مناصا من الانصياع للأوامر.
ويبدأ الشاعر يستعطف قائده بطريقة غير مباشرة، فيذكره ببلائه الجميل في الحرب، وكيف واجه كتائب الجيش الفارسي بشجاعة واستبسال، في حرب يتمنى كل من يحضرها أن ينسحب منها، فلعل هذا القائد يرق لحاله، ويأذن له في العودة إلى الأهل والوطن، ليلاقي أميمة وتنعم ناقته بالعودة إلى قطيعها:
تَــذَكّـرْ – هَدَاكَ اللَّـهُ- وَقْعَ سُيُوفِنَـا *** بــِبَـابِ قُــدَيْـــسٍ، وَالْمَكَـــرُّ عَـسِـيــرُ
إِذَا مَا فَـرَغْـنَا مِـنْ قِـرَاعِ كَـتِـيـبَةٍ *** دَلَـفْـنَــا لِأُخْـــرَى، كَالْجِـبَــالِ تَسِــيــرُ
عَشِيَّةَ وَدَّ الْقَــوْمُ لَـوْ أَنَّ بَعْـضَهُـمْ *** يُـعَــارُ جَـنَـاحَـيْ طَــائِـرٍ فَـيَـطِـــيــــرُ
إنها عاطفة صادقة، تصف لنا واقع الحرب المرير، وما يلاقيه المحاربون من المسلمين في حرب القادسية
من كتائب ضخمة مدججة بالسلاح، لا يكادون يفرغون من قتال كتيبة حتى تظهر أخرى أكثر عدة وعددا منها. وتؤكد كتب التاريخ أن أيام القادسية كانت من أشد الأيام قتالا، وأقواها مواجهة في تاريخ المسلمين.
ولعل من اللحظات المليئة بالشجن، تلك اللحظة التي يجد فيها الشاعر المجاهد نفسه وقد وقع أسيرا في يد العدو، فيطلق العنان لشعره في ليله الطويل ليصف حالة الأسير، وما يدور بنفسه من أفكار، وما ينتابه
من هواجس، يقول أبو الهول دامس وهو أسير بحلب أثناء حروب الروم:
يُــوثٍـقُــنِي الْأَعْــدَاءُ بِالْحَـدِيـدِ *** وَنَــاصِــرِي، وَسَــيِّــــدُ الْمُـبِــيـــدِ
مُهْـلِـكِ عَـــادٍ وَبَــنِي ثَـمُــــودِ *** يُغِـيـثَـــنِي بِــعَــــوْنِـــهِ السَّـــدِيــــد
فالشاعر يصف حاله في الأسر وهو مكبل بالحديد، ولكن عاطفته الدينية وإيمانه العميق بالله ، يجعله يتغلب عل هذه الحالة الحرجة، فلا يلين أمام العدو ولا يتراجع عن مبادئه السامية، بل يؤمن إيمانا قاطعا بأن الله العلي الكريم، قادر على أن يفك أسره، ويهلك الظالمين أعداءه كما أهلك عادا وثمود.
إن هذه النماذج من شعر الفتوحات تقدم لنا وصفا وافيا لحالة الشاعر المجاهد، وما ينتابه من حالات نفسية متعاقبة، وما يعمر قلبه من إيمان عميق، وما يمر به من لحظات عصيبة، كل هذا في لغة سهلة تستمد الكثير من ألفاظها من لغة القرآن والسنة، وتصور الواقع بكل دقة وصدق