غانيات بيروت للروائية اللبنانية لينة كريدية: لوحة روائية مثيرة ومبدعة لأعماق بيروت
يعرف اللبنانيون أكثر من غيرهم، في العمق المؤرِّق المفتوح على حبّهم للحياة وتمجيدهم لها أبداً وسط الموت؛ أن مدينتهم المذهلة بيروت لا تُدرَك بغير نسائها، ويعرفون أن أعماق رجلهم اللبناني لا تُسبَر غالباً بغير غانياتها، كما يعرفون أنهم منذورون للبحر والتيه بشرعة جدتهم الفينيقية أليسار، ولا مهرب لهم من الموت الذي يمسك خيوط قدرهم سوى الحياة…
في خضم كل ما كتب عن المدينة الهائلة بيروت؛ تفتح الروائية اللبنانية لينة كريدية، أحد أهم شرفاتها على بحر الإبداع/ غانياتها، اللواتي تضعهنّ طليقاتٍ من التصنيف بين ضفّتي روايتها تحت عنوان: “غانيات بيروت”، ملتزمةً بتعريف القاموس لهنّ: النساء الغنيّات بحسنهنّ وجمالهنّ عن الزينة، اللواتي استغنين بأزواجهن، واللواتي يعملْنْ في الملاهي الليلية كراقصات ومؤديات. ولا تستثني منهنّ بائعات الهوى، باعتبارها لهنّ غانيات، خارج المفهوم الذكوري الذي يحط من قيمتهنّ كسيّدات. وتختار زمن روايتها القرن العشرين، وإنْ أخذت سنواتُ الحرب اللبنانية مكان البؤرة التي تتجمّع فيها الأحداث لتخرجَ وتُفجّرَ ما تراكم داخل الشخصيات، وتمتدّ مثل علق لا يُرخي يديه عن الروح إلى ما بعدها. كما تختار أمكنة روايتها بحركة شخصياتها، فيما يشمل أحياء بيروت الفقيرة، وأحياءَ اللهو والدعارة فيها، وأحياءَها البورجوازية، بمختلف توزّع طوائفها، لتقدّم سجلاً روائياً مبدعاً كما غرفة مرايا للقارئ عن بيروت، لا ينقصه البعد السيكولوجي العميق لدواخل أهلها، وما خلقتْ المعتقدات والأحداث فيها من شروخات وجروح وآلامٍ تلعب بالمقادير والمصائر والمآلات.
على صعيد البنية التي تتحرك فيها شخصيات غانياتها، تلجأ كريدية إلى بساطة التكوين، فتقسم روايتها قصدية إلى ست عشرة عنواناً، تأخذ سبعة منها أسماء غانيات الرواية الرئيسيات، بإضافة تواريخ ولادتهنّ للسيطرة على أزمنة الرواية، والبقية تأخذها الأفعال التي تجري معهنّ، بترتيب في بداية الرواية، يفقد إحكامه الهندسي مع جريان الرواية والاحتياج إلى تطوير الشخصيات وخلق الارتباطات. وتلجأ كريدية إلى البساطة كذلك في منظومة سرد الرواية، فتقصُر سردها على لسان ضمير الغائب، من غير راوٍ سوى الكاتبة، لكنها تنوّع سردها بتدفق الأفعال، وفق ما تحتاجه الأزمنة، مركّزة على صيغة الحاضر التي تمنح السرد قوّة التصوير السينمائي، ومدخلةً قدرة إبراز تفكير المسرود عنه، وكأنه هو من يسرد، بتداخلٍ متدفّق عذب ومشوّق يمتلك القارئ ويضعه مكان البطل. وتساعدها في قوة هذا الإبراز لغتها الشاعرية الغنية التي تتنوع كذلك وفق حالات الشخصيات والأحداث، مع لجوئها إلى الحوار بالعامية البيروتية المفهومة والقريبة إلى الفصحى، لمنح روايتها نبضاً واقعياً للحياة:
“كل ما اشترته من النباتات الجبارة التي تحتاج إلى الحد الأدنى من العناية كان عن سابق دراسة، وبالمقابل استغلت التربة وما فيها أعظم استغلال. وبعد دراسة معمقة وقع اختيارها على نبات صبار اسمه بالبيروتية “لسان الحماه” للأحواض المستطيلة، فالشوكة الحادة في أعلى ساقها الممشوقة تنذر المقترب بضرورة الابتعاد، أما شجرتا الكوتشوك فتستطيعان خلال وقت قياسي احتلال كامل مساحة الحوض، ويضمن سماد روث الماعز إبعاد أي متطفل. نفذت نوال كل الخطة بهدوء تام، فالغضب يفسد أي مخطط ويجر إلى الأخطاء والعنف المبالغ به، مما يجعل ارتكاب الثغرات ممكناً، وبالتالي فإن أي جريمة غير مكتملة قد تودي بصاحبها إلى التهلكة.”.
في بنيتها البسيطة الخطرة على التحكم بها من قبل الروائية، تجري الرواية بإيراد أربعة عناوين لأسماء غانيات مع تواريخ ولادتهن: هيام 1952، ناديا 1953، أنطوانيت 1910، نوال 1910، وتساعد هذه التواريخ في عرض بيروت وأهلها بأزمنة يفاعتها وشبابها وشيخوختها، وحلوّ أفراحها ومرّ أتراحها، وانسياب عذوبتها وتفجّر غضبها المختزن في ضيق صدرها عن تعصّب طوائفها.
ويعيش القارئ هذه العناوين، كقصص قصيرة، تدرك الروائية كفايتها، وخطورة الاستمرار بها، فتنقل جريانها إلى تكرار عنوان ناديا 1952، وتضيف بعدها لودي 1934، من أجل التمهيد لنقل قصصها القصيرة إلى فضاء الرواية حيث تمدّ عناوين الغانيات أياديها كجذور داخل تربة بيروت بعناوين الأحداث، لتتشابك الشخصيات بارتباطاتٍ متداخلة الأزمنة، نشهد فيها ارتباط ناديا الشاعرة بالمومس أنطوانيت من خلال استئجارها البيت الذي كان يسكنه فيكتور السفّاح الذي قتل أنطوانيت وأبقى على رأسها فيه، ليتحوّل إلى بيت مسكون بالأشباح، ونشهد لقاء جينكو، قوّاد أنطوانيت بالسفّاح فيكتور في السجن، ونشهد لقاء لودي، العجوز سيئة الحظ التي تعيش غائبة بذكريات زوجيها الفقيدين، جورج وحبيب، مع ناديا وغادة وفق جيرة سكن الروشة البورجوازي تحت نار الحرب، ونشهد ارتباط نوال، السنّية المصابة بالذهان نتيجة خذلان حبيبها المسيحي جورج، بالطبيب النفسي زياد، الذي يعالج كذلك شخصيةً ترتبط بشخصيات أخرى في الرواية، ولنشهد أحد أهم ألغاز الرواية التي تدفع للتفكير: شخصيّة أليسار، جدة اللبنانيين الفينيقية، متجسدةً بشخصيةٍ يختلقها ذهن نوال المختلط الذي يقوم بقتلها وتقطيعها ودفن أعضائها في أحواض الأشجار والنبتات. ولنشهد الارتباطات التي تقدّم لنا لوحةَ بيروت، في ظاهر أحيائها المختلفة بمنابتها الطبقية والطائفية، وفي عمق ما تخلق معتقدات ومصالح هذه المنابت من بذور شائهة تنمو لتتفجر أحقاداً وكراهياتٍ وأسلحة. مع إضاءة ألوان هذه اللوحة بصراعات المدارس الثقافية، والثقافة التي تشكل بيروت أحد أهم مراكزها، وإضاءتها كذلك بمفاصل تاريخية أساسية أثّرت في دفع بيروت إلى ما تكون عليه، مثل الوجود الفلسطيني في لبنان، وأحداث الاعتقالات والمجازر والاغتيالات في صراعات الطوائف وصراعات اليسار مع الفاشية، ومن ذلك أحداث اعتقال الرئيس اللبناني بشاره الخوري من الفرنسيين، اغتيال السوري سامي الحناوي في بيروت، اغتيال معروف سعد في صيدا، مجزرة السبت الأسود في 6 ــ 12 ــ 1975، وذلك للكشف عن ما يوثر في سيكولوجية وحياة الشخصيات.
في جريان أسماء الغانيات والأفعال، باختلاط الأزمنة التي تقدم لوحة أعماق بيروت، تتجلى غانيات بيروت، ككائناتٍ تحمل لطفها وقسوتَها، بتداخلٍ عميق مع أطراف ثنائياتهنّ/ الرجال، الذين يخلقون أفراحهنّ وتعاساتهن، بما حملوا من قيم مجتمعات الذكورة، وما ملكوا من قوّة السيطرة الثقافية والاقتصادية، التي تتوجّه لصنع الغانيات، سيداتٍ ولعباً، ولقهرهنّ وإفراغ أرواحهنّ، أسْراً بالزواج وقتلاً وتقطيعاً بسكاكين القوادة وعقد الذكورة:
هشام، “يهتم اهتماما خاصاً بما تكتبه، ويشجّعها وهذا ليس بهيّن بل ينشر لها قصائدها بين الفينة والأخرى، ويدققها بنفسه. ناديا التي لم تكد تبلغ العشرين من العمر تنجذب بشيء من الخوف إلى هذا النجم الخمسيني النسونجي بميدالية “متميز فوق العادة”، علاقاتُه النسائية كثيرة ومتشعبة، وبالتالي فإن عمق تجاربه ومعرفته بسيكولوجية المرأة تجعلها تخشاه وتنجذب إليه في آن… هي تعرف أنها بالنسبة إليه لوليتا، فتتّكل على ذكائها وجمالها وحضورها وحسن إصغائها وابتسامتها المحببة.”.
ويمكن للقارئ أن يلمس ويعيش بقوة، حالة التعاطف مع النساء المرسومة أقدارهنّ بيد الذكور، وحالة التعاطف الإنساني مع بائعات الهوى اللواتي ترمي بهن أقدار هربهنّ من قسوة عائلاتهن إلى أيادي القوادين والسفاحين، كما يلمس القارئ بقوة، حالة اتحاد قبيلة الصيادين الذكور من خلال صداقة القواد جينكو مع السفاح المتسلسل فيكتور. من دون نسيان الروائية إبراز شخصيات الرجال بمختلف اتجاهاتها السياسية والثورية في نزوعاتها المركبة نحو غلبة المصالح والعدالة، مثل شخصية حازم، اليساري الثوري القادم من بعلبك، واتجاهاتها الاجتماعية العادلة العطوفة، مثل شخصية داوود المتفهمة لأقدار النساء، والعطوفة مع مصائرهنّ، والتي تجد العطف والحنان من شخصيات النساء اللواتي يتفهمن حالة تاريخ مجونه وفسوقه المنبوذ من منظومة أخلاق مجتمع بيروت، مثل ناريمان، التي تحتضنه في بيتها كعم أصيل لزوجها، وتشيّعه إلى مثواه الأخير بكرامة ما تختزن بيروت من كرامة:
“عند المغرب توقظه عادةً إحدى الجارات بركوة قهوة فيتبادلان أطراف الحديث، وكذلك تقوم إحداهن مداورة بالتنظيف والغسيل ورتق الجوارب، كأنه مسؤوليتهن جميعاً، يعرف أسرارهن ويطلبن رأيه فيحدثهنّ باحترام شديد غير مفتعل ويتفاعل معهن ويطمئنهن ويظهر لهن المودة ويحاول إمدادهن بالمعنويات والأمل. داوود لبق مع العامة والمومسات بشكل خاص. عنده دائما رغبة بتخفيف مواجعهن وانكساراتهن النفسية، متيقّنٌ أن في حياة كل واحدة منهن مأساة دفعتها إلى الهرب من الواقع إلى هذا القدر البشع، وقد رأى بأم عينه نهاياتهن المأساوية، ذليلات ومنبوذات من المجتمع، لا من يشفق عليهن من الأقربين أو المنتفعين من سحب مدخراتهن طوال سنوات باسم العائلة… رأى داوود الكثير من قصصهن لذلك يشعر بالأسى والشفقة عليهن. كم من جميلة أصابها مرض معدٍ جنسيا ولم تشف منه، فطُرِدَت من الماخور لتواجه مجتمعاً لا يرحم.”.
لينة كريدية، روائية لبنانية، تخرّجت من الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت بإجازة في التصميم والفنون الجميلة. عملت كمدير عام لدار النهضة العربية منذ عام 2000. أصدرت ثلاث روايات قبل هذه الرواية: خان زاده 2010، نساء يوسف 2012، ما ودعك صاحبك 2015.
أطلقت في عام 2006 مشروعاً شعرياً اهتم بالشعر العربي الحديث لا سيما القصيدة النثرية منه، وأسهم في تعريف جمهور الشعر بأصوات الشعراء الشباب، إلى جانب الأعمال الجديدة للشعراء المخضرمين. كما أطلقت مشروع “شاعر لأول مرة” في معرض الدار البيضاء 2012 بالتعاون مع بيت الشعر العربي.
المثنى الشيخ عطية شاعر وروائي
لينة كريدية: “غانيات بيروت”
دار النهضة العربية، لبنان، بيروت 2021
110 صفحات