لست أدري ما حدث لي بالضبط . ربما كنت أهذي من حمّى ، أو أهلّوس في حلم . والمفارقة ، أني لم أنتبه الى لون السيارة او نوعها . كما لم أنتبه إذا كانت تحمل لوحة عمومية ، او خصوصية . ولولا تنبّهي الى السائق ، لظننت أن السيارة كان يسيّرها روبوت هجين . كان السائق يسير كسلحفاة ، مما جعلني أتذمّر ، وأطلب منه القيادة بأسرع ما يمكن . كنت وزوجتي ، في المقعد الخلفي متجهيْن الى المدينة ، قاصديْن مكاناً أسميناه اعتباطاً “بنك السعادة” .
أخيراً ، بلغ السائق وسط المدينة ، فأوقف سيارته في محطة مزدحمة ، والتفت إلينا وقال : ها أنتما ألان في قلب المدينة . بوسعكما سؤال أي شخص عن مكانكما الذي لم أسمع به قط .
ترجّلنا من السيارة بعدما دفعت للسائق الأجرة . وفي الشارع الرئيسي ، لاحظت دونما جهد ، أن المدينة تنقسم في الواقع ، الى حيين متناقضين ؛ حيّ مهدّم بالكامل من جرّاء حرب أجهل تقريباً يوم وقوعها، وثانٍ ، بدا لي حيث كنت أقف ، فخم المباني ، ونظيف الشوارع ، وأنيق ألمّارة .
وجدتني وزوجتي ، في فم الحيّ المدمّر . وسرعان ما دب فينا الذعر لدى سماعنا دوي قذائف وأزيز رصاص . ولشدة خوفنا ، سقطنا أرضاً حيث سارع بعض المسلّحين لنجدتنا . وسمعت مسلّحاً ملتحياً ، يخبرنا أن الأمر مجرّد مؤثّرات صوتية ، لتذكير الناس بأهوال الحرب وشرورها . وبينما كان يهذر بشروحات لا معنى لها ، استرعى إنتباهي على أحد ألمباني ، يافطة متدلّية كشق لحم عجل أكله ألغبار . وكانت شبه محطّمة يعتريها بتراكم ألأيام ، الصدأ والدخان . ورغم حروفها الناقصة ، استطعت قراءتها ، حيث كانت تشير الى “بنك السعادة” .
قلت للمسّلح الملتحي وأنا أشير بأصبعي إلى اليافطة : أريد الصعود الى هناك .
– أنت تقصد “بنك السعادة”بكل تأكيد .
– نعم .
– لن تجد فيه شيئاً . فهو الأن مرتع للحشرات والجرذان . كما أن جميع الودائع وألأموال والمحفوظات ، سُرقت منه منذ زمن بعيد .
– أنا أبحث عن وثيقة تركها والدايّ لي .
– حتى هذه ، ستكون قرضتها الفئران .
– دعني أحاول .
بعد الحاح ، سمح لي المسلّح بالصعود الى المبنى ، محذّراً إياي من الجرذان التي ستكون بلا ريب ، بحجم القطط المنزلية السمينة . هنالك ، بين الركام والغبار ، وجدت وثيقتي المنشودة التي كانت لسوء ألحظ ، بقايا ورقة أتت عليها الجرذان . فما أفادني ذلك بشيء ، فتركتها وغادرت الموقع خائباً .
ودون مبرر ، نعتني المسّلح بالحمق ، فغضبت وكدت أنقّض عليه ، لولا تدخّل زوجتي التي هدّأت من غضبي ، وانسحبنا من المكان . وما لبثت أن نسيت الأمر برمّته ، واتجّهنا الى الحيّ الراقي من المدينة . وفوراً ، نال مني صخب الموسيقى وفرح الناس ، ووجدتني أقفز وأتمايل بسعادة غامرة . ثم لفت نظري جسراً طويلاً ، كانت عارضات أزياء تستخدمنه كمنصة لعرض أزياءهن التي كانت بحسب موضة اليوم ، قصيرة ومزخرفة ومثيرة . ومن تحت الجسر ، أخذت أتلصص على الأجزاء السفلية من أجساد العارضات الفاتنات ، وتسنّى لي النظر بلا كلل ، الى سراويلهن الداخلية المختلفة الأشكال والألوان والمثيرة حتماً . شعرت زوجتي بالحرج ، فأشاحت بوجهها جانباً . وفي الثانية التالية ، افتقدتها وظننت أنها ربما تكون ذهبت لقضاء حاجة ما . ولمّا طال غيابها ، اتصلّت بها بالمحمول مراراً من دون أن أتلقّى جواباً . خفت ، وطفقت أبحث عنها هنا وهناك ، حتى قادتني قدماي الى المسّلح الملتحي الذي أخبرني أن امرأتي صعدت الى احد الأبراج لزيارة أمّها . إستغربت ألأمر ، وقلت له أن أمّها ميّتة منذ سنوات ، وسألته الصعود الى البرج لجلبها . لكنه منعني بسبب بدء مناورة عسكرية بالذخيرة ألحيّة . قلت له أنها تخاف من الرصاص ، وقد يصيبها مكروه . فما كان منه إلّا أن زمجر في وجهي ، وهدد بإطلاق النار عليّ . مكثت غير بعيد ، متوقعاً منه أن يغيّر رأيه ، أو انتهاء المناورة في غضون ساعة كما قال . ولكنه قال ايضاً ، أنها قد تستغرق يوماً بطوله .
وهذا يعني أن انتظاري سيكون طويلاً ، وبلا طائل . سئمت النظر الى المسّلح الذي كان بين الحين والأخر ، ودونما سبب ، يحمل عليّ كأنني كلب . تضايقت جداً ، ولولا سلاحه ، لدققت عنقه حالاً . غادرت المكان ساخطاً ، وسلكت طريقاً ترابياً طويلاً خلته لا ينتهي . أرشدني شاب كان يرتدي ثياباً بيضاء كتراب الطريق ، الى “سناك” صغير ، حيث تناولت سندويشاً وزجاجة بيبسى . ثم تابعت الطريق ، محاولاً كل دقيقة ألإتصال بزوجتي . وصادفتُ على حين غرّة ، لاعب ألموسم الجديد “راشفورد” ، مستقلّاً حنطوراً يجرّه جواد أبيض وأعرج ، كأنه يشكو من الرباط الصليبي . فقبل أن يقلّني حتى مفترق الطريق الواقع خارج ألمدينة . وحين ترجّلت من الحنطور ، أكّد لي : بوسعك الآن الإتصال بزوجتك . وسوف تجيبك بكل تأكيد . وفعلاً ، هكذا كان . ظهرت زوجتي على شاشة المحمول ، وخيّل إليّ أني لمست وجهها الذي كان دافئاً ، لكنه كان يقطر بالحزن . كانت ترتدي فستاناّ من الطراز القديم ، تتخلله دوائر بيضاء وسوداء ، وأذكر أنها كانت ترتديه في أيام صباها .
وكان شعرها الليلي ، مقصوصاً ومسرّحاً ، كما الصبيان . وظهر عنقها الطويل في أوج بياضه وبهائه ، فوددت من كل قلبي ، لثمه بقدر ما أستطيع . قلت لها مهتاجاً بأني أنتظرها عند مفترق الطريق ، قرب صيدلية “ألملّا” بالتحديد . وفوجئت بها ترّد عليّ بقسوة : أغرب عني أيها القرد العجوز . ألححت عليها بضرورة قدومها ، إلّا أنها لم تستجب لي ، وأخذت صورتها بالتلاشي حتى اختفت بالكامل . أيقنت تواً ، أني فقدتها وخسرتها الى الأبد . جرحت خدي دمعة حادّة ، وأدركت أني كنت طوال ألوقت ، أعامل زوجتي بقسوة ، وقلة أدب . نقمت على نفسي ، وعاقبتها بأقذع أنواع السباب . لكنني ما لبثت أن إستدركت الأمر ، وقلت بحنق : “تباً لك من امرأة . وليكن ما يكون . “
بيد أن أحداً ما ، أشعل عود ثقاب أشعلني تماماً . وهنا ، لحسن الحظّ ، استيقظت .