بمناسبة يوم اللغة العربية – جديد القديم/ دكتور محي الدين عميمور
21 ديسمبر 2021، 00:09 صباحًا
يتردد في بلادنا، عند الحديث عن اللغة الفرنسية، تعبيرٌ يصفها بأنها “غنيمة حرب”، والمقصود هو (Butin de guerre، وليس Putain de guerre، لطفاً) وهو ما يعيد إلى الذاكرة أياما، أو على الأصح قرونا خلت، كان المُقاتل فيها يخوض غمار حرب شرسة، فإذا ظفر فإنه يعود بغنائم ربما كان من بينها سبيّةً يجعل منها محظيّة أو خليلة إذا كانت شابة وجميلة ومتألقة، أو يكلفها بمهام الخادمة أو ما دون ذلك، إذا كانت غير ذلك.
عندنا نعيش العجب العُجاب، فالسبيّة، التي لم تكن “بريجيت باردو” أمس ولا “نانسي عجرم” اليوم، استولت على عقل مالكها وخلبت لبّه، فسلمها لحيته وأسلم لها قيادَه، ولأنها لم تكن تؤمن بالتعددية وكانت ترفض المساواة فقد طردت زوجه وأبناءه، وجاءت بأهلها فأسكنتهم المنزل وسلمتهم مفاتيحه، وأرغمت بعلها “الجايح” على أن يكتب كل أملاكه باسمها، وتعطفت عليه في نهاية الأمر فخصصت له غرفة مهجورة يلفظ فيها أنفاسهُ الأخيرة، وراحت تقضي نهارها هائمة ومساءها راقصة وليلها عاشقة لأي عابر سرير.
وهكذا سادت في بلادنا لغة “سانت آرنو وبيجار ولاكوست”، التي كان مولود قاسم رحمه الله يردد بأنها أصبحت لغة متخلفة، مقارنة باللغات الأخرى كالإنغليزية، وهي اليوم لغة العلم وأداة العلماء، والإسبانية التي تتحدث بها نحو ثلاث قارات، والصينية التي يتعامل بها خمس سكان العالم، والألمانية التي تشق طريقها نحو العالمية.
وبأموال الدولة، التي استعادت استقلالها بدماء ملايين الشهداء واسترجعت ثرواتها بتضحيات أجيال وأجيال، ازدهرت لغة الخادمات (femmes de ménage) والكونسييرجات (concierges) وازدادت صفاقة من تحولوا من الفرانكفونية إلى الفرانكوفيلية ثم إلى “الفرانكومانيا” الممتزجة بالأرابوفوبيا والحساسية المرضية من كل ما تفوح منه رائحة العروبة والإسلام.
ونتيجة للتراخي المُعيب لمن يعنيهم الأمر أو يجب أن يعنيهم الأمر استطاع “التسونامي” الفرنسي إغراق معظم المجالات، خصوصا مجالات الإعلام والثقافة، وأصاب المُحيط الاجتماعي والاقتصادي ومعالم العمران ومجالات البيئة بأسوأ مظاهر الاستلاب.
وأصبحت بلادنا فريسة للفرنسية السوقية (Registre familier, argotique et grossier) وأبعدها عن المستوى الرفيع (Registre soutenu) وحتى عن اللهجة العادية (Registre courant) ِللُغةٍ لعلها من أجمل لغات العالم، وسيطرت على التعاملات الاجتماعية فاحشة لغوية هجينة أفسدت اللغتين، ونددت بها القيادة العليا علنا، ثم نسي الأمر كله في اليوم التالي.
هذه هي وضعية “راهن اللغة العربية” في واحد من أهم بلدان الوطن العربي، وقد يكون هذا واقعها في سنوات قادمة في بلدان أخرى عندما يشتد عود المهاجرين إليها، فتسود الأوردو ولغات البنغال والباشتون والهازارا، وتكون الكلمة الأخيرة لكل من يكتب من اليسار إلى اليمين وربما أيضا من أعلى إلى أسفل.
ولقد شهدت بلادنا في السنوات الأخيرة تراجعا رهيبا في الوجود المُؤثر للّغة العربية، يكفي للتأكد منه متابعة الحصص القديمة التي تقدمها التلفزة الجزائرية من حين لآخر وتبرز بوضوح تقهقر اللغة العربية اليوم، وجودا ونوعية وانتشارا، مقارنة بالستينيات والسبعينيات وحتى بعض الثمانينيات، وتكفي للدلالة عليه أيضا جولة في الشوارع الرئيسية للعاصمة الجزائرية، حيث توسع استعمال اللغة الأجنبية على واجهات المحلات العامة وأصبح نوعا من الفجور اللغوي، حتى تندّر البعض بأن محيط بعض الأحياء في بعض مدن بريطانيا وفرنسا قد يكون أكثر تعريبا منه في العديد من أحياء عاصمتنا العربية.
وأعترف أنني، عندما تقدمت في بداية الألفية إلى مجلس وزراء الثقافة العرب باقتراح أن تكون الجزائر عاصمة للثقافة العربية عام 2007، كنت أتصور أن الاحتفالية، التي ستدوم سنة كاملة، ستكون فرصة سانحة لقيام لتعريب المحيط تعريبا كاملا، وحاولت قبل انطلاقة السنة بشهور طويلة أن ألفت النظر إلى التقصير الملحوظ في هذا المجال ، ولكن صيحاتي ذهبت أدراج الرياح، وعشنا فضائح يندى لها الجبين، حتى بالنسبة لقوائم الطعام في معظم الفنادق التي تستقبل الضيوف في عاصمة الثقافة العربية.
ثم لاحظت طوال السنة، بكل مرارة، قلة عدد المسؤولين، صغارا وكبارا وكبارا جدا، الذين اهتموا بمتابعة الحفلات الرسمية لتظاهرة ثقافية وطنية لا يعيشها جيل واحد غالبا أكثر من مرة واحدة طوال حياته المُثمرة, وبرغم أن الدعوات كانت توزع بانتظام على جل القيادات وقصر الثقافة كان مفتوح الأبواب على مصراعيها.
وطاشت آمال تعريب المُحيط، وأعطى أصحاب القرار في المواقع التنفيذية ظهرهم للقوانين المتعلقة بتعميم اللغة العربية، ولعلهم تصوروا أنهم بذلك ينسجمون مع إرادة مواقع عُلا، تملك لهم نفعا كثيرا وضُرّا أكثر.
وأتذكر هنا أن مسؤولا ساميا، كنت أحاول دعوته للمساهمة في مجال تعريب المحيط، قال لي، باستعلاء واضح، أن هذا كله قشور خارجية وبأن علينا أن نهتم بالجوهر والمضمون، مما جعلني أسأله متهكما، بوضوح لم أحاول إخفاءه، عمّن منعه من الاهتمام بالجوهر والمضمون، ومجال نشاطه المهني يعرف العجز الواضح في جل الممارسات.
ولم تتحرك الأحزاب والهيئات والمؤسسات المعنية لتفرض كلمتها التي تجسد إرادة جماهير تدعي أنها تمثلها، ولم نعرف مظاهرات مليونية هدد بها البعض يوما لكي تفرض إرادة الشارع في استرجاع عنصر رئيسي من عناصر الهوية الوطنية، والقاعدة الرئيسية لأمن البلاد القومي، ولم يخرج بعض مثقفينا، ممن جعلوا العربية بضاعتهم، عن اجترار الكتابات الروتينية التي كانت، في معظمها، استعراضا للعضلات اللغوية ومحاولة للاستفادة الشخصية، ولم تتحرك معظم صحفنا التي تكتب من اليمين إلى اليسار لتقرع أجراس التنبيه بشكل مؤثر ومتواصل ومُستنفر بل وُمستفز، أما مُعظم الصحف الخصوصية المكتوبة من اليسار إلى اليمين فقد عتمت على جل عناصر التظاهرة، وأكّدت بذلك أن الأمر يتجاوز التراخي واللامبالاة والإهمال ليكون اختيارا عقائديا وفكريا وسياسيا.
من المسؤول ؟
إذا كنت توقفت طويلا عند تلك التفاصيل فلكي يتضح أن المسؤول هو غياب الإرادة السياسية الجماعية ونقص الوعي القومي في جل المستويات، فالطبقة السياسية، سلطة ومعارضة، لم تدرك، كما لم يُدرك المجتمع المدني والنخبة المُثقفة، أن اللغة الوطنية، وبالإضافة إلى أنها هي خط الدفاع الأول في ميدان الأمن القومي لأي بلد كان، هي اسمنت الوحدة الوطنية التي تعطي لأي بلد قوته الحقيقية في مواجهة الآخر والتعامل معه بمنطق الندّية، والتمسك بها هو، في حد ذاته، تجسيد لهيبة الأمة وتعبير عن كرامتها ورمز لمكانتها ودعم لإرادتها عندما تتصارع الإرادات الدولية.
ولم يتوقف من بيدهم القرار التنفيذي عند الصور التي يقدمها دائما وزراء العالم المتقدم، بل وغالبا المُتخلف، ومسؤولوه في التعامل مع لغاتهم الوطنية، والذي وصل أحيانا إلى تجاوزات قد تكون محل مؤاخذة ديبلوماسية، ولكن نتائجها كانت دائما تقديرا متزايدا لمن يحرص على التعامل بلغته الوطنية ولا يتشدق بغيرها، خصوصا إذا لم يكن يتقنها.
ولا أنكر أن مأساة اللغة العربية، كلغة وطنية ورسمية، ليست احتكارا للجزائر وحدها، بل إن أقطارا عربية متعددة تعاني صورا مختلفة من الاستهانة باللغة الوطنية، ويمكن القول بأن العديد من عواصمنا تعيش تلوثا لغويا يأخذ أشكالا متعددة، فقد يكون خليطا هجينا يشبه “الشكشوكة” اللغوية التي تجترها جموعنا، ويستعملها، بكل أسف، أساتذة جامعيون بل وسياسيون عبر البرامج المُتلفزة، وقد يكون تلوثا شبه كامل بلغة أجنبية يفرضه الخدم الوافدون على أطفال البلاد الذين يُكلفون برعايتهم في غياب الأم، وربما مع أشكال أخرى من التلوث الأخلاقي، وقد يكون غزوا واضحا يتعرض له أبناؤنا في المدارس الأجنبية التي تسربت إلى العديد من الأقطار، وغالبا نتيجة لنشوء رأسماليات طفيلية، عبّر عنها توفيق الحكيم بأنها تمثل “انتفاخ الجيوب وفراغ العقول”، وهي فئات مُترفة إلى حد السفه، استغلت ثغرات التنمية الوطنية والكفاءة المحدودة للقائمين عليها كما استفادت من وضعية الإرهاب الإجرامي، ولا أعرف على وجه التحديد دورها في اندلاع ناره، وتحالفت مع مراكز نفوذ مستفيدة من المستنقع السياسي الذي ألقينا فيه أو انزلقنا إليه، لكي تفرض، بجهلها وجاهليتها، الثقافة التي تتناسب مع مستواها الفكري، حتى في مجال الفنون بكل أنواعها، وهي التي تشجع النضال !!العقائريّ لأمثال الشابة “الشهوانية”، وتروج للأغاني “الفِراشية” من أمثال “بُوس الواوا” أو “قول لي وين ترقد”.
وهنا يأتي سبب آخر في حدوث الخلل الذي أصاب وضعية اللغة العربية، وهو ما ابتليت به مسيرة الفكر القومي العربي نتيجة لسلسلة الأخطاء والعثرات التي أصابت المشروع القومي العربي، والذي تأثر في بداياته بما سُمي ثورة عربية كبرى، وهي عملية مخابراتية بريطانية كلف بها ّلورنس” في مطلع القرن الماضي للإجهاز على الإمبراطورية العثمانية، وفتح الطريق أمام الجنرال “ألِنبي” لدخول القدس، واستكمال تحقيق وعد “بالفور”.
وهكذا أخذ تعبير الفكر القومي مع نهايات القرن الماضي معنى قدحيا، أو أعطيَ ذلك، وهو ما أحسنت استغلاله مؤامرات الاستعمار القديم المتواصلة وأطماع الاحتكارات الدولية المتنامية، بالإضافة إلى قنابل موقوتة جسدتها شرائح القوة الثالثة التي كان المستعمر السابق قد أعدها لتضمن وجوده المستقبلي، وكنت أطلقتُ عليهم في الثمانينيات صفة “الطلقاء”، بكل ما تعنيه وتدل عليه.
وفي ظروف لا أريد أن أتوقف عندها حدث الشرخ بين الفكر القومي والتيار الديني، والإسلامي على وجه الخصوص، حيث أن المسيحيين في شمال المشرق كانوا جزءا من الحركة القومية التي رأوها علمانية تنسجم مع شعار: “الدين لله والوطن للجميع” الذي رُفع في مصر آنذاك.
وراح كلٌّ يُحمّل الآخر مسؤولية الانهيار الشامل لحال الأمة، ولم يُدرك أيّ من الذين يجسدون الفكر القومي والذين يرفعون اللواء الإسلامي أنهما جناحان لطائر واحد، وأن الوطنية الحقة لها، كالعملة المعدنية، وجهان، واحدٌ قومي وآخرَ ديني، وأن الممارسة الدينية التي لا ترتبط بأرضها وقومها وتاريخها هي سباحة في الهواء، والمولى عز وجل يقول لنبيه الكريم : “قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها”، لأنه تعالى كان يعرف حب سيد المرسلين، لبلده، لأم القرى.
ومن جهة أخرى فإن الفكر القومي بدون انتماء روحاني يضمنه الدين وطاقة روحية يُوفرها الإيمان بالله واليوم الآخر هو إبحار بلا بوصلة في بحر لُجّيْ تتشنج أمواجه، وتحت سماء غائمة لا تظهر فيها نجوم وعبْر ضباب يحجب كل الآفاق.
والفكر القومي بدون لغة قومية هو كائن يفتقد كل الحواس، وبالتالي فإنه يفقد صفة الفكر.