عن دار سهيل عيساوي للطباعة والنشر، صدرت قصة الأطفال ثابت والريح العاتية (2014)”Thabit and the strong wind” باللغتين العربية والإنجليزية، للأديب سهيل عيساوي، وتقع في أربع وعشرين صفحة ملونة أنيقة وغلاف جذّاب سميكٍ لامع، تُحلِّيها رسومات فنية معبّرة للفنانة فيتا تنئيل، دققها لغويا الأستاذ أحمد شدافنة.
جدير بالذكر أن هذه القصة قد نالت جائزة ناجي نعمان الأدبية الهادفة، وجائزة ماري لويز الهوا لأدب الأطفال الأخلاقيّ، وذلك لرقيّ مستواها وتميّزها، وقد نُشرَت حولها العديد من الدراسات النقديّة الجادة. فمن أفق الطفل وبيئته الثقافية والاجتماعية، انطلق المُرَبي عيساوي في بناء قصته بأسلوب شاعري، معتمدا الرمزية والتجريد والصور الحالمة، دون أن يتخطى مدارك الطفل وحاجته في استيعاب الرمزية والشاعرية، فَمَيّزَ نصّه بالإحكام والجمالية، التشويق والمفاجأة، وجعله متصلاً بالواقع، وربَطَه بعناصر قابلة للإدراك في ذهن الطفل وحواسة، مضيفا إليه الحركة وبعض المكونات الواقعية، ليخاطِب وجدان الطفل وعقله بأسلوب أدبي يتناسب وقدراته الذهنية واللغوية، معتمدا الصور الفنية المبسطة، مبتعدا عن التقريرية والمباشرة.
تدور الأحداث حول الطفل ثابت، الذي استيقظ من نومهِ مذعورًا على صوتِ الضوضاءِ وتحطُّم البيوت والمنازل في ليلةٍ أسدل فيها الليل ستائره وفتح أجنحته، فغمر الأرض بظلامٍ دامسٍ، وبدأت الريح العاتية تعصف بقرية ثابت الصغيرة حتى هدمتها عن بكرة أبيها، فغدت وكأنّها أطلال بالية.
انتاب ثابت الذعر لهول ما رآه، ودَّبَّ الرُّعبُ في قلبهِ وتملكه الخوف، اختبأ تحت سَّريره وبدأت الرِّيحَ تطرق بابَ بيته بقوَّة، فأسرع وقفزَ من النافذةِ مهرولاً راكضا فَزِعاً، حتى وصل إلى مغارةٍ صغيرةٍ في أسفل الجبل ولجأ إليها، فوقفت الريحُ أمامَها وقالت: لن أمَسَّك بسوءٍ، فلم يُصدِّقها وَرَدَّ قائلا: كيفَ أثقُ بكِ وأصدِّقكِ وقد دمرتِ قريتي؟
طمأنتهُ الريح، وطلبت مِنه أن يَبتلعهَا في النهار ويُخفيها في بطنهِ، لأنها تخافُ شروق الشَّمس ونورها الساطع، الذي يوهنُ قوَّتُها وجبروتها، على أن تقوم هي في الليل بابتلاعه وحمايته مِن براثنِها وهيجانِها، وقامت بإقناعه أن في ذلك مَصلحة مشتركة لهما، وعدَته بأنّها ستطيرُ به حولَ العالم ليزور كل مكان يحلمُ به، فوافقَ وضمَّتهُ الريح حتى تَوارى في داخلِها وانطلق مسافرا معها، يجوبُ البلاد مستمتعا بالأطعمةِ الشهيّة وأطيب المأكولات، حتّى ازداد وزنَهُ وأصبحَ سَمينًا، وتغيَّرت ملامحَهُ وثَقُلَتْ حركتَهُ وإرادتَهُ، واختفتِ مِن وجههِ براءة الطفولةُ، وتمضي الأيَّامُ وتسير الأحداث، وبدأ الحنين يطويه ويشدّه إلى أرضهِ وترابها، وإلى بيته وقريتِهِ التي دمّرَتها الريح، اشتاقَ ثابت لأهله وأصدقائه، منزله وسريرهِ الدافئ، دفاترِه أقلامِهِ وألعابهِ، ندم وأدركَ حجم الورطةَ التي وقعَ فيها، وراح يُفكِّرُ في كيفية الخلاص مِن تلك الريح العابِثة المسّتَغِّلة، التي تنتهز كل الوَسائِلِ وتستخدم كل الطرق لِتَحْقِيقِ مَصالِحَها الخاصة على حِسابِ الآخرين!
لمحت الرِّيحُ أفكارَه وأحسَّتْ به، فأضمَرَت لهُ الشَّرّ وقررت الاستغناء عنه، فهي لم تعد بحاجة إليه بعد أن اشتد عودها وتعاظمَ عصفها وجمعت ما تحتاج من قوَّةٍ وعزم وطاقة، فقامت بحمله ليلا وألقتْ بهِ في صحراءَ قاحلة! استفاقَ ثابت فجرا ونظرَ بذهولٍ فوجدَ نفسَهُ وحيدا، بدأ يصرخُ وأخذ ينثر الرمل بيده متوعدا تلك الرِّيحُ وشرّها.
يبدو أن الكاتب قد راهن على طبيعة الصغير وحاجاته المعرفية، فحشد إمكاناته الفنية واستجاب لروح الطفولة وما تستلزمه من نزوع إلى الجديد، الفضول والمغامرة ومشاهِد الدهشة، فَرَجَّحَ كفة القيّم، التعليم والبلاغة القصصية، وتعامل مع الطفولة باعتبارها مرحلة ينبغي أن نتولاها بالمتابعة الرعاية والدعم، فحمَّلَ قصته رسالة رمزية عميقة مُبَطَّنةِ، ووظفَ الرّيح مشيرا إلى النكبة الفلسطينية، والواقع المكلوم بأحداثه وأبعاده الإنسانيَّة والوطنيّةِ، وإلى الاحتلال والقمع، التشريد والتهجير.
هكذا أبدعَ المؤلف في تقديم فكرته التي كتبها بلغةٍ فصيحةٍ مُموسَقةِ شجيّة، ومزجها ببعض المُصطلحاتِ اللّغويَّةِ والاستعاراتِ البلاغيَّةِ والجُملِ الشَّاعريَّةِ المُنمَّقةِ، لتصل إلى الطفل المتلقي بنجاح، فتثير نزعاته الكريمة وتعزز عواطفه النبيلة وتدفع به إلى حب الخير والانتماء للأسرة والوطن.
بقي أن أذكر أن هذه القصة لا تناسب مرحلة الطفولة المبكرة، وهي تناسب اليافعين ومرحلتي الطفولة المتوسطة والمتأخرة.
أخيرا.. أهنئ الأستاذ والمرّبي سهيل عيساوي على هذا العمل، وأبارك له نيله لجائزة ناجي نعمان، وإلى دوام التألق والتميّز والنجاح.