في ليالي الشتاء، تحلو الحكايات على وقع الأمطار وتساقط الثلوج. وعالم الأطفال يستدعي جمال الحكاية وينشر حرارة دفئها في خيال الطفل استعدادا لرحلة النوم. وصورة الطفولة لا تغادر خيالي: هاهي الجدة تتكئ على ذراعها اليمنى وتربت بيسراها على حفيدها المغطى بدثار صوفي سميك يقيه برد الليل. وعلى أجنحة الحكاية تنطلق أفكار الأطفال وأحلامهم، وسرعان ما يستعرقون بنومهم الدافئ المريح. والحكاية قد تكون نابعة من حياة الجدة وتجاربها، وقد تكون من مخزون الذاكرة، وهي تسترجع ليالي طفولتها لكنها لا بد أن تضيف شيئا جديدا إلى ما تحكيه، لأن لكل جيل حياته وتجربته وذائقته المختلفة عن الأجيال السابقة، ولأن دولاب الزمن في حركة دائمة إلى الأمام، والحياة في تطور لا يتوقف. وحكاية الجدة تزداد متعة وجمالا في نفس الطفل ومشاعره حين ترافقها بعض الهدهدات الغنائية، وعلى وقع تلك الكلمات وألحانها العذبة يسرح الطفل في عالم النوم ويحتضه فضاء الأحلام.
والحكاية من أجمل مخزونات التراث التي تغني خيال الطفل وتشكل جانبا هاما من أساس البنية الفكرية وملامح الهوية لديه. إن الحكاية وأهميتها في التراث كجذور الشجرة التي لا تنمو وتمد أغصانها وتكمل حياتها بالأزهار والثمار إلا بغزارة النسغ الصاعد من الجذور. والحكاية هي الغذاء الفكري والثقافي والروحي الذي يكتسبه الأطفال جيلا بعد جيل. وعلى هذا الأساس الفني الذي تبنيه الحكايات في عقل الطفل وذاكرته تمضي دروب الحياة، ويواصل المجتمع مسيرته وتعزز الدولة مؤسساتها ومشاريعها في العمران والتطور. والجميل أن حكايات الجدة تمتاز دائما بنهايتها السعيدة حتى ينام الطفل نوما هادئا، ولا تعكر الكوابيس أحلامه، وهذه من أهم العناصر والمزايا الإيجابية المريحة في تلك الحكايات، دون أن ننسى أن مقاطع الخوف والخطر قد تساعد في إثارة التحدي والتفكير لإيجاد طريقة نافعة في الخلاص، وتمنح الطفل الطموح والإرادة للمواجهة وتجاوز تلك المصاعب التي تفاجئ بطل الحكاية، لكن الخاتمة السعيدة بعد الصبر وقوة الاحتمال هي التي تنتهي بها غالبية الحكايات، وكأن جداتنا كن على دراية بقبس من علم النفس وأصول التربية، قبل مجيء المدرسة في عصرنا الحاضر.
إن موهبة الأطفال تتفتح على عالم الحكاية وفضائها الرحب الجميل. ونظرا لأهمية الصورة في حياة الطفل، بدأت مجلات الأطفال تستجيب لرغبات الصغار وتملأ هذا الفراغ، وأصبحت الحكاية أو القصة المروية برسوم رمزية أو إيضاحية مرافقة تزيد من تعلق الطفل بها، وتساعد في سرعة حفظها وعمق تأثيرها في اتساع مداركه وفضاء خياله. من هنا أخذت الرواية في زماننا تيار انتشارها الواسع. ومن هذه الزاوية نرى أن الرواية حلت مكان الشعر، وأصبح الكبار من شباب وكهول ميالين إلى قراءة الرواية لما تتضمنه من جاذبية الحكايات التي سمعناها في مرحلة الطفولة، ثم طواها النسيان في أعماق نفوسنا.
قبل انتشار المدارس في بلادنا، كانت حكايات شهرزاد أو طرائف منها تدور بين الأهالي والجيران وتلون سهرات الكبار والصغار بما فيها من أحداث ومغامرات. لكن تطور الحياة يأتي دائما بشيء جديد على حساب القديم. والمدرسة اليوم، بدءا من سن الحضانة ألغت دور الجدة وحكاياتها، كما أن انفراط جو العائلة الكبيرة، واستقلال الأبناء بعد الزواج بمساكن معزولة عن بيوت الآباء والأمهات، ألغى دور الحكاية وخاصة في المدن. ربما أخذت برامج الأطفال في التلفزيون دور الجدة وعوضت عن حكاياتها، كما أن اللغة الرقمية وما فيها من مواقع للتواصل والكتابة والقراءة، وما أحدثت من فرص أعدها الحاسوب والهاتف المحمول أدت إلى نسيان الجدة ودورها. لكن ضرر هذه الوسائل يشكل أضعاف فائدتها، إذا لم تنتبه الأم أو الأب إلى ما يطالع أولادهم فيها. وهذا باب جديد واسع لا حدود له وما زالت أخطاره مفتوحة على شتى الاحتمالات. وكل اختراع جديد هو سلاح ذو حدين يحمل الفائدة كما يحمل الأذى والخراب.