شواطئ الستينات.. مقتطف من السيرة الذاتية/وليد الأسطل
26 يناير 2022، 00:01 صباحًا
مِن بين قراءاتي الأدبيّة غير القليلة الّتي تحوي بين دفّتَيْها ألوانَ َطيفِِ تبدأ من الخاطرة وصولاً إلى الرّواية فإنّ نصّ شواطئ الستّينيات مقتطف من السيرة الذّاتيّة للأستاذ (عبد الجواد سيّد) قد َطبَعَني بِمَيسِمِه، على الرّغم من أنّ مزاجي الأدبيّ يميل بِرُجوحٍ لا لبسَ فيه إلى النصوص الأدبيّة ذات اللّغة الشعريّة الثرّة إلّا أنّ نصّ الأستاذ (عبد الجواد سيّد) جعلني أعيش لحظاتٍ منَ النّشوةِ الفريدة والوَجْد العالي، رَغمَ توفُّرِه على نصيبٍ مُحتَشِمٍ من شاعريّة اللّغة.
لقد قرأتُ النصّ المشار إليه، مرّاتٍ ومرّات، لأستشفَّ سرَّ تأثيره فيّ، فوصَلتُ بعد طول نظَرٍ، إلى أنّ الوصفة السّحريّة التي اعتمدها في صياغة نصّه، والّتي اِستَعَاضَ بها عن شاعريّة اللغة تتمَثَّلُ في شاعريّة الوصف، و رَوعِةِ الحَكْي. لقد أطلق الأستاذ عبد الجواد الحَبْل على الغارِب للطفلِ الحالِم بداخلِه، فما كان من عبد الجواد سيّد الكَهل إلّا أن دَوَّنَ ما أملاه عليه وَحيُ الطفولة.
كانت تأتيني و أنا أتَمطَّقُ حروفَ و معاني نصَّ السيرة الذّاتيّة هذا فتنةُ الإسكندريّة محمولَةً على صوتِ المبدع محمد الحلو، و هو يغنّي جينيريك مسلسل زيزينيا، من كلمات الشاعر المصري الأصيل أحمد فؤاد نجم، وهو يقول: إسكندراني عاِشق أغاني، جيعان يِغَنِّي، شبعان يِغَنِّي.
زيزينيا، إسكندريّة النّصف الأوّل للقرن العشرين، التاريخ، أسامة أنور عكاشة، ذكّرني بكلّ هذا، حتّى و إن كان يتحدّث عن إسكندريّة الستّينيات.
جعلني أرى الإسكندريّة بِعَينِ الحاوي، مدينة تسكن هوى أبنائها و عاشقيها، مدينةٌ يحملها أبناؤها بداخلهم ذكرياتٍ وحنيناً، لا تسرقهما السّنون مهما طالت، و المسافات مهما بَعُدَت.
لم أجد عملاً أدبيّاً أَقِيسُ عليه التُّحفَةَ الفنيّة المسمّاة شواطئ الستّينات سوى رائعة بيدرو بارامو للأديب المكسيكيّ الطليعيّ، مُلهِم خوسيه أيولا، و جابرييل غارسيا ماركيز، و الأب الروحي للواقعيّة السحريّة خوان رولفو، الّذي دفعه لكتابتها زيارته لقريته بعد طول غياب، فما أحكَمَ جملة محمّد البساطي (لو لم أخرج منَ القرية لَمَا كَتَبتُ عنها.)
رواية بيدرو بارامو، حين تُحدّث دونيا إيدوفيخيس، خوان بيرثيادو عن ميغيل بارامو، قاتل أخ الأب رينتيرا، وعن عودَةِ حصانه بعد مصرعه، فتسمع صهيلَهُ أثناء حديثه، فيجيبها خوان بيرثيادو “لا أفهم ما تقولين، بل حتّى أنّي لم أسمَع جَلَبَةَ أيّ حصان!) لكنّني أنا وليد الأسطل سمعت جيّداً أمواج شاطئ الإسكندريّة، و سبحتُ مع شبابها المغامرين، و جلستُ آكل السمك الذي طهَتهُ أمّ بسيوني”.
إذا كانت رواية بيدرو بارامو تنتمي إلى الواقعية السحريّة، فإنّ شواطئ الستينات تنتمي إلى سحر الذكريات. إنّه لدليل على تدنّي الذّوق، عندما يضرِب المنتسبون إلى الثقافة صَفحاً عن قراءة مثل هذه النّصوص، لكن لا بأس، فالتاريخ حافلٌ بروائع دُفِنَت تحت رُكامِ الإهمال، ثمّ ثأرت الأجيال القادمة لها ولأصحابها. أعمال بيتهوفن العظيم، قبّة فلك الموسيقى، لم يُلتفت إليها في البداية و لا إلى صاحبها الذي اتُّهِمَ بالجنون، و الذي لم يجد أحداً يشهدُ له بعبقريته إلّا صديقه هومل، في دقائق حياته الأخيرة، على سرير أهلِ بيتٍ آووه شفقةً بحاله “أَلَمْ أَكُن عظيماً في حياتي يا هومل؟” “بلى لقد كُنتَ عظيماً يا سيّدي”.
لم أُورِد جُملاً من شواطئ الستّينات لأنّني وجدتُ الأستاذ عبد الجواد سيّد قد ركّبَ نصّهُ كما تُرَكَّب الأُحجِيَة التي لا معنى لقطعها و هي منفصلة، لذا ادعو إلى قراءتها كلّها، فهي كتلة واحدة، أو كجسدٍ متجانس، يكمن جماله في التناسق القائم بين أعضائه.
هذا هو تقييمي لنص الأستاذ عبد الجواد سيّد، شواطئ الستّينات، المثال التوضيحي الأمثل لتعريف ابن المقفّع للبلاغة( هي التي إن سمعها الجاهل ظنَّ أنّهُ يُمكِنُهُ أن يأتيَ بمثلها). النصّ ليس طويلاً مملّاً، ولا قصيراً مُخلّاً، وهذا هو العهد بالأستاذ عبد الجواد، فهو يمنحني دائماً الشعور أنّه يقيس كلماته و جمله بالمسطرة، و هذا دليلٌ على أنّ سرّ الإبداع لا يكمن في طول النصّ أو في تراكم النصوص، و إنّما في نوعيّتها. فـالعقّاد، و ما أدراك ما العقّاد، كان يرى أنّ بيت الشريف الرّضي أفضل من رواية كاملة (وتَلَفَّتَت عيني، فَمُذ خَفِيَت عنها الطلول تَلَفَّتَ القلبُ)، المصدر كتاب الدكتور محمود السّمرة، محمّد مندور1907 1965، شيخ النقّاد في الأدب الحديث.
قصارى القول، يا من تدّعون عشق الحرف، و يا مَن تريدون تعلُّم الكتابة، أضع بين أيديكم نصّ شواطئ الستّينات، خاصّة، وباقي أجزاء السيرة الذّاتيّة للأستاذ عبد الجواد سيّد، بشكلٍٍ عامّ، و أقول لكم ما قاله ألفارو موتيس عندما قدّم أوّلَ نسخة من رواية بيدرو بارامو، إلى ماركيز “خُذْ لكي تتعَلَّم”.