رواية (جازتاب) للروائي غانم عمران المعمـوري/ حميد الحريزي
14 فبراير 2022، 17:17 مساءً
(رواية تحكي تعسف وظلم أهل السلطة والثروة والمال ، على النساء والرجال)
العنوان :
الروائي غانم عمران يتنقل بنا في روايته (جاز تاب)، والتي تبدو لي عنوانها أختزال لمفهوم شعبي بمعنى التنصل من فعل وعدم اعادة فعله ثانية، وقد ربط أيضا بالفعل الماضي تاب من التوبة والندم على فعل ما والتعهد بعدم العودة اليه ثانية.
حكاية اسرة :
نعم يتنقل بنا الروائي في مقاطع مختلفة تعبر عن حياة وتطورات وتبدلات الرواة حيث تتميز الرواية بتعدد الرواة أو تعدد الاصوات.
الاب عبد الله، وولده علي – قتيبة، وولده حسين، وابنتيه ليلى والشابة نادية المصرية، وأم جرجيس ارملة الشهيد العراقي، وسماح المصري المدلل ابن العائلة المصرية الثرية وشقيقه رؤوف… وهو كذلك يتنقل بنا في المكان من العراق الحلة الى مصر القاهرة.
عبد الله الفلاح العراقي المتعب المثقل بهموم الحياة اليومية والمعيل لاربعة اولاد، المتمسك بالفضيلة وحب الخير وكراهية الظلم والظالمين بما فيه النظام البعثي الحاكم، وهو المسكون بحب الناس وحب الوطن والمقتدي بمقولة الثائر جيفارا (لكل الناس وطن يعيشون فيه، انما نحن فلنا وطن يعيش فينا).
وهو حامل هم ابنائه وبناته، فحسين يتطوع في الجيش، ولكنه يهرب بعد حين كرها بالحرب ومآسيها وعدم عدالتها، يتعرض للسجن بعد مداهمة دارهم من قبل الفرقة الحزبية…
أما علي فهو قد حصل على فرصته في اكمال تعليمه والحصول على شهادة الماجستير في القاهرة …
في حد الليالي الباردة يرى شبحا يقترب من شقته ليلا، واذا بها فتاة جمبيلة منفوشة الشعر مدماة، تبدو هاربة من عدو يجهله علي، بعد تردد وبدافع الانسانية يحملها على ذراعيها وهي تنضح برائحة الخمرة، يدخلها شقته ويضعها على سرير نومه، بدت له ساحرة الجمال غضة شهية، محمرة الخدين، ولكن كل هذا لم يغر علي بالسوء واستغلال حالة الفتاة كيف لا وهو ابن عبد الله وتوصياته بالنجابة والشرف والانسانية …
انتابته مشاعر الخوف والترقب خشية أن تكون الفتاة قاتلة او مجرمة او سارقة مما قد تسبب له مشاكل هو في غنى عنها في غربته ..
بعد ان افاقت الفتاة طلب منها مغادرة الشقة على الرغم من أنها اعدت له فطورا شهيا مستذكرا جلساته العائلية وسط عائلته في الحلة، ولم يسمح لها بسرد قصتها والذي اتى بها الى هنا … ولكنه يندم على فعلته فيتبعها ويعيدها الى الشقة لتحكي له حكايتها :
فهي بنت رجل مقعد فقير، امها تعمل خادمة في بيت احد الاثرياء في القاهرة بسبب عجز زوجها عن العمل، وفي احد الايام تمرض والدتها فتكلفها بالذهاب لخدمة العائلة بدلا منها، فتتعرف على الشاب االثري الوسيم المدلل (سامح) الطالب الجامعي. يقع سامح في حبها ولكنه يواجه بالرفض الشديد من عائلته وعلى وجه الخصوص شقيقه (رؤوف) ضابط الامن والمتنفذ في الدولة فظ الطباع والمستهتر، يتمسك سامح بحبيبته ويتمكن من اقناع والدة (نادية) بالزواج منه، وبالفعل يتزوجها رغم انف اخيه ويعيش في شقة منفردة مع حبيبته متجاوزا الفارق الطبقي بينهما فالحب قادر عل اذابة الحواجز وكسر كل السدود، وقد توفي والداه، يواجه سامح صعوبة العيش بفعل متابعة اخيه له واجبار كل من يعمل معه على طرده من العمل، يتوفى (سامح) على حين غرة وقد كانت نادية حامل فتبقى نادية بلا معيل، فتذهب الى دار اهلها المتعبين حيث طرد رؤوف امها ايضا من الخدمة في دارهم، تلد نادية ذكرا اسمته (نادر) بناءً على رغبته والده في حياته …
تحت ضغط العوز والضائقة المالية تضطر (نادية) ان تصطحب وليدها معها لتذهب الى دار اهل سامح عسى ان يرقوا لحال ابن سامح ويعطفون عليه وعليها ويسمحون لها وله بالعيش في القصر وتحت رعايتهم.
ولكن الذي حصل أن (رؤوف) اختطف الطفل من بين ذراعيها وامر السائق المتوحش ابو الهول الى اقتيادها الى غرفة المخزن واغتنصابها امام عينيه؟؟!!
يحتجز الطفل من قبل رؤوف واشترط على نادية أما أنْ تقبل بممارسة الدعارة والرقص في الملاهي الليلة وأما أن يحرمها من رؤية ولدها، وبعد حالة من التردد والخوف تقبل نادية بشرط (رؤوف) فيقتادها معه ليسلمها الى احد اصحاب الملاهي والدعارة، فتتعرض لحالات من الأذلال والأغتصاب من قبل أناس أجلاف لايعرفون للرحمة والأنسانية معنى، مما دفعها للهرب ليلا للخلاص من هذا العذاب والاهانة والضرب حد الأدماء … فتقول لعلي هذه هي حكايتي ايها العراقي الشهم الغيور.
يوقرها علي ويحترمها ويوفر لها كل مستلزمات الأمان ويقدم لها الكسوة والغذاء والأستقرار في شقته على الرغم من مخاوفه مما يخبئه المستقبل له ولكن الرجال أصحاب المباديء والشهامة والغيرة لا ينهزمون أمام المصائب والنوائب ولا يخذلون مظلوم أو خائف …
في هذه الفترة يخبر ابو الهول السلطات بمقتل (رؤوف) مطعونا بسكين في الجهة اليمنى من رقبته ودمائه تسيح في غرفته الخاصة وهو جالس على كرسيه …!
فتوضع (نادية) تحت الشبهات والأتهام لأنها أبرز المستفيدين من مقتله، يتبرع علي بالدفاع عنها لعلمه ببرائتها، فيتصل بأبناء مدينته من المحامين المشهورين ومن لهم باع طويل في المحاماة وفي التصدي لمثل هذه الجرائم الخطيرة والدفاع عن الحق والحقيقة، فيشير علية المحامي الحلي الشهير (عبد الخال العكام) بان يوكل القضية الى المحامي المصري (احمد نبيل الهلالي)، وبالفعل تبنى المحامي القضية وطلب من علي الابقاء على (نادية) في عهدته حتى تتضح خيوط القضية والى ان يصل على الحصول على دليل برائتها من التهمة الخطيرة …
تعقدت الامور بعد ان انكر جميع المتهمين الجريمة وبعد ان عثروا على بطاقة نادر ممزقة في غرفة القتيل مما يؤشر بقوة الى توجيه التهمة الى نادية …
يقوم المحامي بدراسة القضية واقوال الشهود والمتهمين ومعرفة أن المقتول كان اعسر اليد وان الضربة في الجانب الايمن من رقبته، وبعض الدلائل الاخرى ومنها العثور على نادر مخبأ لدى عائلة بطلب من رؤوف، تسلم نادية نفسها للعدالة، وبعد استجواب الجميع وبحث دوافعهم للقتل والاطلاع على جرائم رؤوف فهو قاتل لوالده وهو القاتل للخادمة في المنزل لانه علم انها تعلم بمقتله لوالده، وانه هو من قام باغتصاب زوجة ابو الهول سائقه الخاص، وأنه هو من وقع زميله الملازم رأفت على توقيع مستندات صرف اموالا كبيرة من الدولة مما سبب له السجن المؤبد والاشغال الشاقة، وعدم وجود بصمات لاي من المتهمين على السكين سوى بصمات المقتول رؤوف، وعثورهم على ورقة مخبأة تحت سريره يعترف بها رؤوف بجرائمه وانه قتل نفسه ندما على اجرامه وافعاله الشريرة.
عندها يطلق سراح (نادية) ويسلم لها ولدها نادر الذي اصبحت هي و ولدها الورثة الوحيدين للقصر ولكل ثروات العائلة وثروات القتيل رؤوف وممتلكاته، ليعيشوا بهناء وسلام بعد اذلال وضيق وعسر. كما اطلق سراح جميع المتهمين ما عدا ابو الهول عوقب لقيامه باغتصاب (نادية).
حينما علمت نادية بان رؤوف باع قلادة والدته ليدفع مصاريف المحاماة قادته الى الصائغ المشتري واسترجعت القلادة، مكبرة فيه غيرته وحميته وانسانيته كمثال على غيرة وشهامات العراقيين ودفاعهم عن الحق …
ارادت نادية ان تحقق لعلي الامان والرفاه فبحثت عنه لتضمه لدارها ولكن علي قد اختار الذهاب والعودة الى مدينته وعائلته، فحال وصولها الى المطار كان علي معلقا في الجو راكبا طائرة العودة الى الوطن فتمنت له سلامة الوصول.
وبعد كل ماتقدم نسجل الملاحظات التالية حول الرواية التي اتى السرد مرة بضمير المتكلم ومرة بضمير الغائب والراوي العليم وقد غاب هنا الروائي كلي العلم مما افقد السرد المونولوج والحوار الداخلي للشخصيات الروائية، وهذا مما يسطح الرواية ويفقدها ميزة العمق السردي والغوص في اعماق الشخصية.
* جاء في الرواية نوعا من السرد الزائد والفائض عن حاجة الحبكة والثيمة ولو حذف لاتتاثر به الرواية من حيث المبنى والمعنى ومنها مثلا:- ذكر نزهة زوجة المصري عبد المجيد العامل في العراق للترفيه عن نفسها في الاهرامات، ربما اراد منها الروائي الحديث عن الاهرامات والحضارة المصرية عبر ابرز معالمها ولكن على الرغم من ذلك تبدو سردا زائدا اقحم في السرد.
* قضية زواج الارملة ام جرجيس زوجة الشاب العراقي من المصري عبد المعطي القاتل لشقيقته وما تهمهم عشيقها ومجيئه كغيره من المجرمين المصريين الى العراق للتخلص من العقوبة فقد كانت ابواب العراق مفتوحة من قبل صدام لمن هب ودب من المصريين. فهذه القضية تبدو مقحمة ايضا في السرد ولم تتوفر لها الارضية السردية لتكون محل حديث ليشرح لنا الروائي حال العراق وحرائره زمن الحرب وحكم الطاغية صدام حيث سكن شباب العراق سواتر الموت والدمار في حين يمتع المصريون بالمال والنساء حتى المجرمين منهم. وهذه طبعا قضية تخادم فيها النظام الصدامي والمصري، حيث وفر الايدي العاملة لصدام حسين بدلا من العراقيين لتمشية الحياة في البلاد خلال حرب ضروس، كما وفر صدام للسادات مخرجا باحتواء كل العاطلين المصريين من مختلف الشرائح ليخفف من الضغط الشعبي على نظامه الذي طبع مع اسرائيل، كذلك وفر له ملايين الدولارات لدعم الاقتصاد المصري كنتيجة لعمالة المصرية في العراق، وقد توافق صدام والسادات في خدمة الصهيونية والامبريالية العالمية وتنفيذ مخططاتها في المنطقة على الرغم من شعارات صدام الزائفة بمعادات اسرائيل والصهيونية ومحاكمة صدام في محاكمة هزلية زائفة للتغطية على عمالتها للصهيونية العالمية، التي وفر لها التبريرات لامتلاك السلاح وضرب العرب والفلسطينين عبر (طرقاته) الصاروخية البائسة التي وقعت نقمة على رؤوس الفلسطينيين والعرب.
*المؤاخذة الاخرى هو وجود رؤوف المضروب بسكين ميتا وهو جالسا على كرسيه ومن المعلوم ان الم الطعنة بالسكين يسبب الما مبرحا مما يجعل المقتول يرفس ويتلوى الما ويسقط حتما من الكرسي ليتمرغ في ارض الغرفة.
كما ان اليد توص بالعسراء وليس باليسار فليسار واليمين والشمال والجنوب اتجاهات وليس صفات.
*كذلك هناك فائض من السرد الا وهو الحديث عن تاريخ مصر والسودان والاردن، جاء وكأنه ملحق بالرواية لغاية في نفس الكاتب فقط ولاحاجة لبنية الرواية فيها.
الروائي والتاريخ :
اهتم الروائي كثيرا لتزويد القاريء بجرعات من المعلومات حول بعض الاسماء والمدن وتاريخها مثل :
* أولسن جيليوس عالم الفلك والرياضيات والفيلسوف الاغريقي الذي قام بتصميم الة تطير بواسطة محرك بخاري وكان ذلك عام 400 قبل الميلاد). ص135 !!
ونحن نعلم ان المحرك البخاري جاء في بداية النهضة الصناعية في اوربا في حدود القرن السادس عشر الميلادي. فهذه معلومة مدهشة حقا.
* كنيسة مريم العذراء اقدم كنيسة في بغداد موجودة الان شيدت عام 1640م.
* أنور شاؤول شاعر وأديب يهودي القي القبض عليه زمن البعث، وارسل قصيدة رائعة الى صالح مهدي عماش وقد وكان محبا للشعر فسمح له بالسفر في السبعينيات.ص103
((ان كنت من موسى اقتبست عقيدتي فأنا المقيم في ظل دين محمد…))ص106.
* وضحه أم الهادي، وهي من النساء لحليات قامت بأرضاع أحد أبناء الطائفة اليهودية وهو (انور شاؤول).
* الحلة اتخذتها دولة الخروف الاسود (قراقرنيلو) بعد بغداد عام 812هجري.
كما ان الروائي حرص على تعريف القالريء بالكثير من معالم مدينة الحلة واسواقها وحواريها كالهيتاويين والمهدية وشارع اليهودي والعديد من المكتبات والمقاهي .
* كما مر على بعض الاحداث المفصلية والمهمة في تاريخ البلاد مثل انتفاضة اذار، وحرب القادسية، وحرب الخليج، واحتراق طائرة عبد السلام عارف في البصرة …الخ، وحالة الخوف والرعب الذي عاشها المواطن العراقي في ظل نظام البعث الشمولي نظام الحزب الواحد والقائد الاوحد.
تميز السرد الروائي بشعرية عالية البست النص جمالية منعشة للعقل والروح (بدت كارملة هجرها العشق وضاجعتها الوحدة كل ليلة، حتى باتت حبلى الفراق والمرارة، وقلبها كوتاد تبكيها الالحان الحزينة، والحياة التي البستها خمارا أسود لم تكن سببا في خياطته…)ص5 فكان استهلالا جميلا للرواية ومجاز شعري سيؤشر اغلب احداث الرواية.
وهناك الكثير من هذا النموذج الشعري الجميل تستبطنه الرواية وتضمه بين صفحاتها.
كذلك فأن الروائي مغرم جدا بنور الشمس وانعكاساتها فجر ومساءا ليجعلها تلامس مخيلة القاريء وتنقله الى عوالم سحرية رائعة (رمت الشمس أولى خيوطها الذهبية على رؤوس المباني العالية وقمم الجبال واوراق الاشجار كشبكة صياد ماهر يزج فيها صغار السمك وكبيرها)ص85 وهناك العديد من هذه الوحات الزاخرة بالجمال والمتأملة للطبيعة وسحرها، يبدو أنها مزوعة في وعي الروائي الذي عاش وسط جمال الطبيعة القروية وفتنتة بساتينها وأنهارها ونهيراتها …