سؤال الشعر الحرن / ممو الخراش
نحن أهلَ هذه البلاد مبتَلوْن، ضمن ابتلاءات كثيرة، بعسر التحول، مبتلَوْن بفكر نكوصي لا نملك له دفعا.إن بناء الدولة الحديثة يستلزم تغييرا في النظرة إلى الأشياء عامة، ولا يكون البناء بالانتقال الظاهري من المكان وفي الزمان.الشعر ألفته العرب في فجر تاريخها، واستخدم لاحقا لحفظ لغة القرآن وترسيخ فهمه، ثم تحولنا من دراسة الشعر لغيره إلى دراسة الشعر لذاته، بعد استخراج القواعد، وحصر القرون المزكاة المطلوبة للاحتحاج، فلم تعد هنالك حاجة للربط بين الشعر وفهم القرآن! بل كيف يربط بينهما وزمان الاحتجاج ومكانه محدودان ومحددان؟
الشعر العمودي خيار أدبي والشعر الحر خيار أدبي أيضا، لا ينبغي فرض أحدهما على الناس، وفي الوقت ذاته يعسر تَقَبل ثلاثة مواقف: أستاذ الأدب العربي الذي يحذر التلاميذ من الشعر الحر، وأستاذ الجغرافيا الذي يقسم أن الأرض مسطحة ثابتة، وأستاذ الفلسفة الذي يعدها كفرا!هذا المعضل لا يمكن حله إلا بفصل الأستاذ بين رأيه، وبين مقتضى البرنامج الذي يملي عليه إيصال المعلومة كما هي بغض النظر عن رأيه فيها، أو يستدعي زميلا له من المعجبين بهذا الفن يدرس طلابه هذا المحور.في علاقتي بالشعر الحر علموني في صباي أنه ليس شعرا، وكرّهني فيه أستاذ الأدب العربي في الباكلوريا، وهجرته كغيره في الجامعة، وبعد تخرجي أصبحت أمام أمر واقع، لا أستطيع انتظار المسابقات في العام القادم ولدي محور من البرنامج أجهله كليا، وأجهل غيره جزئيا.في العطلة الصيفية اشتريت بمنحة الجامعة الكثير من كتب الأدب الحديث (متأخرات + أشهر العطلة) كان المكتبيون يبيعونها لي بثمن بخس، (اشتريت مثلا كتاب “حركية الإبداع” ب 700 أوقية، وكانوا فيه من الزاهدين)، وسحبت في الأوراق مئات القصائد، وحفظت من الشعر الحر قرابة مائة قصيدة (بعضهم يقول إنه ليس شعرا؛ لأن لا أحد يحفظ منه قصيدة، وهو حكم “نقدي” من أغرب الأحكام، كيف يحكم على النص الأدبي بما هو خارج عنه؟ وكيف لا تنتبهون إلى أن الشاعر القديم يقول، والحديث يكتب؟)
لم يدرسني أحد الشعر الحر، وما أعرفه عنه، وهو ضئيل جدا، حصيلة قراءة مركزة، ومتابعة مقابلات تلفزيونية، ومحاضرات، ومطالعة دواوين ومقدمات..اكتشفت أن الشعر الحر ليس ما كنت أتصوره، إنه شعر جميل لكنه يحتاج قارئا منصفا، يعطل أدواتِ قراءته القديمةَ ليقرأه بأدوات جديدة، نحن نظلم امرأ القيس إذا بحثنا في لاميته عن وَحدة عضوية، ونظلم السياب إذا بحثنا في شعره عن وصف قديم للإبل!اليوم، لا أقبل تدريس الشعر الحر إلا إذا كنت بصحة جيدة، وحبالي الصوتية في وضعية ممتازة؛ لأن أول إطلالة للتلاميذ على الشعر الحر لا يمكن تحمل خسارتها (أخرت تلاميذ مدرسة حرة هذا العامَ أسبوعين حتى أستطيع تأدية الدرس، شغلتهم بالقواعد).. وأتبع في تدريسه الخطة التالية:- اختيار نماذج من جيده، والاجتهاد في إلقائه.- تكون الحصة الأولى مخصصة للتعريف بالشعر الحر، وهدفاها الأساسيان اثنان: تحطيم النظرة السلبية التي تحول بينهم وبين الفهم، وبناء ذائقة جديدة قادرة على التفاعل معه.. وأستطيع تقييم عملي من خلال إصغاء التلاميذ وتفاعلهم، والأهم عندي حين أرى بعضهم يدون عناوين القصائد خلسة، أكاد أطير لذلك فرحا.- في الحصص الموالية نسير وفق النظام المعروف لسير الدروس.لا أرى الشعر الحر ملغيا لغيره، ولا أراه الشعر الوحيد، لكنه شعر، وإن كنتم لا تستطيعون الخروج من عقلية عصر التدوين، فلديكم مدونة كبيرة ابحثوا فيها عن المعاني التي تريدون، ولا تحجبوا الشمس بغربال.ختاما، تهزني روائع امرئ القيس، وأبي تمام، والمتنبي، والشابي، والسياب، ودرويش، وعمودي نزار… وآخرين كثر قديما وحديثا.