يفغيني فودولازكين يكشف عن جحيم السلطة البلشفية في رواية “الطيار”/ حسين علي خضير
21 فبراير 2022، 00:00 صباحًا
من الجيد ان تقرا نصا ادبياً ويختفي فيه صوت الكاتب وتعلو فيه اصوات ابطاله بقوة، وحركتهم اشبه ما تكون بخلية نحل، وتلعب غريزة البقاء والمشاعر والانفعالات الانسانية دورا كبيرا في حركة كل مشهد في هذه الرواية، اما حبكة الرواية لا تتكرر كما في اعماله السابقة، كل شيء يوحي بغريزة التحرر من الاشياء التي جثمت على صدور الابطال الا الحنين إلى الماضي ضل يسيطر على تفكير البطل حتى نهاية الرواية.
تدور احداث الرواية في بداية سيطرة البلاشفة على الحكم وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي ومن ثم ظهور بوريس يلتسن على هرم السلطة. يلخص احد ابطال الرواية هذه الفترة، قائلاً : ” استُبدلت الدكتاتورية بالفوضى. إنهم يسرقون أكثر من أي وقت مضى. في السلطة، رجل مدمن على الكحول. هذا – إجمالاً. ” ص53، اما فكرة تجميد البطل جاءت عن طريق السلطات السوفيتية بعد وفاة لينين : ” فقد أثارت حقيقة أنًّ رئيس الدولة بعد الوفاة يخضع لنفس التغييرات التي يخضع لها المواطن العادي. وبدا لهم أن المخرج من هذا الوضع يكمن في الحفاظ على الأجسام في حالة التجمّيد حتى الوقت الذي يكون فيه العلم قادراً على إطالة الحياة البيولوجية. ” ص199، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي يتم تذويب البطل، ويواجه البطل مشكلة اعادة تأهيل الذاكرة وانعاشها وفي ذات الوقت مشكلة دمج البطل في الحياة المعاصرة، لذلك البطل في هذه الفترة يعيش في حالة من التشتت الذهني بين زمنين مختلفين كل شيء فيهما مختلف حتى الأصوات مختلفة على حد تعبير البطل بلاتونوف. يمر البطل بمراحل ونوبات صعبة ممكن ان نلخصها كالتالي: اولاً، البطل يحاول جاهدا معرفة كيف نجا من معسكر الاعتقال الذي كان جحيما بالنسية له في زمن الاتحاد السوفيتي، وبعدها يتذكر موجة من الذكريات العاصفة التي يتخللها سنوات الاعتقال، وكيف عانى ما عانى في تلك السنوات، وكان كل يوم يرى الموت في عينه من جراء العذاب الذي يناله، فيقول بلاتونوف : ” وكانت الاصوات في جزيرة سولوفيتسكي عبارة عن ضرب الرأس بأسَّرة السجن عندما كان الحارس يدخل ويمسك السجين من شعره ويستمر بضربه بقائمة السرير إلى أن يشعر بالتعب. ” ص183، بعد ذلك يركز الكاتب في هذه الرواية على حركة الحياة في زمن الاتحاد السوفيتي من اجل فضح عيوب السلطة آنذاك، تطور الاحداث في الرواية يعتمد اعتمادا كليا على ذاكرة البطل ومدى قوتها ولكنها في نهاية المطاف تضمحل و تتلاشى تدريجيا الخلايا المسؤولة عن ذاكرة.
الشيء الذي يُحسب للكاتب انه يتلاعب بالزمن بطريقة عفوية وتلقائية وهذا الامر اضاف لنص يفغيني فودولازكين قوة وجعله متميزا عن النصوص الاخرى، ليس هذا فحسب، بل اتاح الكاتب مساحة كبيرة لأبطاله لتعبير عن افكارهم باستقلالية، فيقول : ” لو لم يكن التاريخ الروسي بهذا القدر من الظلم لكانت ناستيا حفيدتنا المشتركة أنا وأنستاسيّا. ومع ذلك، هل القضية تكمن في التاريخ وحده؟ وهل يجوز أنْ نُلقي هكذا باللوم على التاريخ في كل شيء؟ “. ص220، بعد ذلك يكتشف البطل ان هناك هوة بينه وبين الناس المعاصرين، فيقول: ” لو كنت معاصراً للناس الحاليين، لشعرتُ بالرضا من هذه الشهرة وانتشيتُ بها ولكنتُ لملمتُ أطراف المجد كلها على ما أعتقد. بيد أنني غريب عنهم، فما الذي يُثبت وضعي بينهم؟ إنهم ينظرون إليًّ وكأني سمكة في حوض، في عيونهم الفضول وحده. أشعر بأني لا أعرف من أكون. ” ص 125، وتتسع هذه الهوة حتى نهاية الرواية، فيقول البطل : ” أحاول الاقتراب من الماضي بطرق مختلفة لفهم ما هي حقيقته. هل هو شيء منفصل عني أو مازلت أعيش به إلى اليوم؟ كان لدي ماضٍ قبل سباتي في الجليد، لكن لم يكن لدي انفصال كما هو الآن. كل ما تذكرته عن ماضيّ لم يجعله أقرب إلي. إنه الآن يشبه يداً مقطوعة ومخيطة من جديد. ربما، تتحرك بطريقة ما، لكنها لم تعد يدي.” ص 336.
الشيء الجميل الذي نجده في نص يفغيني فودولازكين – هي الحكمة التي تفوح على لسان ابطاله وآرائهم التي تستند عن بصيرة ثاقبة : ” الحكمة، بشكل عام، هي أولاً وقبل كل شيء خبرة. خبرة إدراكية، بالطبع. إذا لم يكن ثمة إدراك، فإن كل الكدمات التي تتلقاها من أجل الحصول على الخبرة لا فائدة منها. ” ص 224، ولم يقف إلى هذا الحد بل راح يدلي برأيه حول الفن، فيقول: ” ولكن هناك لحظة مذهلة تبدأ فيها الصورة تشعُ عطراً. لان الفن الحقيقي – هو تعبير عما لا يمكن التعبير عنه، عما تكون الحياة من دونه غير مكتملة. إن السعي لإتمام التعبير هو السعي إلى إتمام الحقيقة.” ص 397.
واخيراً، يحاول الكاتب ان يرد على اسئلة حيوية تمس الحياة الروسية في هذه الرواية، فيقول: ” أنه كان يعتقد أنّ السلطة السوفيتية سترحل – وستعيش حياة! حسناً، وماذا – هل عشنا الأن واندملت جروحنا؟ كم سنة مرت على رحيل السلطة السوفيتية – فهل اندملت جروحنا وهل شفينا؟ ” ص 330، وهنا الاشارة واضحة مازال الجرح لم يندمل وعلى السلطة ان تعترف بأخطائها التي مازالت إلى الان تكابر ولم تعترف ودليل على ذلك مشهد اللقاء الذي جرى في نهاية الرواية، بحيث يكتشفون بأن احد الجلادين الذي كان يشرف على تعذيب البطل بلاتونوف مازال حياً وعمره مائة عام، هذا الامر اعطى حافزا كبيرا للبطل بأن يلتقي بجلاده، اراد الكاتب هنا ان يقول مازلنا نتذكر ولم ننسَ ما جرى في هذه الحقبة المظلمة، فيقول الكاتب على لسان بطله: ” أظن أنه اختلق قبضة القدح لشغل يديه. حتى يتمكن من عدم مد يده للسلام أولاً – فقد كان يخشى ألا يُردُّ عليه. وأنا، على سبيل المثال، لن أمد يدي لمصافحته بأي شكل من الأشكال.” 350ص، وهنا على ما يبدو لي ان فلاتونوف يمثل الشعب، اما فورونين الجلاد كان يمثل السلطة السوفيتية. والنقطة الاخيرة والجوهرية التي لابد ان اشير اليها في هذه الرواية البطل يحثنا دائما على الكتابة على امل انقاذنا من النسيان، فيقول في نهاية الرواية : ” أصف الأشياء والأحاسيس. وأصف الناس. أنا أكتب الآن كل يوم على أمل إنقاذها من النسيان ” ص396.