سنية عبد عون والقصة القصيرة.. (براكيتة) مثالاً/ عبد الستار نورعلي
21 فبراير 2022، 12:12 مساءً
(براكيتة) قصة قصيرة للقاصّة العراقية (سنية عبد عون) كتبتها في 18/10/2015 كما هو مُذيّل في نهايتها.
أحداثها تدور أيام التظاهرات والاحتجاجات التي تفجّرت صيف عام 2015 ضد الفساد والمحاصصة والمحسوبية والمنسوبية، ونقص الخدمات الأساسية، ومنها الكهرباء والماء. وقد انطلقت في بغداد لتعمّ المحافظات الوسطى والجنوبية. إضافة الى ما جرى فيها من وقائع وأحداث دراماتيكية، وكيف تعاملت قوات الأمن بقسوة مع المحتجين، وهذه إشارةُ إدانةٍ لهذا التعامل غير المُبرّر، وإدانة لأداء السلطة وعدم إعارة أيّ اهتمام لتقديم الخدمات للناس، علماً بأنّ التظاهرات كانت سلمية مطالبةً بالحقوق الأساسية.
تجري أحداث القصة في مدينة الحلة عاصمة محافظة بابل:
” ولكنْ مهلاً .. فقد حدث اضطراب في صفوف المتظاهرين وسمعنا الأفواه تتصايح من كل جهة من دون معرفة الاسباب ….وعن بعد أبصرنا ظهور سيارات سود كبيرة الحجم وهي تشقّ صفوف المتظاهرين وترشقهم بخراطيم المياه المسيلة للدموع وما هي سوى لحظات حتى فرّت الجموع المحتشدة نحو الأرصفة تلاحقها قعقعة البنادق ووابل الرصاص كأنه المطر.” (القصة)
شخصيات القصة ووقائعها واقعية، تحكي لنا فيها القاصة (الراوية) ومعها ابنها البكر عن حادثة وقعت لهما أثناء سيل الاحتجاجات الصاخبة، وهذا ما يضع القصة في إطار الواقعية الإجتماعية السياسية، فالراوية وابنها كانا قادمين من مدينة المسيب ـ مدينة القاصّة ومكان إقامتها ـ التي تبعد ثلاثين كم عن مدينة الحلة:
“كانت سيارتنا تجتاز الشارع ببطء شديد ونحن نتفحص واجهات المحال التجارية باحثين عن براكيتة: “(وهي قاعدة لمصباح كهربائي وفيها تصاميم مختلفة) وهذا حسب طلب ولدي البكر الذي يروم شراء عدد منها لواجهة دارنا الذي بنيناه مؤخراً”
وهما في بحثهما عن براكيتة يجدان نفسيهما وسط معمعة التظاهرات. المفاجأة الأولى لهما كانت الحواجز في مدخل المدينة إغلاقاً لها؛ لمنع تدفّق المتظاهرين، وبعد اجتيازها وقعا وسط موجة الاضطرابات. مع اشتدادها والموقف الصعب الذي وقعا فيه تجدُ الراوية (القاصّة) نفسها تتعاطف مع الحشود المتظاهرة، لترى ـ تخيُّلاً ـ الإمامَ عليّ بن أبي طالب (ع) وكأنه يتوسطهم:
” أعجبتني حماستهم وأهازيجهم التي كانوا يرددونها فقد تغلغلت في أعماق روحي ….كان شعوري يلهمني أنّ مشاعرهم النبيلة واعدة بإيصال صوتهم كأنهم يستعطفون الشمس أنْ تبثّ ومض سناها في أرجاء الوطن، ويتساءلون إنْ كان قانون مندل في الوراثة والجينات قد اختص بتوريث عهود المحنة وربط الأحزمة في هذه البقعة من دون سواها ….
كان الإمام علي (عليه السلام ) يتوسط هذه الحشود بأريج عدالته وجلبابه الذي يرقعه بيديه ….”
تهدف القاصّة بذكرها الإمام عليّ (ع) إلى إضفاء صفة العدالة على قضية المنتفضين بوجه الفساد والمحسوبية، ونقص الخدمات؛ فالإمام هو رمز العدل والإنصاف والحقّ، والوقوف مع المستضعفين والفقراء، بوجه الظلم والظالمين وفسادهم. لعلها، وهي تذكر كيف أنّ الإمام (ع) كان يرقّع بيديه جلبابه، تريد استذكارَ زهده وفقره وحرصه وتواضعه، ولأنّه أميرُ المؤمنين الراعي المؤتمن على رعيته من المسلمين وعلى أموالهم يكون مثالاً في العيش كباقي رعاياه، لا يختلف عنهم. ولأنه الحارسُ على أموالهم ومصالحهم فهو يحفظها ويحرص عليها، مثلما هي إدانة صريحة لأولي أمر العراق اليوم، المحسوبين عليه (ع) وعلى شيعته، وهم الذي يتظاهرون بموالاته، ويتشدقون بالحفاظ على مبادئه وتطبيقها، والتمثّل بسيرته ليلَ نهارَ، ويحكمون باسمه. لكنّهم أبعدُ ما يكونون عن مبادئه السامية وعدالته ودفاعه عن حقوق المستضعفين في وجه أصحاب المال والفساد والسطوة. فهم بالضد من كلّ ماكان يتحلى به. هم اليوم يسرقون وينهبون أموال رعيتهم، غارقون في الفساد والظلم الإجتماعي والسياسي، مع أنّهم يُفترضُ أنْ يكونوا رعاةً مسؤولين عن رعيتهم، كما قال الرسول (ص).
إنّها بهذا الاستحضار والتخيّل تعبّرُ بالرمز ـ من خلال استذكار شخصيات التاريخ العظيمة ـ الى ما تودُّ إيصاله الى المتلقي هدفاً لما وراء مضمون القصة، دون مباشرة أو خطابية صحفية، بل بطريقة فنية هي من لبّ قوانين الأدب واشتراطاته المطلوبة في تقديم نصٍّ مشتمل على كلّ العناصر الجمالية التي تخلق منه قطعةً فنيةً مُشبعَة بالتفوق والعلو والنجاح، وإيصال المضمون بحُلّةٍ قشيبة.
في الخضمّ المائج وسط التظاهرات أحسّتْ الراويةُ بزهو يجتاحها، وإعجاب بهذا السيل العرم المتدفّق من الشباب الصائح المحتجّ المطالب بحقّه في حياة عادلة كريمة، وخدماتٍ أنسانية هي من الحقوق الأساسية للمواطن. شبابٌ يصدح بالأهازيج الشعبية:
” فقد كانوا على نحو متسلسل من المجموعات، وكلّ مجموعة تكمل اهزوجة ما قبلها دفعتني مشاعر غريبة ان أتصدّر إحدى هذه المجموعات ثم انتابني احساس بالزهو فقد انضمّت معي بعض النسوة من شتى الأعمار”.
مع الحماسة التي رأتها في وجوه المتظاهرين وحماسهم وأهازيجهم نسيتْ وابنها ما جاءا يبحثان عنه، وهما داخل محل بيع براكيتات:
” وفي غمرة تصاعد اصوات المتظاهرين نسينا ما جئنا من اجله مرة أخرى وأخذنا نراقب الاحداث من خلال الواجهة الزجاجية، وغرقنا بنشوة الفرح بالحرية التي يمتلكها المتظاهر بعد ان تخلصنا من عهود الدكتاتوريات الظالمة..”
هي هنا توثّق أيضاً فرحهما بما يمتلكه الشباب من وعي بمفهوم التظاهر (سلمياً) ـ وهي حالة حضارية ـ وامتلاك حرية ذاتية في الانطلاق للمطالبة بالحقوق، والاحتجاج على فقدانها في نظام يدّعي تحقيقها زوراً.
في هذا الموج العارم تجتاح سيارات الأمن صفوف المتظاهرين، تفرّ مجموعة منهم الى داخل المحل لتجد الراوية نفسها وابنها محشورين وسطها. ثم إذا بامرأة أخرى متواجدة تتقدّم منها لتسألها:
” اقتربت المرأة مني بوصفي المرأة الوحيدة داخل المحل، ثم همست بأذني….. (الاخت …من أي فئة) نظرت اليها نظرة منطوية على التغابي ثم ضحكتُ بصوت مسموع وقلت لها: انا من فئة البراكيتة. جحظت عيناها وتسمّرتْ في مكانها، ثم راحت تبتعد عني وجلة..”
تنهي القاصّة قصتها بمفاجأة ساخرة، تذكّرنا بعنصر المفاجأة التي امتاز بها القاصّ الفرنسي “جي. دي. موباسان” (1850ـ 1893). مفاجأة لم نكن نتوقعها، إنما كنا نتابع بشغف نهاية الحكاية، كيف ستكون. لكنها أنهتها وتركت للقارئ فسحة التكهّن؛ ليكونَ مشاركاً في الحكاية.
الخصائص الفنية في القصة:
تمتاز القصة عند “سنية عبد عون” عموماً ـ وهذه القصة منها ـ بشعرية الأسلوب، وعنصر الإثارة والتشويق؛ لشدّ القارئ حتى نهايتها. فالأسلوب في هذه القصة، وغيرها من قصصها، رفيع الشكل، متقن اللغة والتصوير، فيه دلالة التمكّن، وغنى القاموس اللفظي في أداء المعنى، وإيصاله الى القارئ، والمختار بدقة وتمعّن وأناة ملحوظة، واشتغالِ صبور بمهارة منظورة جلية.
شعرية الأسلوب، واللغة المستخدمة في قصة (براكيتة) ـ وفي قصصها كما ذكرنا ـ عنصر واضح المعالم. فهي تشتغل بمهارة وحرفية فنية واضحة على أن تكون لغة قصصها مزجاً بين السرد والشعر، لتضفي عليها جمالاً تقرّبها من نفس المتلقي، دون إقحامٍ مصطنع، أو ميكانيكية خادشة، فهي تأتي طبعاً ممزوجاً بالموهبة الفنية التي تخلق النصوص، وبالثقافة اللغوية الأدبية. لنقرأْ بداية قصة براكيتة:
“تكاد الشمس أن تتوسط كبد السماء وهي تغازل نهر الفرات كما تغازل أحلامي التي سئمتْ الانتظار …انتظار حلم يراود مخيلتي منذ سنين .. أن تغفو جفوني مطمئنة تحت أفياء شجرتي التين والزيتون … متشابكات بحنان وتودد بينما تتباهى أعذاق النخيل وهي تميل باكتناز أعذاقها”
في هذا النصّ المُستقطع من القصة المذكورة نلتقي بها وهي تحلمُ بحياةٍ آمنة مطمئنةٍ، حتى تتفيّأ بظلال الأشجار بفرح واطمئنان، وهو حلم كلّ إنسان في الوطن المُعرّض تاريخياً لكلّ نوائب الغزو، وتسلط الحكام المستبدين، والمتخلفين، وسراق المال العام، والقتلة، بحيث ظلّ ينزف حتى اليوم. كما نلحظ التناصَّ واضحاً في النصّ أعلاه مع القرآن الكريم، لتضفي قدسية على أحلامها البسيطة النابعة من القلب الذي أتعبه مايعاني مع شعبه جمعياً، التناصّ في اختيارها لشجرتي التين والزيتون كما ورد في القرآن الكريم:
ومن تناصّها أيضاً ذكرها للنخيل ـ وهي شجرة الرمز العراقي الخالدة ذات الأهمية الفائقة عند العراقيين ـ وذلك بتناصّ غير مباشر مع القرآن الكريم حيث للنخلة منزلة عالية وفضائل عديدة، وقد ورد ذكرها في محكم كتابه العزيز في مواقع عديدة، منها:
فهي بإدراكها لأهمية النخلة عراقياً، وورودها في الكتاب الكريم مراتٍ عديدة ذكرت وهي تحلم بظلال التين والزيتون أنّ النخلة تتباهي حينها بالأمن والإطمئنان اللذين يسودان وادي الرافدين (حلماً)!
هذا المقطع (البداية) الذي تذكر فيه القاصة حلمها هو عتبة القصّة ومقدمتها، التي تهيّئ المتلقي لمتنها. وحين يتوالى بعده السرد، وذكر الحكاية، وما شاهدته من حشود الشباب ـ الحالم مثلها بحياة آمنة مطمئنة ـ وما تعرّضوا له، حينها ندرك أنّه هو (الحلم)، الحلم الإنسانيّ الخالد، وكيفية الوصول الى تحقيقه، وسط ما يجري في الوطن مما يجري بعد غزوه عام 2003. إنّه ذات الحلم منذ زمن الطغيان كاتم الأحلام. لكنّ هذا الحلم لم يتحققْ، فبقي حلماً يراودها حتى يوم الحكاية التي سطّرتها في هذه القصة.
وبالعودة الى شعرية أسلوبها السردي نقرأ في قصتها “الأفعى وامرأة الغيمة”:
” امرأة بارعة الجمال …. سمراء مهيبة الطلعة تسدل شعرها الشديد السواد بمحاذاة طول قامتها…. وان قدميها لا تلامسان الغيمة بل كانتا معقوفتين الى الوراء كأنها تطير في الهواء … تحيطها هالة بيضاء ناصعة وأسراب من الحمام تدور حولها على نسق واحد تعكس بريقها باتجاه المدينة والجسر ….كانت تلوح للجسر بجناحيها وتهمس له بوصيتها ….وما أنْ سمع الجسر ما قالته المرأة حتى اخضرّت طرقاتُ المدينة وبيوتها وانهمر المطر …..ليغسلَ ما تكدّس فيها من غبار السنين” .
هذا النصّ المُستلّ من القصة فيها شعرية واضحة في اللغة وأسلوب السرد والتعبير. وهو ما يضعه في خانة الأداء الفنيّ للشعر، لغةً وخيالاً ووصفاً وتصويراً، ورقةً في الألفاظ، بنقل الصورة المُتخيّلة لامرأة الغيمة.
ولْـنقرأ لها أيضاً في ختام قصة “صمت القديسين”:
“ها انا اتكاثر كما تتكاثر الشعوب الحية.
. وأتسلل من بين اسلاك شبابيك السجن الشائكة.
. وأطير كما تطير الفراشات..
وأنشد أناشيد الامل.
.وأكرّس مفاهيمي الجديدة.
. وأعود لخطيبتي… ونعيد اقتراحاتنا في ترميم بيتنا..”
إنَّ هذا نصٌّ شعريّ، لا يخفى على المتلقي الواعي والعارف بما يقرأ.
أما (الحبكة) في قصة “براكيتة” فمتقنة الصنع، متماسكة في تراتيبية تسلسلية في أحداثها: تبدأ بالتهيئة لمدخلها بالحلم، ثمّ (العرض) : البحث عن براكيت (وهي قاعدة لمصباح كهربائي وفيها تصاميم مختلفة) [القصة]
ثم تنتقل الى (الوسط): حين تتشابك الأحداث وتتأزم وتشتدّ. وفيه عنصر التشويق يزداد صعوداً، لشدّ القارئ للأحداث، ومتابعتها.
وأخيراً (النهاية): حيث تُختتمُ الأحداث بالوصول الى نتيجتها التي تبنى عليها القصة. وقد تكون مفتوحة، أو مفاجأة غير متوقعة، وهنا في قصتنا المعنية بهذه القراءة كانت الخاتمة مفاجأة ساخرةً. حيث البطلة هكذا لقيتْ نفسها وسط خضمّ من المتظاهرين، فانضمت اليهم حماسةً غير مُهيّأة مسبقاً، لا عن سابق إصرار وترصّد.
يتناوب عنصر الخيال، والأحلام ـ كما أسلفنا ـ قصص قاصتنا المبدعة، وخير أمثلتها “براكيتة” و”صمت القديسين”، و “الأفعى وامرأة الغيمة”.
تبقى سنية عبد عون أحد الأسماء البارزة في فنّ القصة القصيرة. تمتاز قصصها بالغنى، وبالحبكة المتماسكة المتينة، الدالّة على مقدرتها الفنية المتكاملة العالية الأداء. إنّها اسم أدبيّ لمبدعة كبيرة، تبتعد عن الصخب والضجيج والأضواء، وتسويق الذات. إنّها متفرغة لفنها وتطويره؛ احتراماً لقلمها، وشخصيتها، ومكانتها، وموقفها الأدبي الفنيّ، وثقتها بما تمتلك من مقدرة، ومنْ نسيج أدبيّ له عَمَدٌ بأوتادٍ متينة ثابتة. و”براكيتة” خير مثال