رواية “مطر خلف القضبان” الصادرة عن دار نلسن للروائية اللبنانية ميرنا شويري، يمكن إدراجها تحت باب أدب السجون ولكن ليس كما هو شائع عن هذا النوع الأدبي الذي غالباً ما يتناول قضايا الحريات العامة وسجناء الرأي، بل جاءت هذه الرواية مختلفة لتضيء على قضية أخرى وهي وضع النساء السجينات وما يتعرضنّ له من مضايقات وسوء معاملة تصل إلى حد التحرش اللفظي والجسدي والإبتزاز في بعض الأحيان.
إلى جانب إنتماء الرواية إلى أدب السجون كما ذكرنا، بمكن إدراجها أيضا تحت خانة الأدب النسوي لا لأن الروائية إمرأة، بل لأنها كما جاء على لسان السارد العليم “ماري أنجيلا” عن سبب إختيارها لهذا الموضوع بالقول “هناك الكثير من المهمّشات ولكنّي اخترت أن تكون السجينات محور دراستي لأن صوتهنّ يكاد يختنق خلف جدران السجن، وهنّ فئة أرسلن إلى السجن بهدف التأهيل أكثر من العقاب ولكن أؤكد بأنهن يُضطّهدن داخل السجن كما خارجه”. ولأن التهميش لا يقتصر على من داخل السجن بل يطال البعض خارجه عمدت الكاتبة في هذه الرواية وبشكل موازِ إلى المزاوجة بين حكايتين وربطت بينهما بخيط رفيع، الحكاية الأولى هي سيرة السارد ماري أنجيلا التي هُمشت من قبل صديقها الذي تركها بعد ان فقدت حاسة السمع، والحكاية الثانية كما ذكرنا هي حكاية ومعاناة النساء السجينات، وقد إتّسمت الكاتبة بالجرأة والموضوعيّة في آن معاَ حيث قاربت المحظور بنقلها على لسان شخوصها للمشاهدات والممارسات المستهجنة التي تحدث داخل السجون، وهذا ما أضفى على الرواية شفافيتها ومحاكاتها للواقع إضافة إلى الأسلوب الشيّق والرشيق الذي كتبت به وبلغة واضحة بعيدة عن أي تكلُّف.
كما نلاحظ عدم وجود إنفصام في شخصيات الرواية بين ما كُتِب وبين الواقع المُعاش وهذا يدُل على شغف الروائية وإصرارها على تسخير قلمها وفكرها لمقاربة القضايا الحيّة ومقاومة انعكاساتها السلبيّة التي تحتاج للمعالجة والبحث عن حلولٍ لها. وهي لم تتوانَ عن إماطة اللثام وكشف المستور عمّا يدور في أروقة سجن النساء وكيف يتمّ إستغلال السلطة والنفوذ من بعض رجال الأمن (الدرك) الذين يمارسون نوعاً من ابتزاز السجينات ومحاولة إستدراجهنّ للمقايضة بين حاجياتهنّ وبين تقديمهنّ خدمات جسديّة لهم. وبالرغم من أن التطرّق لهذا الأمر قد يُفسّر بأنه يحمل في طياته إساءة لهذه القوى، إلا أن الشفافية والمصداقية في نقل الحدث يُحتّم على الروائيّة نقل تلك المشاهدات كما هي دون أيّة مواربة، وهذا ليس بدافع النيل من سمعة قوى الدرك بل الغاية هي لفت نظر المسؤولين عنهم إلى ضرورة التنبّه لهذه الممارسات المستنكرة بغية منعها أو الحد منها. وهنا لا بد من ذكر ما حدث مع السجينة نجوى عند نقلها من السجن إلى المحكمة وكيف جلس الدركي بقربها وبدأ يقبلها على شفتيها مقابل وعده لها بوجبة غداء دسمة.
أما داخل الزنزانات، فنجد الزعيمة السجينة “إم ماجد” بكل جبروتها وتسلطّها، تتحكّم بمصائر السجينات وفي سبيل إشباع نزواتها ورغباتها المكبوتة لا تتورع عن إغتصاب من تريد منهن وتصادر ما ترغب من أموالهن ومدخراتهن.
ولم تُغفل الكاتبة عن تسليط الضوء على الواقع المزري داخل الزنزانات لناحية الإكتظاظ وغياب أي نوع من الخدمات التي تحافظ على الخصوصيّة أو البعض منها للسجينات. ناهيك عن سوء التغذية ورداءة الطعام المقدم لهنَّ وقد عبّرت إحداهنّ عن تذمرّها مخاطبة حارسة السجن “لا نخاف منك أو من أحد نحن لسنا حيوانات لنأكل هذا الطعام القذر”.
بالعودة إلى عنوان الرواية “مطر خلف القضبان” فالقصد من وراء هذا الإختيار ربما يشير إلى التغير الذي طرأ على الحالة النفسية للسجينة ميشا بعد ان كانت ناقمة على الجميع بما فيهم الله في بعض الأحيان فقد انتابها أخيرا نوعا من اليقظة الروحية جعلتها تعيد حساباتها وتلجأ إلى الله ناذرة نفسها لمساعدة وتنوير زميلاتها السجينات، هذا التغيير يمكن إعتباره بمثابة المطر أو الغيث الذي هطل عليها لتغتسل من كافة أخطائها وتتصالح مع الله، تناجيه بالقول”ركعتُ وأنا أشعر بأن روحي تلامس السماء، سامحني يا رب أنت خلقتني حُرة وأنا حوّلت نفسي إلى أمَة، منذ اليوم فقط سأخدمك أنت،”سامحني با الله أنا نادمة على أخظائي لم يبقَ لي أحد سواك أرجوك أن تساعدني لكي أنسى من أساء إليّ أنا من تخلّى عني الجميع وتخلّيت عن نفسي، وأنت لن تتخلّى عنّي”. فتستحقّ بهذا لقب السجينة الحُرّة كما جاء في إهداء الرواية” إلى صديقتي السجينة الحرّة التي غيّرت حياتي”.
ومن ناحية أخرى فالمطر كان أحد شخوص الرواية الإعتباريين، والذي رافق ماري أنجيلا وشهد على علاقاتها العاطفية غير المكتملة سواء مع كيفين او أنور، وشهدنا في الرواية نوعا من المناجاة واللغة الشعرية في مخاطبة المطر وهنا أنقل هذه الفقرة “أمطر أيها المطر علينا، فلا أحد يستحقّ أن يرقص معك إلا أجسادنا، أنت أيها المطر كحبيبتي أصمّ يسمع آهات الحبّ لكنّ هذا العالم الصاخب لا يسمع إلاَ صوت الحقد الذي أغرق العشق”.
وهكذا بقيت ماري أنجيلا حبيسة المطر ورفيقته خلف قضبان انتهاء علاقتها العاطفية بصديقها كيفين بسبب فقدانها السمع وهي التي تقول كما جاء في ابداية الفصل الأول من الرواية ” أسمعك أكثر من دون أذنيّ، وأراك أكثر من دون أن اراك، أحببتك لإحيا فقتلتني لتحيا، والغريب أنني أحبك أكثر حتى من دون حواسي”.
ولأجل التبحّر أكثر في الرواية سنتعرّض لبعض النماذج من النسوة السجينات وسنكتفي بنموذجين إثنين لما لهما من دلالات وإسقاطات معينة على واقعنا اليوم.
1- النموذج الأول هو حكاية السجينة ميشا إحدى الشخصيات الرئيسة في الرواية،والتي كانت تدير كونتوار مالي مملوك من عمها لقبول الودائع من الجمهور مقابل عوائد مالية محفزة لأجل توظيفها كتسليفات للمقترضين مقابل رهونات ووكالات عقارية كضمانات، ولكن التوسع في مثل هذه الأعمال طمعا في جني المزيد من الأرباح أوقعها في حالة عُسر مالي وعجز عن سداد إلتزاماتها خاصة بعد هرب عمها إلى أستراليا ليتركها كبش فداء في مواجهة الدائنين وتنتهي رهن الإعتقال في سجن النساء،
حكاية ميشا هذه هي عينة من حالات كثيرة مشابهة شهدناها في حاضرنا وماضينا القريب، حيث ان العديد من حالات الإفلاس لبعض مؤسسات توظيف الأموال وغالبا ما يكون الإفلاس إحتياليّاً حيث يتمكّن أصحاب تلك المؤسسات من الهرب والنجاة من العقاب وإفتدائهم ببعض الموظفين من الصفّ الثاني. وإذا أردنا استخلاص العبرة من حكاية ميشا فهي التنبيه من وقوع البعض في فخّ الدعاية والإعلان الذي تعتمده مثل هذه المؤسسات للترويج لنشاطها ولتستحوذ على مدّخرات الناس بإيهامهم بتعاظم هذه المدخرات وعوائدها المالية.
اللافت في حكاية ميشا وكما أسلفنا أنه خلال تواجدها في السجن عاشت نوعاً من الصراع الداخلي بدأته بشعورها بالظلم وابتعاد الناس عنها حتى وصل بها الأمر إلى معاتبة الله الذي كما قالت تخلى عنها ” لماذا يا الله ؟لماذا كل هذا يحدث لي ، لم أفعل شيئاً لتظلمني هكذا”.لتعود في النهاية تلجأ إلى الله نادمة على ما إقترفت طالبة الغفران .
2- النموذج الثاني جسّدته الفتاة السورية قمر التي جاءت إلى لبنان بهدف العمل ولكنها تتعرّض للخديعة وتقع فريسة عصابة من الرجال الذين جاؤوا بها مع زميلاتها لاستغلالهنّ في أعمال الدعارةن وينتهي بها الأمر سجينة قبل أن تُقتل على يد أخيها ليغسل العارألذي جلبته لهم. “أتيت مع مجموعة من الشابات إلي لبنان للعمل وبعد قبولنا إثر مقابلات مع رجال سوريّين ولبنانيّين على أنهم رجال أعمال، تمّ احتجازنا ومصادرة جوازات سفرنا وفرضوا علينا العمل في الدعارة تحت تهديدنا بإرسال صورنا العارية إلى أهلنا”
مأساة قمر هذه تضيىء على آفّة إجتماعية بدأت تطلّ براسها نتيجة لوجود مثل هذه العصابات البعيدة كل البعد عن القيم الأخلاقية والتي تستغلّ سوء الظروف الإقتصادية والمعيشية للكثير من النساء ومن مختلف الجنسيات.
ومع الحديث عن النساء المهمشات في السجن قامت الروائية بمحاولة المزج بين هذا الموضوغ وبين نوه آخر من المهمشين بشكل أو بآخر، فكانت المرأة المنتمية لذوات الإحتياجات الخاصة: هذا النموذج تمثل في شخصية السارد العليم ماري أنجيلا، والتي ربطتها علاقة عاطفية بصديقها كيفين ولكن إصابتها بحالة فقدان السمع حولها إلى إمراة صماء ممّا دفع بصديقها كيفين للتخلّي عنها دون الإلتفات إلى ما تمتلكة من مقومات وامكانيات ثقافية ، بل تمثلت نظرته إليها على كونها إمراة أصبحت غير مكتملة المواصفات. وتهدف الروائية من خلال إثارتها لهذا الأمر إلى الإضاءة على ما يعانية ذوي الإحتياجات الخاصة من نظرة البعض السلبية نحوهم، الأمر الذي يُعيق عمليّة الدمج الحقيقي الفعلي والفاعل في المجتمع، فلا يجب إعتبارهم معوقين بل يفترض النظر على كونهم أصحاب كفاءات وقدرات تؤهّلهم لحياة كريمة وطبيعية.
ختاما نقول بأن “مطر خلف القضبان” هي رواية هادفة حملت في طياتها الكثير من القضايا والتساؤلات وجسدت بحق رسالية العمل الأدبي او الروائي وهي بلا أدنى شك ستحجز لها مكانا في المكتبة الأدبية اللبنانية والعربية .