لدى وليد إخلاصي مشروع حداثي عام يبلغ مشارف الرؤية، ولذلك لم يهتم بالحكاية والبنية قدر اهتمامه بالفضاء الفني والموضوع.
بالنسبة لفضائه كان ضيقا يوازي الضائقة الحضارية التي تمر بها كل المنطقة من جهة، وما تتضمنه من حالة تهيؤ لهزيمة على مستوى الإنسانية بشكل عام. فصعود الرقابة على أكتاف ما يسمى بالثورة، ثم تخاذل حركات التحرير وانكماشها وتحولها إلى حارس للسلطة وخادم لها، فاقم من ظواهر الاختناق والتعطيل التي عانت منها شخصياته. حتى أن المكان لديه أصبح هو ما يتساوى مع المساحة التي تشغلها هذه الشخصيات.
وعلى هذا الأساس تستطيع أن تجد في أدبه مربعات ومكعبات تذكرنا مباشرة بجو المرحلة التكعيبية التي تميزت بها الحداثة اللاتينية. والعلاقة بين الطرفين، العقل اللاتيني الرومنسي باندفاعاته وإشراقاته، والتفكير الموبوء والمرعوب عند وليد إخلاصي، علاقة متينة. ويمكن ملاحظة ذلك بقراءة مبسطة أو بتقليب صفحات أول مجموعاته وهي “قصص” الصادرة عن دار مجلة شعر في بيروت عام 1963. ثم “الطين” الصادرة عن دار عويدات في بيروت أيضا عام 1971. وغني عن القول إن نزوح مشروعه واغترابه في بيروت دليل على عناصر قلقة وغير مستقرة في تفكيره. ولا أعتقد أن هذا النزوح ذو طبيعة سياحية، بل تدفعه من الداخل رؤية باتجاه دولة – مدينة أو ميتروبوليس متصلة بأضلاع مثلث هيليني وهي: المياه الدافئة وبدايات أو جذور الفكر السوري – المدرحي وحكمة الغرب التي كان برتراند روسل يدعو لها باعتبار أنها الضامن لتحقيق السلام على مستوى العالم.
وكل حروب وليد إخلاصي محدودة بطبيعتها، وهي مجرد معركة حرة وطاحنة مع المعوقات وأسباب التخلف والتقهقر، ومحاولة جادة للصعود (دون مخاطر السقوط مجددا – كما أعلن في مسرحيته “كيف تصعد دون أن تقع” 1972). ولذلك كان يعاني من مشكلة مزمنة في الحركة والألوان.
بالنسبة للحركة كان يخاف من البطء. وإذا لم يوظف رمز السلحفاة، فقد اختار رمز الحلزون في قصته “موت الحلزون” 1978. وقد أجبر لاحقا شخصية اغترابية هي معين السفرجل لاختصار مشوار حياته بمونولوج طويل في رواية “رحلة السفرجل” 2008. ولكن لم يسمح له بالوصول، جريا على عادة كل أدباء الرؤية، ووضعه أمام مصيره المحتوم، أن يموت وهو يبتسم، وكأنه يعيد للذهن مسيرة ميرسو بطل كامو، وضياعه في متاهات عبثية وأفعال غير مخطط لها. وإذا مات معين السفرجل في عربة قطار (وهي معادل موضوعي للزمن في كل أدب الحداثة – منذ عبد الرحمن منيف وحتى محمود الريماوي، ومنذ بوهميل هارابال وحتى غراهام غرين) فقد دفن كامو بطله في المرتفعات، وكفنه بطبقات كثيفة من الضباب. وفي النموذجين رغبة قاهرة لمعاندة الشرط المادي بتحرير الروح. فقد تابع القطار دورته على القضبان عند وليد إخلاصي، بينما أزمع بطل كامو على الصعود دون أي نية بالهبوط، وبقي في الأعالي وحدة تامة، أو بشكل أجزاء مستقلة داخل كل شامل.
أما بنسبة للألوان. فهي عند وليد إخلاصي رمادية أو سوداء (لنتذكر قصص مجموعته الهامة “الأعشاب السوداء” 1980). ويبدو أنه يعزو للألوان الداكنة كل شيء يربط الكائن البشري بمرحلته الجنينية، وبامتلاك الابن لأمه. مع تغييب تام لأي وجود للأب. وتسيطر عقدة أوديب حتما على تفكير وليد إخلاصي، ولدينا أكثر من دليل غير مباشر في مسرحية “فرح شرقي” 1973، ومباشر في مسرحية “أوديب” 1981. ويمكن تمثيل هذه العلاقة بقصص “دماء في الصبح الأغبر” 1968 ثم قصص “ما حدث لعنترة” 1992. وهما مجموعتان من القصص الوطنية التي تتبارى بها الشخصيات للتضحية في سبيل الأرض الأم ورفض أي وصاية من الأب الدخيل والغريب. ومثل هذا التركيب للمحاور.. ودمج أسطورة أوديب بأسطورة سيزيف (حسب رؤية كامو لها) ساعد مشروعه على التجدد والاختلاف. فهو لم يكن ينافح في سبيل الحيازة والامتلاك حسب مبدأ إشباع اللذة الفرويدي، لكنه عمل على تصعيد المشكلة الفردية لتتحول لمشكلة جماعية، ولتقدم لنا تصورات عن سعادة لا متناهية تتحقق من خلال الالتزام الذي يتطور عنده ليتساوى مع حرية البنية. والبنية هي الجوهر الإنساني المفرد من خلال النموذج. فشخصياته ذات هوية مستقلة، وبنفس الوقت متكررة، أو إنها موتيفات أو فكرة تنتمي لنموذج. وأوضح مثال على ذلك قصصه السريعة (القصيرة جدا) التي أصدرتها منظمة فتح بعنوان “زمن الهجرات القصيرة” 1970. وفيها يتكلم عن نزوح اضطراري من ذات إلى ذات موازية، أو ربما كان موضوعها تشابه الأمكنة ودورات التاريخ. فالماضي مثل الحاضر، وكلاهما طوران من حقبة واحدة تتحكم بها ذاكرة استعمارية أو ذاكرة مفروضة، وليس بأيدينا الحق باختيار موادها.
هل يمكن أن نقول إن أدبيات وليد إخلاصي تدخل في عداد الأدب الكولونيالي المضاد – المعروف باسم ما بعد الكولونيالية؟. الحقيقة إنه أقرب للتفكير الحضاري. وحتى اجتماعياته بعيدة عن أي تقنين للعدالة السياسية ولجور سلطة العالم – وهو تعبير للمفكر السوري أنطون مقدسي. وذاكرته لم تعمل باتجاه محور البناء وتنقية المؤسسة من المكائد والفروض، ولكنها كانت ذاكرة في صيرورة، تعمل على محور الإلغاء والاستبدال. أو بتعبير أوضح إنهاء حالة الانتداب والوصاية الأجنبية. وانشغالها بتخليص الأرض لا يتيح لها فرصة التفكير بمشاريع الهوية. وكانت الذات الفنية تتطور باتجاه باطني وتستري.. برؤية وطنية واضحة لكنها استسلامية، وهي تحترق لتؤسس لنفسها مكانة مرموقة. وهذا أول شرط من شروط الاستسلام. كما أنها حاملة لحضارة مفترضة، ونظرية لها منطق عيادي.
ولا بد من شرح هذه الكلمة.
للعيادة هنا نفس المدلول الذي وظفه فوكو. فهي كلمة سريرية، وتعني التماهي مع المحيط أو الاستعداد للتخلي عن الأوجاع التي تعاني منها الشخصيات. غير أنه كعادته التزم بنوع من الغموض والإبهام في تجسيد الصور وفي شخصنة الأفكار، وترك للسياق المتبدل مهمة تحديدها. وبذلك خلق دراما تصاعدية. وأي قارئ لمشروع وليد إخلاصي منذ “قصص” 1963 وحتى “السيرة الحلبية” 2010 يلاحظ وجود نوعين من المؤثرات المباشرة.
الأول هو تراث الشخصيات الروحية القلقة التي تتبلور بشكل هم ميتافيزيقي. ومنها “أغاني القبة” و”يا ليل” لخير الدين الأسدي. وهو شخصية رواقية لديه إشراقات تضع ما هو واقعي بخدمة ما هو متخيل ووهمي. وتساوي بين الغيبوبة المتعمدة والغيبوبة الشرعية. بمعنى أنه توليفة من المعاني غير المستقرة ومنها الشك بالشرط التاريخي للإيمان. وقد عبر وليد إخلاصي عن كل هذه البنود في عملين متباعدين وهما “يا شجرة يا” 1981 وهو نص رؤيوي وذاتي. والآخر “حكايا الهدهد” 1984 وهو نص نبوئي أو رسولي وتخيم عليه نفحة متعالية وخطاب إنشائي يذكرنا بأفضل نماذج جبران (النبي) وأفضل إشراقات نورمان ميلر (إنجيل الابن). وغني عن الذكر أنه مثلهما يدين بالكثير لنيتشة لكن المعقم من التشاؤم والمستعد للاندماج مع الذات الكلية والجاهز للانفصال عن الواقع الاسمي أو ظاهر الواقع دون تجلياته.
الثاني هو تراث الحداثة المبكرة في حلب. وأجد هنا عدة تقاطعات مع مظفر سلطان (مؤلف لأربعة أعمال. “ضمير الذئب” و”في انتظار المصير”. ثم عمل متأخر ضم نماذج إصلاحية وساذجة حملت عنوان “رجع الصدى”. وأخيرا رواية “المفتاح”. وهي تكرار بائس لرواية قوطية بعنوان “الخلف التنفيذي” لكاميرون مادلي). بالإضافة لمشروع مجلة “الحديث” التي أشرف عليها سامي الكيالي ومجلة “الضاد” الخاصة بأدباء المهجر والتي أسسها عبد الله يوركي حلاق. وفي هذه الأمثلة مؤثرات ساكنة أو كامنة بالظل تتوضح لاحقا في تراجيديا مجلة “شعر” ثم مجلة “حوار”. ولهما معا يدين وليد إخلاصي بتأسيس رؤيته ثم تطويرها.
ولكن انتقاله بين هذه المؤثرات (الساكنة ثم الديناميكية) لم يكن له دافع تأصيلي. وأي شبهة تربطه بالأصل والذاكرة التاريخية أو تراث الذاكرة الفنية تحدوني للسخرية والضحك.
فكل عناصر وأدوات وليد إخلاصي غربية وليبرالية، وتتحرك من فوق التراث العربي أو من أمامه. وإن اخترقته في بعض المواضع فهي اختراقات تدل على مصادر في اللاوعي أو تحت الشعور. وهذا يفسر أسباب تمسكه بأماكن ضيقة ومعتمة ومحفورة تحت الأرض كما في سراديب روايته “دار المتعة” 1991. ولاحقا مغارة الأسلاف في روايته “زهرة الصندل” 1981 والتي سوف تعوم في الوعي بشكل قبو تحت الأرض يسميه خشخاشة الأنس في روايته “الحنظل الأليف” 1980 المخصصة لمتابعة مأساة شاعر حلب المنكوب خير الدين الأسدي، والتهام اقتصاد المقاولات (ثقافة العلب الإسمنتية أو غابات الإسمنت) لاقتصاد الانتاج الطبيعي. وبرأيي إن “الحنظل الأليف” عمل بعيد عن الأسدي، وهو مرثية لعصر تحكم به الرأسمال الرأسمالي. ويمكن القول إن هذه الرواية أهجية لكل أعداء الإنسانية والحرية وبطريقة قريبة جدا من رواية عبده خال (وترمي بشرر).
ولكن تخلل هذا المشروع عدة نزوات. منها المتوالية القصصية التي تتراكم بشكل رواية (كما في “ملحمة القتل الصغرى” 1993). ولا أجد نفسي ملزما للتوقف عند دلالات هذه التجربة. فهي رغبة كامنة بوحدة الوجود ووحدة الشهود. وإن نجح بها في عدة محطات قصصية (دون أن يعنى بشرط التسلسل مع الاهتمام بوحدة الجو العضوية وتكامله) فقد حرص في “ملحمة القتل” على ربط حلقات المعنى وعزل حلقات الحبكة. ولم يلجأ لتفريع الأحداث وتكوين شبكة تتخبط بها النوايا والتوقعات. غير أنه في النهاية لم ينج من غواية “العقل الطبيعي” وأضاف لمشروعه عملين بغاية الارتباك. هما “باب الجمر” 1985. وهو رواية تكوينية ترفع واقع حلب لمستوى أسطورة. ويبدو أنه أراد أن يبني جدارية لحلب، أو أن يكتب شهادة عن ذاكرة الأجيال التي توالت عليها. وانتهى به الأمر لرسم صورة رعوية لمجتمع زراعي لديه حياة مدينية. فقد آخى بين حقول الفستق الحلبي وهي تحمل ثمارها الصغيرة التي تشبه قطرات الدم مع البيوت المطمورة في متاهة من الدروب وشبكة من هموم النساء. حتى أن صورة المدينة ابتلعت الشخصيات، ولم يعد من الممكن لأي شخصية أن تتصرف بوحي من إرادتها الحرة.
وتكررت هذه المشكلة في “السيرة الحلبية” 2010. فقد انفصلت الشخصيات عن المدينة وتركت عدة فراغات. أول مرة بين الراوي وبطل الرواية، ثم بين بطل الرواية والمدينة. وأخيرا بين الرواية الفعلية والسيناريو. بمعنى أنها كانت رواية مختلفة مع شرط المحاكاة. وهو ما أدى في خاتمة المطاف لبنية مجزأة كما هو حال أورهان باموق في “ثمة غرابة في عقلي”. فقد بدأ من حكواتي يروي سيرته بصوت مرتفع ومسموع، وانتقل لشخصيات شبحية تقفز بين المراحل. ومثل هذه العلة عبرت عن خلل عضوي وليس عن مجرد عصاب حبكة. ويمكن القول إنه ذهان يشطر كل شخصية لجزئين. الأول متماسك ويفهم نفسه. والثاني وهمي ومستقل عن تطور الأحداث وإرادة الراوي بكل أشكاله وأنواعه.
وبرأيي إن نماذج الثقافة النهارية لم تتحالف مع التفكير الواقعي والموضوعي. فقد كانت تتكلم عن أحداث دون مبررات أو أنها صورت الواقع بشكل أحداث منفصلة ومتجاورة. وأحيانا دون أي ترتيب. فالمونولوجات كانت تعمل بمنطق آلة الزمن، تطير من مرحلة لمرحلة بالقفز من فوق الأسباب. وهو ما حول الشخصيات إلى مانيكانات – تماثيل ترتدي ما فصله وجهزه الراوي. وهي مشكلة عضوية فعلا.
وقل نفس الشيء عن الفلسطينيات. كانت الأحداث قليلة بالنسبة للفكرة، بمعنى أن التعبير الفني أوسع من التمثيلات الواقعية. وهو يشترك في هذه المشكلة مع كل جيل الحداثة السوري. فقد كانت فلسطين حاضرة في وعي كل شخصية، إنما بشكل تحصيل حاصل. وباعتبار أن معركة الحداثة هي جزء من مشروع النهضة المرتبطة باستيراد حضارة الشمال، وإطلاق جملة تعديلات وطنية عليها، كان لا بد من أن يختلف المشروع مع نفسه. فالأهداف واضحة لكن الأدوات غامضة. والتصور مثالي غير أن الواقع معوق، ويستعمل كرسيا بعجلات، وحتى هذا الكرسي يتحرك بشكل أوتوماتيكي وبمعزل عن رغباتنا. ولذلك ارتبطت فلسطين في ذهن وليد إخلاصي بجملة مشاكل أساسية أيضا. ومنها الصراعات البينية بين الفصائل في لبنان، والصدام بين المعسكرات، وما ترتب عليه من حرب باردة بين المجتمعات العربية. ولا يسعني القول بين الدول العربية، فخط الحدود لم يكن سائلا وافتراضيا بمقدار ما هو عليه في هذا الظرف بالذات. وتداخل الخريطة السياسية، وما ينتابها من إبهام، يشبه لغزا وجوديا لم تمر به أية أمة غيرنا. وإذا كانت الإمبريالية المعاصرة تحاربنا بشركة متعددة الأذرع (عابرة للجنسيات) فأحزابنا بطبيعتها عابرة للإيديولوجيات. وتتداخل في كل تفكير سياسي مجموعة أوهام تقوم على مبدأ الناسخ والمنسوخ، فهي تلغي جزءا جوهريا منها لتزرع بمكانه أطرافا صناعية غريبة عضويا على المبدأ الأساسي. وقد عالج هذه القضية في مسرحيته القصيرة “لقمة الزقوم”1976. وهي عن تآكل الهدف واستكمال الأدوات لنفسها. وبلغة أوضح هي عن مجتمع مالتوسي ضعيف بالإمكانيات، وتتفشى فيه الجرائم، ومنها السرقة مع غياب الحرية والعدالة. وترتب على ذلك انسداد كل الطرق في حياتنا، كما ورد في قصة “الحب باللام الشمسية” 1978. وأن يكون “الملل هو وقود حياتنا. وأن تخمد الحركة وتتحول إلى سكون. وأن تصبح المدينة… سجنا”. ويربط هذه السلسة من المشاكل المتتالية بعد تنازلي، وحينما يصل لرقم ثمانية وأربعين (ذكرى النكبة) يستيقظ شعوره الراكد من سباته ليقول: “إنني أكره هذا الزمن. فهو مأزقي”.