إذا كان الشعرُ جنساً تُراثياً أصيلاً قديماً, وفي العصورِ الأُخرى المتعاقبةِ التي تلتهُ, يُعدُّ وفقَ المقولةِ التراثيةِ الشَّهيرةِ المأثورةِ (الشِّعرُ ديوانُ العَربِ), فإنَّ فنَّ السَّردِ النثري يمثلُ الآنَ ديوانَ العربِ الجديدِ في العصر الحديث. فقد أضحت الروايةُ والقصَّةُ بأشكالها الطويلةِ والقصيرةِ المختلفةِ في صدارة فُنُونِ القولِ التعبيريةِ, وَذلكَ لأنَّ الروايةَ هي سيِّدةُ الفُنُونِ والأجناسِ السرديَّةِ بلا مُنازعٍ. وأصبحت الرواية قادرةً على أنْ تحملَ روحَ العصرِ وتداعياتهِ الإنسانيةَ المُتدفقةَ, وتتبنَّى أنساقَ ورؤى متغيراتهِ التحوليَّةِ النابضةِ بإيقاعِ الحياةِ السريعةِ المُتحركةِ؛ لذلك نرى أنَّ النُّقَّادَ العربَ والأدباءَ من مُبدعي التسريد النثري يهتمونَ اهتماماً بالغاً ومنقطعَ النظيرِ بالأجناسِ السرديَّةِ, ولا سيَّما الأعمالُ والنصوصُ الروائيةُ, ويحتفونَ بها احتفاءً أدبياً خاصَّاً وفخماً في عصرنا الحديث. كون هذا العصرُ كما يَرونَ هوَ عصرُ روايةٍ. فضلاً عن هذا الاهتمامِ كُلِّهِ بعد أنْ تراجعَ الشعرُ قَليلاً عن رتبته المتقدِّمةِ, فإنَّ الروايةُ –إذا جاز لنا التعبير- بعد أنْ تَصدَّرت حيزَ المشهدَ الثقافيَ الحديثَ تمثِّلُ الجنسَ الأدبيَّ السرديَّ المَكينَ الأكثرَ تَقدُّماً وتداولاً وتلقِّياً وتبليغاً إرساليَّاً مباشراً عند القارئ العادي, والناقدِ النخبوي.
وفي ضوء المراحل الإنتاجية الثلاث, (التلقِّي والتأويلُ والتبليغُ) التي تمرّ بها الروايةُ عبرَ بنائِها الفنِّي والإبداعي الأصيل, فإنَّها في منظورِ وفكرِ مِيخائيل باختين الرؤيوي في كتابهِ (الملحمة والرواية) تُمثِّلُ ” النوعَ الأدبيَ الوحيدَ الذي لا يزال في طورِ التكوينِ, والنوعَ الوحيدَ الذي لم يكتمل بعدَ”. (مخائيل باختين: الملحمة والرواية, دراسة الرواية مسائل في المنهجية, ص 20), أي أنَّها مازالت تَسمو في تَطوِّرٍ ونُضوجٍ مُستمرينِ.
لا شكَّ أنَّ الحديث عن أيَّة روايةٍ مَا, تدفعنا خارطةُ بنائِها الهندسيَّةُ بجديَّةٍ إلى البوح جليَّاً بالمعمار السردي الفنِّي لأقانيمها وتضاريِسِها وأنساقِها الداخليةِ, وتخومِها وآفاقِها البعيدةِ الخارجيةِ. ويَصرِفُنا تشكيلُها الأُسلوبي الفنِّي التسريدي إلى أنْ نُجيلَ النظرَ بإمعانٍ في تاريخها الخاص, والكشفَ عن أُسس عالمِها البنيوي الرحيبِ الذي تسعى إلى تشكيلِ أحداثهِ وشخوصهِ ووحدتهِ الموضوعيةِ وحبكتهِ الحكائيةِ الفنيَّةِ. ويذهبُ بنا الفنُّ الروائي إلى إنتاجِ وتأثيثِ عناصرهِ الفنيَّةِ والجماليةِ, وإلى معرفةِ وحدةِ بيئتهِ(الزمانيةِ والمكانيةِ) المُحايثةِ للواقعِ المَرئي.
وعلى وفقِ ذلكِ المنظورِ الفنِّي التأسيسي, فإنَّ روايةَ (أوراقٌ لخريفٍ أحمرَ), هي العمل الروائي الرابع بعد الأعمالِ الثلاثةِ السابقةِ, (أسماكٌ على اليَابسةِ), و(اِستمراءُ الألمِ), و(لِلشَّمسِ وَجهٌ أَخرُ) لتحسين علي كريدي, والصادر عن الاتحاد العام للأدباء والكُتَّاب في العراق بطبعته الأولى عام 2021 بـ(163) صفحةً من القطع المتوسَّط, والذي نحن بصدد الاحتفاء به أدبياً ونقدياً. هذا العمل السردي الذي اكتسبت عتبتهُ العنوانيةُ تسميتَها الرئيسةَ من أوراقِ مُخلَّفاتِ الاقتتالِ الداخلي في سوريا, إثر عثور بطل الرواية (حسن) العراقي في القسم الثاني من أحداثها الخارجية على مفكرةِ ذكرياتٍ حمراءَ لاُمرأةٍ سوريةٍ مهجَّرةٍ مجهولةٍ تُدعى(دِيما دياب)أثناء انضمام البطل إلى الجماعات المسلحة التي تطوَّعت للدفاع عن المقدَّسات الشيعية لحيٍّ السيدة (زينب) جرَّاء الطائفيةِ.
يُعدُّ هذا العمل الأدبي في السردياتِ الحديثةِ أداةَ تَلقٍ وتحليلٍ واستكشافٍ وتبليغٍ لأنساقِ ومَرجعياتٍ ذلك الواقعِ المَعيشِ الحاضرِ بكُلِّ أطيافهِ ورؤاه الفكريَّةِ والفلسفيَّةِ, وفهم أنساقِ إشكالياتهِ الثقافيةِ وتعقيداتهِ الحضاريةِ المتناميةِ ،تلكَ الروايةُ التي كُتِبَتْ بأسلوبٍ فنِّي ماتعٍ شائقٍ مُبسَّطٍ تَعاملَ فيها السارد كريدي مع دائرة محيط الواقع (المَا حَول), وتشاكل معه بوصفهِ مَرجِعَاً غنيَّاً ثَرَّاً, ومنجماً نثريَّاً فنيَّاً طبيعياً لاستخراج خامات مادتهِ السرديةِ الأولى التي يصنع منها شخصياتِهِ المهمَّةَ ووحداتهِ الزمانيةَ والمكانيةَ, وأحداثَهُ ومبانيَهُ الحكائيةَ التسريديةَ في نسج ِتخليقهِ الفنِّي الإبداعي للعمل الحكائي الذي تحرَّر فيه كريدي من ضغوط الواقع الساخن الذي سعى لتمثيلهِ.
لقد حاول الكاتب كريدي بعدسةِ عَينهِ السرديَّةِ الباصرةِ التَّماهي بقوّةِ الرائي مع فضاءِ واقعهِ الحياتي الحاضرِ ذاتياً وموضوعياً, وانزاحَ فنيِّاً إلى الغور بعمقٍ في البحثِ عن صَدفاتهِ الثمينةِ, واستبطانِ تجلِّياتهِ وأحداثهِ المتسارعة.ِ وحاول أيضاً من خلال حاستهِ الإبداعيةِ السادسةِ, ومقدرتهِ الفنيَّةِ الفذةِ الكشفَ بَصريَّاً وإيحائياً عن أسرارِ عالمهِ السَّردي الداخلي والخارجي المُحتَقَنِ الذي وظِّفت لأجلهِ الوحدةُ الموضوعيةُ لأوراقِ هذهِ الروايةِ.
وانطلاقاً من التشكيلِ اللَّوني المُتقَنِ لِلوحةِ الروايةِ التجريديَّة, وعنونتِها الفنيَّة الفريدةِ, فإنَّ سيميائية عتبة النصِّ الروائي تُنبِئ بإيحاءٍ دلالي كبيرٍ أنَّ ثمةَ عُنفاً طائفياً كثيراً متعدِّد الأوراق سيتخلَّل متنَها الحكائيَ بقوَّةٍ. ذلكَ العنفَ الأحمرُ الدامي الذي اجتاح العراقَ الجديدَ؛ فكان الراهنُ لسنواتِ محنتهِ التي امتدتْ آثارُها إلى اليوم. وكانت العتبةُ العنوانيةُ الرئيسةُ (أوراقٌ لخريفٍ أحمرَ), والتي هي (ثُريا النصِّ), وهالته الضوئية المشعَّة الموازية لبنية نصِّ متنها الرسالي تستنطق رؤيةَ خريفَ هذا العالمِ الجديدِ الناضحِ دماءً بأوراقِ العنفِ الثوري واللَّاثوري الأحمرَ القاني من فجرِ أوطاني, كما تبوح بتجلَّياتِ أنساقهِ الثقافيةِ المُضمرةِ الخفيَّةِ والظاهرةِ الجليَّةِ.
وذلك يَشي بأنَّ الوحدةَ الموضوعيةَ الرئيسةَ لثيمة أحداث هذه الرواية؛ كونها حُواراً للذاتِ وصِراعاً وانعكاساً واقعياً مريراً مأزوماً؛ بوصفهِ رؤىً ذاتيةً ألبسها الكاتب ثوباً روائياً سردياً حدثياً مونولوجياً داخلياً, ونسقاً حِفْريَّاً استعادياً زمكانياً للأحداثِ والشخصياتِ في تارخ ِالعراقِ المعاصرِ,قد اعتمدت فكريَّاً في بنيتها الحكائية السردية على اتِّحادِ أُفقينِ اثنينِ من المرجعياتِ والأنساقِ الثقافيةِ المُهمَّةِ, والتي قسَّمت بدورها العمل الروائي النصَّي على قسمين مختلفين من حيثُ اِتّساقُ جدليَّةُ نسقِ السَّيرِ والانعطافِ الفكري. فكان النصفُ الأولُ من البناء التركيبي السَّردي للرِّوايةِ يتحدَّث بتجرُّدٍ وصفيٍ مُتَّئِدٍ وواضحٍ عليمٍ عن النسقِ الفكري الذاتي الإنساني لشخصيةِ بطلِ الروايةِ (حسن)؛ بوصفه الورقةَ الأولى التي انطلقت منها فسائلُ الأوراقِ الخريفيةِ الأخرى, وما مرَّ به في حياتهِ من أحداثٍ جِسَامٍ, وتوجُّعاتٍ كبيرةٍ وخَيباتٍ ونَكوصٍ مُثيرةٍ تركتْ أثرها النفسيَ الأليمَ على ذاتهِ الأنويةِ.
إنَّ هذا الوجعَ الذاتيَ الأليمَ لشخصيةِ البطلِ المُسالمِ والهِزَّاتِ المتكرِّرةَ قد فعلتْ فِعلتَها, فَصَيَّرَتهُ من شخصٍ سَويٍ طبيعيٍ مُسالمٍ, ذي نزعةٍ إنسانيةٍ رومانسيةٍ حالمةٍ إلى مُجرمٍ قاتلٍ أفَّاكٍ تَحتَ ذريعةِ الطائفيةِ والمذهبيةِ والإثنيةِ, وإلى رمزٍ مُسلَّحٍ مُقاومٍ تحتَ ما يُسمَّى بجماعاتِ المقاومةِ الوطنيةِ المُسلحةِ. وراح البطلُ يُعطي لنفسهِ مسوغاً لذلك التحوِّل المفاجئ ويبعث برسائلَ سلبيةً مَفادُها أنَّ “مقتل أُمِّي وشقيقتي هزَّ كياني بعنفٍ وأزاحَ عن عقلي رجاحتَهُ, وَجَعلنِي أُفكِّرُ بِشيءٍ واحدٍ فقط, وهو طلبُ الثأرِ لهما”. (أوراق لخريفٍ أحمر, ص 68).
ثُمَّ يؤكِّد بطل الرواية حسنُ رغبتَهُ الثأريةَ العارمةَ في الانضمام إلى معيةِ هذا النسق الخارجي عن هيمنة ِ الدولةِ من الجماعات الميليشاوية المُسلَّحةِ, فَيُخبِر برسالةٍ أخرى مُصرِّحاً بها القول: ” كان (منتظر) ابن عمتي (يُسرَى) التي تَسكِنُ في مَنطقةِ (البلدياتِ) عندَ القناةَ, يقودُ إحدى المجاميعِ التي تشكَّلت لمقاومة ِالاحتلالِ, وصدِّ هجماتِ الإرهابيينَ الشرسةِ التي عصفت بالبلد, فَأَبلغتَهُ أثناءَ فترةِ العَزاءِ بِرغبتي بِالانضمامِ إلى مجموعتهِ” (أوراقٌ لخريفٍ أحمرَ, ص 68).
إنِّ مثلَ هذهِ الرسائلِ النصيِّةِ التحريريةِ الكاشفةِ التي يُحرِّرُها الكاتبُ تحسين علي كريدي في أنساقه الذاتية تَتسربلُ ثوباً حكائياً سرديَّاً يبعث ضوئياً بإشاراتِها الصُوريةِ, وعلاماتِها السِّيميائيةِ والدلاليَّةِ إلى المُتلقِّي والقارئ النخبوي لفكِّ رموزِها وشفراتِها الدلاليةِ البعيدةِ, والبحثِ والتنقيبِ في حِفرياتِ آثارِها العاطفيةِ وغيرِ العاطفيةِ. ومن ثمَّةَ التأمُّلِ والتحليلِ والنظرِ المُستديمِ في أبعادِ صورها (الإمجيةِ) الإنسانيةِ الكبيرةِ التي تعكسُ واقعَ الحالِ الذي مرَّ به العراقيونِ أثناءَ فترةِ التغييرِ السياسي والتحوَّلاتِ الجديدة, وَما مَرَّ بهِ الرَّاوي العليمُ من محنةٍ ذاتيةٍ وجمعيةٍ دفعته سيريَّاً وفكريَّاً إلى التَّقنُّعِ رمزيَّاً وحضوريَّاً بصورِ بطلِ الروايةِ المُعبِّرةِ عن آثارِ الفقدِ والحرمانِ الأُسري الحميمِ, وعن شعورهِ الجَمعي الوطني حِيالَ وَاقعِ أُمَّتهِ المَريرِ “بِرحيلِ والدي فقط, أدركتُ المَعنى الحقيقيَ للشُّعورِ بالوحدةِ على الرغم من أنَّي لم أكن أجتمعُ بهِ إلَّا لِمَامَاً” (ص 30).
هذه الصورُ والالتقاطاتُ الذاتيةُ السلبيةُ والثيمُ والأفكارُ الحكائيةُ التي جسَّدها الرائي تحسين كريدي إبداعياً وفنيَّاً عن شخصية بطل روايته (حسن) وما يتَّصل بها من شخصياتٍ ثانويةٍ فاعلةٍ أُخرَى تؤكِّد موحياتُها الدلاليةُ البعيدةُ بأنَّ بَطلَهُ الفاعلَ كان ضحيةَ استلابِ الراهنِ الواقعي المُفترضِ, أي الراهنُ المعيشُ, وأعني تلكَ الأنساقِ الثقافيةِ التالفةِ المؤثَرةِ شرطياً بمثيراتِها واستجاباتهاِ في فكره وعقله وانتماءِ وعيه العقائدي.فكانت هذهِ المؤثِّراتُ الطارئةُ على واقعِ بنيتهِ المجتمعيةِ متواليةً من الأنساقِ الجديدةِ التي لم تُعهد أُصولياً من قبل في تكوينِ خارطتهِ السلميةِ, فلم يكن للنسقِ الطائفي أو الديني أو الإثني أو الإرهابي أو الآيديولوجي أو العقائدي أو القومي أيُّ أثرٍ سَلبي يُهدِّد خارطةَ الأمنِ والسلمِ المُجتمي لأبناءِ الوطنِ الواحد المُتعدِّدِ الأقلِّياتِ والطوائفَ والأديانَ والإثنياتِ.
وعلى الرغمِ من فشلِ وحشيةِ هذهِ الصُورِ والمَحاولاتِ المَقيتةِ غيرِ الإنسانيةِ التي رَاهنت عليها بعضُ القوى الكبيرةِ المتنفذةِ سياسياً ودولياً؛ لتحطيم بنيةِ نسيجِ المُجتمعِ العراقي الوطني المتآلفِ بوحدتهِ دينياً عبرَ تاريخ حضارتهِ العريقةِ, فإنَّ رؤيةَ الرَّاوي العليمِ (الكاتبِ) في رسمِ فلسفتهِ الفكريَّةِ لهذا العمل الأدبي لا تُشجِّع مثلَ هذهِ الأفكارِ الطائفيةِ, ولا تعملْ على صناعةِ ترويجِها فِكريَّاً, ولا تضعُ الحُلولَ الناجعةَ للخلاصِ منها, بل تسعى جاهدةً عبر تسريدها الحكائي إلى تدوين عيناتٍ أو نماذجَ منها في تمثيلِ الواقعِ الراهنِ, ووضعِ أسئلةٍ مُثيرةٍ تُلامسُ فكرَ القارئ وتستفزُّ أثرَ حفيظتهِ الإنسانيةِ. لأنَّ الساردَ الحقيقيَ غيرُ مُطالبٍ بتمثيلِ الراهنِ ونسخهِ, أو إعادةِ إنتاجهِ ونقلهِ إلى القارئ اجتراراً كما هو, بل هو مطالبُ بإسقاطهِ وتسريدهِ, وكسرِ أفقِ التوقُّعِ العياني المألوفِ, وخَلقِ عُنصرِ المفاجأةِ والدهشةِ والمفارقةِ وإنتاجِ الواقعِ البديلِ لديه وفقَ مُعطياتِ السَّردِ ومخرجاتهِ.
والمُتتبِعُ المُتأمِلُ بتؤدةٍ لأحداثِ الروايةِ ووحدتِها الفكريةِ, سَيلفتْ نَظرَهُ ما وَردَ في النصفِ الأولِ من وقائع سردياتها المُتمثِّلُ بالنسقِ الإنساني الذاتي العاطفي, أو الجانبِ الآيروسي الرومانسي الجمالي للمرأة, هوَ النسقُ الثقافي الفكري الخَفيُّ الذي يقفُ خلفَهُ كاتبُ الروايةِ كريدي مُتخفيَّاً مُستتِرَاً لِمقاصدَ فَنيَّةٍ وَإبداعيَّةٍ وَجماليَّةٍ, غايتُها البلاغيةُ والفقهيةُ البَعيدةُ مُحاولتُهُ النسقيةُ الجريئةُ في أدبياتِ السردياتِ المُعاصرةِ, تلكَ هيَ إعادةُ إنتاجٍ نَسقيٍ ثقَافيٍ جَماليٍ يجمعُ في طياتهِ السَّرديةِ ثُنائياتٍ مُتضادةً عَديدةَ بينَ, (الأَملِ والألمِ), واللّذةِ والطموحِ, والوجودِ والعَدمِ, أي تَحدٍّ جَلِيٍ للذاتِ الأنويةِ(أكونُ أو لا أكونُ) في ظلِّ فضاءٍ سوداويٍ معتمٍ بالحزنِ, “الأجداثُ تكتظُّ بفلذاتِ الأكبادِ والسَّماءُ تضجُّ بتأوهاتِ الثكالى والمفجوعينَ؛ ولكنْ لا تَلوحُ في الأفقِ نهايةٌ لهذا اللَّيلِ البهيمِ, ولا عزاءَ للأحياءِ, فقدرُهُم هو أنْ يَعيشوا كالأمواتِ في هذا الوطنِ”.(أوراقٌ لخريفٍ أحمرَ, ص 43).
ومِنْ ثَمَّةَ أرخنةِ سِيرتهِ الأدبيةِ الذاتيةِ والمَهجريَّةِ, وشحنهما على جَناح السَّرد الحِكائي إلى واعية المتلقِّي بلغةٍ سرديةٍ شفيفةٍ تَتشابكُ في عناصرِها الفنيَّةِ ورؤاها الفكريَّةِ والفلسفيَّةِ والموضوعيةِ, وفقَ مُدخلاتِ السَّردِ وَمُخرجاتهِ الفنيَّةِ والجَماليَّةِ التي تُسهمُ إبداعياً في صُنعِ وتخليقِ عمليةِ الإنتاجِ السِّردي. وكان لتدوينِ ورقتي الحصارِ الاقتصادي والسفرِ إلى خارجِ الوطنِ الكبيرِ شديدُ الأثرِ على نفسِ الراوي العليم؛ كونهما نسقاً جماعياً مهمَّاً لا فردياً ذاتياً في منظومة أوراق خريف العراق المتساقط, “كان عام 1996 شديدَ الوطأةِ على العراقيين. فقد جرَّدهُم الحصارُ الاقتصادي من جميعِ مُدخراتِهُم وأوصلهُم إلى عَتبةِ الفُقرِ… وكان السفر إلى الخارج والعمل هناكَ, هو النافذةُ الوحيدةُ المتاحةُ لجني المالِ والعيشِ على نحوٍ مُريحٍ؛ ولكنْ ليس من دون دفعِ ثمنٍ باهضٍ لدائرة الجوازات, ناهيكَ عما يُسبِّبُهُ الافتراقُ عن الأُسرةِ من مُعاناةٍ “. (أوراقٌ لخريفٍ أحمرَ, ص 43).
وكان الأثرُ البلاغيُ الكبيرُ والمعنى الدلاليُ البعيدُ جليَّاً في النسق المرجعي الذاتي لثنائية جدلية عتبة التصدير الروائي التي هي إحدى عتبات جيرار جينيت المهمَّة للنصِّ الرسالي, والتي ثبَّتَها الكاتب الرائي كريدي تعبيراً عن رؤية منهجه الفكري السردي في مفتتح روايته بعبارة لافتةٍ للمُفكِّر والمُؤرِّخ الأغريقي (هيرودوت) تقول: “في أوقاتِ السَّلامِ, الأبناءُ يَدفنُونَ آباءَهُم. في الحربِ الآباءُ هُم يَدفنُونَ أبناءَهُم”.(أوراق لخريفٍ أحمر, ص7).
تُشيرُ مجسَّاتُ العملِ الروائي ووحدتُهُ الفكريةُ والموضوعيةُ إلى أنَّ النسقَ المَرجعيَ المُهيمنَ على مُناخِ وأجواءِ تضاريسِ ثيمةِ النَّصف الثاني من البناءِ السَّردي, هوَ النسقُ الثقافي الجَليُ الظاهر عرضياً للرؤية البصريَّةِ, والمُتمثّلُ بالنسقِ الآيديولوجي الفكري السِّياسي المعروفُ بمصطلحِ العُنفِ, أو بِنسقِ التَّطرُّفِ والإرهابِ الطائفي الديني والإثني العقائدي, ووسائلِ الإرهابِ المُنظَّمِ بِالقتلِ على الهُويَّةِ, فضلاً عما يسمَّى بفصائلِ المقاومةِ المُسلَّحةِ ضدِ الاحتلالِ, والمعروفةُ بـجماعاتِ (الميليشيا الشعبية) ذاتَ الولاءتِ الحزبيةِ الداخليةِ والخارجيةِ. وكلُّ ما يمتُّ بصلةِ (الدَّولةِ العميقةِ) لهذا النسقِ من آثارَ وتقوّضاتٍ سلبيةٍ هَدميَّةٍ لبنيةِ الواقع المُجتمعي السَّلمي. “وكما تنبَّأ والدي في وقتٍ سابقٍ, فقد بدأتْ موجةٌ من التَّطرفِ الديني والمذهبي تلوحُ في الأفقِ, حاصدةً أرواحَ المِئاتِ من الناسِ, ضحايا المُفخَّخاتِ والاغتيالاتِ, من دون احتسابِ أعمالِ الجريمةِ المنظَّمةِ التي بدأتْ تِستفحلُ, وجرائمُ القتلِ التي يرتكبُها الأمريكان”.(أوراقٌ لخريفٍ أحمرَ, ص 59).
وفي التقاطةٍ عينيةٍ نسقيةٍ أُخرى من أوراقِ هذا الخريفِ الدامي للعراق الجديد, تنقلُ عدسةُ الكاتبِ السَّرديَّةِ صورةً حَدثيةً تشاؤميةً ناطقةً عن واقع حال المجتمع البغدادي الآمن أثناءَ محنتهِ الطائفيةِ العسيرةِ, وما ينتظرُ غدهُ الراهنَ من جراحِ سَوادٍ حالكٍ أليمٍ يشي بأنَّ “السعادة لا يمكنُها أنْ تدومَ طويلاً في بغدادَ أو معي على أقل تقديرٍ؛ فقد حدثَ أمرٌ تمزَّقَ جراءَهُ النسيجُ المجتمعيُ, وَأُزهقت بسببهِ أرواحُ الكثيرينَ, إنَّهُ تفجيرُ الإمامينِ العَسكريينِ في سامراءَ”. (أورقٌ لخريفٍ أحمرَ, ص 60).
لقد حاول تحسين علي كريدي بلغتهِ الواقعيةِ الناطقةِ وانزياحاتهِ المجازيةِ المخياليةِ المُوحيةِ أنْ يبنيَ عالمَهُ السَّردي الروحي العاطفي الذاتي المُميَّزِ ليس بعيداً عن تسترهِ النسقي الآيديولوجي في بنائه الروائي السردي, بل كانت أنساقُهُ الثقافيةُ ومراميهُ الفكريةُ القريبةُ والبعيدةُ تَكشفُ جَوانبَ مُهمَّةً من وقعِ أحداثه التسريدية, وتستنطقُ شخصياتهِ البطوليةَ المتنوِّعةَ, وتحكي قصةَ حرمانهِ الرومانسي العاطفي, وشدة َ تَوْقِهِ (الحسِّي الرُّوحي) لواقع الرؤيا الجمالية في فضاء العالم الإنساني الفسيح الذي يقبله عالماَ ثقافياً إيجابياً جديداً, أو يرفضه أمراً سلبياً استهلاكياً واقعاً معيشياً معطوباً, أوعصيَّاً مُغايراً مَأزوماً لا مناص من مواجهته أبداً, والتشاكلُ مع معطياتِ أنساقهِ البديلةِ بحكمةِ القُبولِ أو الرفضِ. لكون التناقضُ قائماً بين النسقِ الفكري الثقافي الذي يسعى إلى التغيير والتطوِّر المعرفي لحريَّة الفكر الإنساني ونسقِ الآيديولوجيا التي تَغلقُ الأبوابَ بوجهِ الرِّياحِ التي تمسُّ ثباتَ تغييرِ نظامِ عقيدتِها الصّنميةِ الجامدةِ. وهذا يعني أنَّ النسقَ الثقافي نسقٌ مُتحركٌ والآيديولوجيا نسقٌ ثابتٌ.
وَلِنُجِلِ النظرَ برؤيةِ الكاتبِ الفكرية لهذا الواقع الحياتي المُعاش في تدويته اليومي, “ذاتَ ليلةٍ تَمادينا في مُمارسةِ الحُبِّ, وبعدَ آخر جولةٍ لنا هدَّنا التَّعبُ واستسلمنَا للنومِ. ولم يُوقظْنَا صَوتُ المُؤَذِّنِ لصلاةِ الفَجرِ؛ لِبقينَا نَائمَينِ؛ وَلِاِفتضحَ أمرُنا,فَحَمِدْتُ اللهَ وَشكرتَهُ؛ لأنَّ لا أحداً من أهلِنَا كانَ يُصلِّي”(أوراقٌ لخريفٍ أحمرَ,ص 59). وأمَّا بخصوص نظرته السردية إلى التعايش السلمي بين مكونات المجتمع العراقي الموحد في مواجهة الطارئ السلبي, فَيُورد الرفض بالقول: “كانَ حَيُّنَا آمناً قِياساً إلى غيرهِ من مناطق ِالعاصمةِ, فالناسُ هُنا خليطٌ من جَميعِ أطيافِ المُجتمعِ العراقي, ونزعةُ التَعايشِ السّلمي في السُّلوكِ واضحةُ المَعالمِ”.(أوراقٌ لخريفٍ أحمرَ, ص60).
وعلى وفق هذه القراءة النسقية المنهجية الموضوعية, لتجلِّيات الأنساق والمرجعيات الثقافية, والقيمِ الفنيَّةِ, والتَّمظهُراتِ الفكريةِ والمعرفيةِ لجمالياتِ وآلياتِ الفنَّ الرِّوائي, تُلَوِّحُ تمظهرات البنية التركيبة السردية لرواية (أوراق لخريف أحمر), وتؤكِّد موحياتُها الدلاليةُ العديدةُ بأهميةِ رصافةِ لُغتِها الحسيَّةِ والتجريديةِ, وأسلوبها الفني التعبيري كما يؤكِّد ذلك المُثقَّفُ الفرنسي بُوفون بأنَّ (الأسلوب هو الكاتب), وأنَّ (اللُّغة هي أخطرُ النعمِ) على مرجعياتِ مُبدعيها, وصانعي مصفوفاتِها كما يرى تَصوِّرُ المُفكِّرِ والفيلسوفِ الألماني الوجودي هايدجر.
وتأسيساً على ذلك المنظور الفكري فإنَّ أُسلوبيةَ الساردِ تحسين علي كريدي اللُّغويةَ في فنيَّةِ التعبيرِ السردي تمتاز بصفاتِ الجِدَّةِ والمتانةِ والموضوعيةِ التعبيريةِ, والأناقةِ اللفظيةِ في ترصيفِ العبارةِ السرديةِ وتماسكِها النصِّي, وتشذيبها وتهذيبها بخاصيةِ الاقتصاد اللُّغوي من عوالقِ التَّرهُّلِ اللَّفظي والغموضِ المعنوي الذي يقمعُ الفكرةَ وَيُثقلُ العبارةَ ويُضيِّعُ الجُهدَ الإبداعيَ والفنِّيَّ شكلاً ومضموناً. فضلاً عن الحاجةِ المُلحَّةِ إلى إفشاء روح جمالياتِ فَنيَّةِ التعبيرِ السردي وبلاغتهِ الانزياحيَّةِ الحديثةِ الماتعةِ في تقنيتي (الإبداعِ والاِبتداعِ) الفنِّي. وضرورة الإمالةِ إلى التغييرِ والتجديدِ والاستئناسِ بآفاقِ الجِدَّةِ والنهلِ من روافدِ السَّردياتِ الحداثوية؛ لكسرِ رتابةِ صورة ِ المألوفِ من المُتوقَّعِ الاعتباري التنميطي من أجلِ الخروجِ من أَسرِ النَمطياتِ والأُطرِ السَّرديةِ الجامدةِ الباليةِ؛ وذلك من خلالِ الانفتاحِ على عوالمِ الأكوانِ والثقافاتِ السرديَّةِ المُتجدِّدةِ فِكراً ومعرفةً وأصالةً وفنَّاً وإبداعاً.
وإنَّ أهمَّ ما يُميَّزُ القيمةَ الجَماليةَ والفنيَّةَ لأحداثِ هذهِ الرِّوايةِ الشائقةِ في تشكيلها السرديَّ, عُنصرَا الحِياديةِ والاعتدالِ الفِكري في ثِيِم اِشتغالاتها الحدثية. والدقةُ في رسمِ وتوظيفِ أدوارِ شخوصها الذكورية والأنثوية, وبثُّ روح ِالعدلِ والاِنصافِ في حركة سيرِ بوصلتها الدائريةِ, والاهتمامُ اللافتُ بقوةِ ترابطِ متانةِ وحدتِها الموضوعيةِ. ومحاولةُ الكاتبِ الفنيَّةُ في التحكُّم بأزمنتها وأمكنتها الانتقالية, والإمساكِ بتلابيبِ أطراف نسيجها الحكائي من غير قصديةٍ الإهمالِ أو التفريط بخيوطِ روافدِها ومغذياتها الأُخرى المتصلةِ في تعالقها البنائي بِنواةِ هذه الوحدة (بؤرة) الحدث السردي, وروحه المبثوثة في فضاء جسده التكويني.
يُضافُ إلى حصيلة هذا التميُّز الإبداعي كُلِّهِ, ما يلفتُ النظرَ في سردياتِ هذهِ الرواية وفي معظم أعمال الكاتب تحسين علي كريدي الروائية الأخرى, أنَّ شخصياتهِ الرئيسةَ والثانويةَ على الرغم من معانتها الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية, لم تكن في غالبيتها العظمى من طبقةِ الشخصياتِ غيرِ المُتعلَّمةِ المسحوقةِ أو الارتكاسية المُعدَمةِ التالفةِ والمَعطوبةِ طبقياً ومجتمعياً. والتي تُعاني آثار العوزِ والفقرِ والفاقةِ والحرمان, بل على العكس من ذلك فهي شخصياتٌ مثقَّفةٌ تمتلكُ حسَّاً ثقافياً واعياً في أنساقهُ السرديةِ ,ومِساحةً واسعةً من التعلُّم, وقَسطاً وافراً من حريَّة الفكر المعرفي, وبحبوحةً من العيش الكريم. فيروي عن (ديما) إحدى شخصيات روايته الموازية للبطل في سرد قصتها له, “قرأتُ روايةَ (بطلٌ منْ هذا الزمانِ) لميخائيل ليرمنتوف, روايةٌ في غاية الروعة. تركتْ قصةُ الفتاةِ الشركسيةِ (بِيلا) التي وقعت في حبِّ الضابطِ الروسي في نفسي أثراً عميقاً”. (أوراقٌ لخريفٍ أحمرَ, ص 124).وأنَّ الإشارات المعرفية والدلالية لأيقونةِ أنساقِ المرأةِ في مدوناتِ متوالياتهِ السرديةِ تَجمعُ بينَ رغائبِ اللّذةِ الآيروسيةِ العارمةَ ونوازعِ الطُموح الشَّخصي لتحقيق الذات الإنسانية الرغيدة.
ويشكل المكان في روايات كريدي ذاكرةً جماليةً فريدةً فذةً وحضوراً سرديَّاً زمانياً لافتاً سواء أكان حقيقياً واقعاً أم متخيلاً وهماً؛ كونه عنصراً مهمَّاً لا يمكن الاستغناء عنه في تقنية البناء السردي, لترسيم معالم الحكاية الداخلية والخارجية كي لا يغلبُ عليها الشعورُ بالعدمِ والتِّيهِ والفقدانِ والتشتت, وعدمِ الاحساسِ بالمواطنة. وأنَّ الحضور البيئي المكاني يُضفي على السرد قيمةً اجتماعيةً ووطنيةً وعاطفيةً تربطهُ بالجامعة الإنسانية عموماً.
ولكنَّ الأكثر تميُّزاً ووضوحاً في انثيالاتِ بناءِ الخطابِ السردي, هو قدرةُ الكاتبِ الجمالية على عقد مؤاخاةٍ تواشجيةٍ, وتآلفٍ فنِّي, ومواءمةٍ روحيةٍ تعشقيِّةٍ ماتعةٍ تجمعُ بينَ ثنائيةَ صُورِ أحداثِ الواقعِ الحقيقي الآني الحاضر وصور أحداث العالم الافتراضي التَّخيُّلي غير المرئي بصرياً دون انحيازٍ يخلُّ بثيمة السرد, أو تفضيلِ أحدهما على الآخر لدواعٍ نسقيةٍ مُضمرة. وأنَّ المُبهر واللافت لعين الرائي النقدية الثالثة التزامُ السارد تحسين علي كريدي بجماليات العمل الروائي وسعةِ فهمهِ لنظام آلياته الكتابية, وعدم خروجه عن جادة منظومة حداثة التسريد الفنِّي المعروفة في أدبيات الإبداع. وهذا يُدلِّل بصدقٍ على نضوج وعي الكاتب الفكري, ومهارةِ رؤيته الفنيَّة الواثبة إقداماً وإحجاماً ومناورةً على البحث والتجريب والتجديد في الأشكالِ الفنيَّةِ السَّرديةِ والمستويات الدلاليةِ واللُّغويةِ, وفي امتلاكه لأدواتِ فنِّه التعبيريةِ التي تؤدِّي سيرورة هذه المَهمَّة على أفضل وجه ممكن.