قصة امرأة.. قصة قصيرة / عيشة بنت أحمدو
أخيرا، ها هي في بيتها الخاص بها، مع زوج مهتم، مستقيم ووفي. لقد انتظرت هذا اليوم كما ينتظر المؤمن بيته في الجنة في الدار الآخرة. لقد كانت مستعدة لأن تواجه، بكل ثبات، موجة السعادة التي لا شك ستحصدها. ولكن لم يحدث شيء.. لم تكن تعيسة بالفعل ولكنها لم تكن تسبح في السعادة.
قالت في نفسها “كل ذلك سيتحقق فيما بعد”.
خرج “بزيد” من الحمام بعد أن أغرقه.. ولما دخلته لأخذ حمام بدورها مشت في الماء حتى الكعبين.. قطعة الصابون مرمية على الأرضية وقد كادت أن تسقط على وجهها بعد أن تزحلقت عليها.. علبة الشامبو مفتوحة ومرمية في حوض الحمام وقد تسرب كل محتواها. إن الرجال يشبهون بعضهم، إنهم فوضويون وغير منظمين.
كان عليها أن تأخذ حماما دون أن تُخِلَّ بنظام وتوضيب الطرحة التي استطاعت أن تدجن شعرها الذي ظل دائما متمردا على كل نظام. وذلك ما زاد من تعكير مزاجها، الذي لم يكن صافيا أصلا بسبب الحالة التي توجد فيها الغرفة. إنها لا تزال عروسا.. وبالتالي عليها أن تحاول، بطريقة أو بأخرى، أن تربط الضفائر الكثيرة المزينة بالخرز التقليدي والتي تتدلى على ظهرها وتغطي وجنتيها. لقد عكست لها المرآة صورة كيلوبترا خارجة من بين أيدي “صانعة بيظانية”.
مع خروجها من الحمام كان “بزيد” قد أعد صينية عليها وجبة إفطار شهية تفرح العين وتفتح النفس. لقد لامست هذه اللفتة شغاف قلبها وبدأت في التعاطي مع هذه الوجبة بقدر ما تمليه عليها شهيتها المفتوحة. وقد أظهر زوجها الجديد شهية لا تقل عن شهيتها، ومع ذلك كان نحيفا كالمسمار، وكان وجهه رقيقا كحد السكين. لقد كان أصدقاؤه يداعبونه بأن في جوفه غولا جشعا. لقد أحست “سلم”، على الرغم من الإزعاج الذي تسببه لها الطرحة القابضة على رأسها، بأن طيفا من السعادة يحوم فوقهما.
همت بأن تبدأ الحديث ولكن زوجها أوقفها مباشرة بحجة التقليد القائل بحرمة الكلام أثناء الأكل. لقد اعتبرت “سلم” أن ردة الفعل هذه غير لائقة ولكنها سكتت و”حكتها في جلدها”.. لن تغضب في يوم كهذا، في هذا البيت الفسيح والجميل، الذي يتضمن حمامات ومطبخا بهذا الحجم، وصالونا بهذا الاتساع، وغرفا فسيحة، الكل مؤثث بصورة فاخرة. المركن الذي يتسع لسيارتين، يفتح بالتحكم عن بعد، وكأنه صمم على مقاس سيارة “بي.ام.دابليو” (BMW) الخاصة بـ”بزيد” وسيارة سوزوكي (SUZUKI) الصغيرة الجديدة الخاصة بها هي (والتي لم تجربها حتى الآن). هيا! إنه يوم السعادة ولا مجال إطلاقا لما يمكن أن يكدر صفوه.
انتهى “بزيد” من تناول فطوره.. احتسى قهوته.. تمدد على قفاه.. تجشأ بغبطة.. الأمر الذي كاد أن يقضي على الأمل الناشئ لدى “سلم” في كونها وجدت أخيرا رجلا على ذوقها. أن يُظْهِر المرء ارتياحه الجسدي يشكل بالنسبة لها أمرا منافيا للأدب والحشمة أكثر من غيره. نظر إليها بعينين ملؤهما الحب.. ابتسم وتمدد كالقط دون أن يلقي بالا لملاحظات زوجته اللطيفة.
فكرت “سلم”، بعد أن هدأت نفسها، بأن الرجل عندما يشبع يكون كالقط، إن لم يكن أشبه بأي حيوان آخر، لأن فصيلة القطط أكثر أناقة في نظرها من غيرها من الحيوانات. لم تنته بعد تماما من تناول الفطور، وتساءلت هل بإمكانها أن تستأنف الحديث دون أن تتعرض للتقريع من جديد. استبقها هو بنبرته المعدنية التي طالما شغلت فكرها وغذت أحلامها، على مخدتها وهي تراود النوم، في أوقات صلواتها وخشوعها، في كل الظروف وفي كل زمان ومكان. ويا للتعاسة! لقد كانت تتمنى أن يدوم ذلك طويلا:
-“أريد أن أضع بعض الأمور في نصابها ابتداء من اليوم، حتى يكون كل شيء واضحا بيننا دائما.. لا تردي أبدا على الهاتف”
قالت هي في نفسها: “يا لطيف! إنها بداية جميلة”!
تابع هو: “يتصل بي كثير من الرجال ولا أريدهم أن يتخيلوا أشياء وهم يسمعون صوتك. دعي الحارس يفتح الباب، إنه يتقاضى راتبه على ذلك. لا أريد أن أراك عندما يكون معي زوار، وإذا كان هناك ما يلزم القيام به فعلى الخادم القيام به”.
نظرت إليه “سلم” مذعورة وحملقت فيه بعينين لا تصدقان ما تريانه. من هو هذا الرجل الذي يكلمها بهذه السلطوية المتغطرسة؟ إنه قطعا ليس الرجل الذي ظنت أنها تزوجته. هل هو أحد الأغراب.. مجنون.. غيور.. قد أخذ مكانه وتقمص ذاته؟ هل ستتحول هذه الدار الفخمة الجميلة الى لحد بالنسبة لها؟
لن يكون الأمر كذلك! لا يمكنها أن تكون قد اغترت إلى هذه الدرجة! سيكون هذا الرجل طوع بنانها أو لا يكون! ومع ذلك، فإنها لن تتحمل طلاقا آخر أمام أعين الناس وبهذه السرعة بعد زواجها! إنه زواجها الثالث ولم تتجاوز بعد الثلاثين من عمرها!
لقد كان زواجها الأول مع شريف (من آل الرسول صلى الله عليه وسلم) غني جدا، أرغمها والدها على الزواج منه، إلا أن ذلك الزواج انتهى بفشل مُدَوٍّ ومأساوي أدى إلى خلاف دائم بين عائلتها وعائلة هذا الرجل. لقد كرهته كرها شديدا وهي في السادسة عشرة من عمرها، فهربت من بيت الزوجية، مما حز في نفس زوجها ورفض عودتها إليه، وهو الذي تتمنى كل النساء أن يحظين به، أو أن يحظين بثروته، فالنتيجة واحدة.
أما زوجها الثاني والذي كان، على عكس زوجها الأول، تكن له مشاعر الود، دون أن تحبه حقا، على عكس زوجها الأول، فكان يخونها في السر والعلن، ويمارس نشاطات أكثر انحطاطا من ذلك. مما أثار حفيظة أهلها وغيرتهم على كرامتهم واستصدروا حكما بالطلاق من لدن القاضي. لقد ولد ذلك عندها إحساسا دائما بالألم وعدم الثقة بالنفس.
لقد رزقت أطفالا من هاتين الزيجتين: بنتان وولد. ولم تستطع أن تحتفظ إلا بحضانة ورعاية الطفلتين المولودتين من زواجها الأخير، واللتين تحبهما أكثر من حدقتي عينيها وتعتبرهما “حبة قلبها”.
أما الولد فكان أبوه الشريف يصر على تربيته كباقي أولاده الكثيرين الذين أنجبهم خلال زيجات متعددة ومتفرقة، بحجة أن عائلتهم من النبلاء ولا يمكنهم أن يكلوا تربية أبنائهم لأي كان، كما لو كانت عائلتها هي من الدهماء! لقد سبب حرمانها من أحمد جرحا غائرا في قلبها لم يندمل بعد.
ثم التقت بـ”بزيد” بعد أن أصبحت تخاف من كل الرجال ومن الزواج ومن كل ما يترتب عليه. كان بزيد يبدو مغايرا.. كان مرهف الإحساس ومثقفا. كانت نظراته ثاقبة وابتسامته مضيئة. كانت تشع منه القوة التي توحي بالطمأنينة وكان يبدو نظيفا وهو أمر مهم بالنسبة للنساء. كانت حركاته لطيفة وكان حديثه عذبا، تبدو عليه أمارات الطيبة والمسالمة. كان قد تزوج سيدة تكبره سنا، ممن يوصفن بخضراء الدمن، كسته ثوبا من العار؛ حيث كانت تخونه مع كل من هب ودب، مما سبب له جرحا خفيا لم يحدث عنه غيرها، وهو جرح عميق لن يندمل أبدا، كما تصورته.
لقد كان لقاء بين شخصين امتحنهما القدر، وها هو يجمع بينهما ليبلسما معا الجراح التي أثخنتهما بها الحياة.
هل يريد “بزيد” أن تدفع هي ثمن الأخطاء التي ارتكبتها زوجته السابقة؟ أم أنه لم يعد بإمكانه أن يمنح ثقته لامرأة أيا كانت؟ لن تستسلم أبدا! ولن تتخلى عنه كذلك! هذه المرة تريد أن تبقى متزوجة إلى الأبد. ستعرف كيف توقظ ثقته وتكسبها، وكيف تجعله يغير سلوكه. لقد حلفت يمينا على ذلك. ستكون “سلم” مقنعة بالقدر الذي يبرهن له على أن من يسلكن سلوك زوجته الأولى قليلات، وبذلك تجعله يتصالح مع جنس النساء.
-“تفكرين في أي شيء، يا “سلم”؟”
-“لا شيء…”
-“ذلك أفضل… عندما بدأت النساء يفكرن بدأت الأرض تدور في الاتجاه الخطأ، وبدأت المصائب تنهال على الرجال. على المرأة أن تترك زوجها يفكر مكانها، وسيكون ذلك أفضل بالنسبة لهما معا.”
حك ذقنه وهو يبدو غارقا في التفكير وقال بصوت خافت، كما لوكان مرغما على الحديث، بينما أحست هي بأن قلبها يعتصر:
-“سأتابع ما كنت أقوله. أما سيارتك فإنه لا يمكنك أن تسوقيها إلا إذا كنت معك، وفي تلك الحالة فأنا من سآخذ المقود، وإلا فماذا سيقول الناس عني؟”
-“الخير يتسابق! قالت “سلم” في نفسها. ولكن كل ذلك سيتغير بإذن الله، يا صديقي. وإلا فما الفائدة من جمالي وفتنتي”؟
مرت شهور عدة دون أن تتحسن الأمور. لقد رتبت غرفة لبنتيها وغمرتها بالألعاب والأدوات الإلكترونية. كست الغرفة بألوان مائلة إلى الحمرة، وبسطت فيها سجادات بألوان أكثر نصاعة. وضبت فيها سريرين، برؤوس معدنية مزينة بأشكال ورود متداخلة مع عناقيد عنب، جديرين بأن يوفرا الراحة لجسمي الطفلتين اللطيفين. وكانت الستائر من قماش “لكريتون” الوردي المزين بالزهور، من أجل إضفاء مسحة من النضارة والبساطة على كل هذه الفخامة الصارخة.
لم تخف حدة طبع زوجها، وقد بدا أنه متبجح ككل الرجال الذين يعانون من نقص في الثقة بالنفس. لقد كان يروي لها قصصا أشبه بالأساطير يكون دائما هو بطلها. ومن ذلك أنه حصل على شهادة من مدرسة عليا للتجارة في باريس، بمعدل جيد جدا، وأن كبريات الشركات تنافست في تقديم العروض له لدى عودته من الدراسة.
وكان أحد أصدقاء “بزيد”، كما صار عليه حال الأصدقاء اليوم، قد حكى لها – بمتعة ملحوظة وبالتفصيل – عن إخفاقات هذا الأخير في دراسته، وأنه قد حصل على شهادته بشق الأنفس، دون أن يتحرج من أن يُسِرَّ لها بأن لـ”بزيد” رواية أخرى حول مساره الدراسي. وبالطبع احتفظت “سلم” لنفسها بهذه الاعترافات الغادرة.
لإدخال السرور على الرجال، يكفي أن ننصت لهم باهتمام، أو أن نبدو كذلك على الأقل، مع ابتسامة إعجاب. يجب أن نبدو وكأننا نتقبل بشجاعة وتصميم كل ما يقولونه، حتى وإن كنا لا نصدق كلمة واحدة منه. يمكننا، ونحن نتصنع الإنصات لهم، أن نفكر في أشياء أخرى إذا كان الحديث مملا. ذلك ما يتجلى من خلاله أن ذكاء المرأة يفوق ذكاء الرجل. إن الرجال كلهم متبجحون ومختالون كالطاووس ولا يتوقفون عن التمظهر بما ليس فيهم، ذلك ما حدثت به “سلم” نفسها.
رغم كل ذلك تمسكت بالصبر.. لم تعارض “بزيد” أبدا بصورة صريحة ولم تفعل ما يمكن أن يُذْكِي غيرته، بل تكتمت دائما على الجراح التي تسببها لها طبيعته الشكّاكة واستفزازاته المتكررة. لقد ظلت متمسكة بطبعها وطبيعتها، ولم تتسبب أبدا في إثارة أو تغذية أي خلاف أو خصام. لقد حرصت على أن تبقى محبة، ومستعدة وخلوقة. لقد كان بيتها دائما نظيفا وموضبا، ومطبخها شهيا ومظهرها أنيقا.
ذات يوم، بينما ذهبت لشراء الخبز، وتأخرت في المتجر تنتظر قدوم من يزوده من الفرن، سمعت صراخا قادما من بيتها.
عادت إلى المنزل تسعى لتفهم فورا سبب الضجة التي حدثت بعدها. لقد عاد “بزيد” في الوقت الذي كانت هي في المتجر، فانتابه غضب جنوني عندما لاحظ أنها ليست في البيت. لقد كان يصرخ بكلمات غير مفهومة، وانقلب على الخادم المسكين الذي دب في قلبه الرعب وحاول الهروب إلى الوراء حتى ارتطم ظهره بالجدار، وستر وجهه بيديه احتماء من ضربة محتملة. “لا تخف يا “الامام”، فإن زوجي ينبح ولكنه لا يعض”. ذلك ما قالته “سلم” في نفسها.
لقد كانت ابنتاها مذعورتين وتصرخان، وكل منهما تحاول أن تحتمي بالأخرى. اندفعت “سلم” نحو الطفلتين وضمتهما عليها حتى هدّأت من روعهما. وبعد أن وجهت نظرة مشحونة باللوم لـ”بزيد”، أخذتهما إلى غرفتهما وأعطت لكل منهما قطعة من الحلوى الحمضية التي تحبانها. غادرتهما بعد أن أخذتا تلعبان بهدوء في إحدى زوايا غرفتهما.
شرحت لـ”بزيد”، الذي انتابه الخجل، أنها خرجت لاقتناء الخبز وأنها تطلب منه أن لا يجعل نفسه، من الآن فصاعدا، في وضعية مثيرة للسخرية أمام الأطفال. أجابها بأنه كان عليها أن تبقى إلى جانب أطفالها وتترك للخدم دور القيام بعملهم.
بعد هذه الحادثة، حرم عليها “بزيد” الخروج من البيت. وفي اليوم الأول بعد الحادثة سألت طباختهم السينغالية “فاتو” بماذا ستعد الغداء. أجابتها بأن رب البيت أخذها في سيارته، قبل أن تستيقظ هي، وذهب بها إلى السوق حيث اشتريا ما يكفي لمؤونة كتيبة بكاملها مدة شهر.
لم يعرف “بزيد” كيف يقدر صبرها الدائم ووفاءها واستعدادها وطاعتها العمياء. لقد أصبحت كمن “يحلب ناقته في الأضاة”. إن كل ما عانته وما تحملته، بكل أناة وهدوء لم يُجْدِ شيئا.
لقد أصبح الوضع خطيرا وميؤوسا منه، وأصبحت هي تحس بالاختناق أكثر فأكثر في هذا السجن الذهبي. لقد أصبح هذا الوضع يؤلمها في جسمها وفي نفسها، وأصبحت تحس أنها صارت تقترب شيئا فشيئا من قاع الهاوية. لم تعد تتذكر منذ متى لم تَرَ والديها. إن والديها متفهمان ومتعاطفان، ورغم أنهما يتألمان لما تعانيه ابنتهما، إلا أنهما لا يستطيعان التدخل ما دامت هي راضية بقدرها. لقد كانا يزورانها من حين لآخر، ولكنهما كانا يتحرجان من الإفراط في هذه الزيارات. أما صديقاتها فقد انقطعن عنها؛ لأنها لم تعد تزورهن، وقد لاحظن أن بزيد ينظر إليهن بعين الريبة والاستثقال كلما قمن بزيارتها.
لقد أصبحت عصبية وتنتفض عند سماع أي صوت. لقد أصبحت تدخن السجائر علبة تلو الأخرى، وطبعا تستخفي بها عن “بزيد”. وعندما اطلع على أنها تدخن تذكر زوجته الأولى، مما أثار خصومة شديدة فقدت معها، وإلى الأبد، كل رغبة في التدخين. لو لم تكن معها ابنتاها، “لاله” و”هدى”، لكانت قد ماتت من الهم والغم والوحدة.
ذات يوم وردت مكالمة هاتفية إلى البيت تخبر بأن والدة “سلم” دخلت المستشفى بسبب أزمة ناجمة عن ارتفاع الضغط.بالطبع، لقد كان “بزيد” هو من تلقى المكالمة، وقد أخبرها بالأمر على مضض، وما كاد يفعل. وخاطبها قائلا:
-“أنا ذاهب الآن إلى هناك. أما أنت فانتظريني هنا، وإياك أن تتحركي”!
صرخت “سلم” وهي تكاد تنفجر: “بل سأذهب معك”.
-“أبدا، لن تذهبي معي! المستشفى مليء بالرجال، الأطباء والممرضين والزوار والمرضى …”
-“لقد أصبح الرجل يغار حتى من المرضى!”، قالت “سلم” في نفسها متهكمة.
خرج مسرعا وهو يصرخ: إذا كان حضورك ضروريا حقا، سأخبرك بذلك!!”.
قالت في نفسها: “لن يكون ذلك!”، وقد بدأت دموع الغضب والحزن تغمر عينيها وتحجب رؤيتها.
لقد كانت البنتان في المدرسة ولن تعودا قبل ساعتين، الأمر الذي يمنحها مهلة من الوقت. أطلت “سلم” من النافذة وقفزت منها. وبما أنها لم تقدر بدقة المسافة التي تفصلها عن الأرض، سقطت بكل ثقلها على قدمها اليمنى التي التوت تحتها. سمعت صوتا فظيعا، كان صوت عظام تتكسر. ولشدة روعها لم يتبادر لذهنها أنها قد أصيبت بكسر في رجلها حتى نبهها ألم فظيع ينبعث من كعبها ويجعلها تتأوه وتئن.
حاولت “سلم” أن تنهض من جديد، ولكنها سقطت وهي تصرخ من شدة الألم. لقد كان قدمها يشكل زاوية غريبة مع ساقها، وانتابها ذعر شديد عندما شاهدت تلك الحالة. تمددت على الأرض وهي تئن مدة نصف ساعة بدت لها وكأنها قرن من الزمن. في تلك الأثناء، حيث فقدت الوعي مرتين من شدة الألم، بدا والدها “محمد” في الأفق وكأنه حلم طالما اختزنته.
توقف “محمد” مقطبا حاجبيه وهو يحاول أن يفهم ما جرى. ثم بدأ يهرول كالمجنون حتى وقف على ابنته وقد تلاحقت أنفاسه، وقال بصوت متقطع:
-“لقد غضبت كما لم أغضب أبدا عندما قدم زوجك وحده إلى المستشفى، وقد أتيت لآخذك معي. ماذا حدث لك ابنتي الحبيبة؟ يا الله، لقد انكسرت ساقك!!”
رفعها بجناحيها وحملها إلى السيارة، في الوقت الذي قصت عليه كل ما جرى، وهي تذرف كل ما في جسمها من دموع وتجهش بالبكاء.
-“اغلانه” لا بأس. لقد خرجت من المستشفى. لم يكن الأمر أكثر من حالة عابرة والحمد لله”.
حمل ابنته إلى المستشفى والسخط يهز وجدانه وقلبه ينفطر لرؤية ابنته في هذه الحالة.
-ستعودين إلى البيت.. لست بحاجة إلى زوج ولا إلى منزل حتى ولو كان قصرا منيفا. إذا كان “بزيد” يرغب فيك عليه أن يتغير كليا، وأن يعاملك كما ينبغي، بل وأفضل مما ينبغي، وإلا فعليه أن يتخلى عنك”.
لم ينتبه والدها، لفرط غضبه، أنه يخاطب ابنته بطريقة يستهجن “البيظان” أن يخاطب بها الأب ابنته.
في المستشفى، سقط الجنين الذي كانت تحمله دون أن تكون على علم بحملها، وذلك وسط ضباب كثيف من الآلام المروعة.
تعافت “سلم” شيئا فشيئا من كسرها ومن إجهاض حملها المبكر. قضت فترة نقاهة هادئة نسبيا، محاطة بوالديها اللذين تمنت لو أنها لم تغادرهما أصلا، ومع بنتيها الصغيرتين، والجميع يحيطونها بكل أنواع الرعاية.
ولكن جرحا غائرا ومؤلما سيبقي في قلبها لمدة طويلة.
لم يجر “بزيد” أي اتصال بهم.. فقد انزوى ليجتر غضبه ومرارته بعيدا عن الأنظار. ثم جاء الخبر المفجع: أُدْخِلَ المستشفى بسبب نوبة حادة من الجنون. لقد أكد الأطباء أنه كان دائما يعاني من هذه الحالة ولكنها لم تبلغ درجة من الحدة تثير الانتباه قبل الآن، وقالوا إن أسبابها قد تعود لطفولته.