تشكُّل الشخصية في رواية “قاع البلد” لصبحي فحماوي/ د. ليندا عبيد
21 مارس 2022، 02:32 صباحًا
جاء في معجم المصطلحات النقديّة “أن الشخصية هي كل مشارك في أحداث الحكاية سلبا أو إيجابا، أمّا من لا يشارك في الحدث، فلا ينتمي إلى الشخصيات، بل يكون جزءا من الوصف، فالشخصية عنصر مصنوع محتاج لكل عناصر الحكاية، فهي تتكوّن من مجموع الكلام الذي يصفها ويصوّر أفعالها، وينقل أفكارها وأقوالها، وليست الشخصية شخصاً، ولا وجود لها خارج عالم الرواية.”([1])
كان النقد التقليدي للرواية يتعامل مع الشخصية على أنّها تعيش معنا في الحياة الدارجة. ونعرف من ذلك أن بناء الشخصية الروائية لابدّ أن ينطلق من مفهوم الشخصية الروائية وفلسفة العلاقة بين الفرد والمجموع، بينما نجدّ النظرة اليوم قد تغيرت، وصار ينظر للشخصية الروائية على أنها وحدة سردية، وهي شخصية من ورق لا تعيش في الواقع.([2]) بمعنى أنّ الشخصية الروائية شخصية خيالية تتحرّك على الورق، ولا تطابق شخصيات الواقع، وإن كانت متقمّصة لخصائص أفراد وطبائع جماعاته، فهي من خلق الروائي وإبداعه.
ونجد مفهوم الشخصية داخل الشعرية الأرسطية مفهوماً ثانوياً، ويخضع كليّا لمفهوم الفعل، وقد نعثر على حكايات بدون طبائع وبدون حكاية، وهي نفس النظرة التي قال بها المنظرون الكلاسيكيون مثل “فوسيوس”. وفيما بعد ستتخذ الشخصية “تماسكا سيكولوجيا وستصير فرداً، شخصاً، ستصير بإيجاز كائناً مكتمل البناء حتى وإن كانت لا تفعل شيئا حتى قبل أن تفكر أن تفعل شيئاً.”([3])
ويتخذ مفهوم الشخصية في الرواية مفهوماً متعدّد الأبعاد، ينتمي بعد منه إلى علم النفس، وآخر إلى علم الاجتماع، وربما ينتمي ثالث إلى اللغة.([4])
وقد دفع هذا الزعم “توما توما تشفسكي” إلى القول: “بأنّ البطل ليس ضروريا، فبإمكان القصة كنسق أن تستغني عنه. ويردّ عليه تودورف: “بأن ذلك متعلّق أكثر بالقصص الخرافية، أو على الأقل بقصص عصر النهضة.”([5])
وتظهر الشخصية في فن الرواية حاملة لسمات إنسانية” أي الشخصية بوصفها كائنا إنسانيا يتواشج داخل النص السردي مع عناصر السرد الأخرى في تكوين المشهد السردي.”([6])
إذ تعتبر الشخصية الروائية العنصر الوحيد الذي تتقاطع عنده كافة العناصر الشكلية الأخرى بما فيها الإحداثات الزمنية والمكانية الضرورية لنمو الخطاب الروائي واطّراده.”([7]) فالشخصية هي القوة المولّدة للأحداث تؤثر فيها، وتتأثر بها ويقول مصطفى الكيلاني: ” لا نبالغ إن اعتبرنا الشخصية أهم عنصر في البنية الروائية لأنها شبكة علاقات تمتدّ عبر الفضاء الروائي لترتبط الأشياء ببعضها البعض.”([8]) إنّ الشخصية تشكّل اللحمة لعناصر القصة، ومنشأ الترابط بينها، وتقوم بوظائف متعدّدة، وكلّ هذا تؤديه في مستويات مختلفة وبطرائق متنوعة. فالروائي هو المبدع الخلاق القادر على تشكيل عالمه الروائي، بما فيه من كائنات متحركة وجمادات تتفاعل فيما بينها، وتتنامى وفق حركة التتابع الزمني، أو تشظيه وانكساراته استرجاعا أو حاضراً أو استشرافا. ومن هنا، تأتي براعة الروائي في أن “يقيم علاقات منطقية متلاحمة بين وجود الشخصية المظهري والباطني، وبين السياق الإيديولوجي الذي يندرج فيه ذلك الوجود، فالسمات المظهرية أو النفسية للشخصية سواء كانت دقيقة أو إجمالية”([9]).
ويميل بعض الروائيين إلى تشكيل الشخصيات بأدق تفاصيلها، وهناك من يحجب عن الشخصية كل وصف مظهري، وهناك من يقدّم شخصياته بشكل مباشر، وذلك عندما يخبرنا عن طبائعها وأوصافها.”([10])
ويرى “جيرار جينت” أنّ التغيّر الذي أصاب الرواية شأنه شأن غيرها، مما يخضع لسنة التطور الزمني والحضاري. وقد طال تشكيل الشخصيات وبنائها، أيضا، فهي لا تتردّد “في أن تقيم بين السارد والشخصيات علاقة متغيرة أو عائمة دوخة ضمائر مسندة إلى منطق أكثر حرية، والى فكرة أكثر تقصيّاً عن الشخصية … بسبب أن النعوت الكلاسيكية للشخصية قد اختفت منها.”([11])
وفيما يتعلّق بالرواية العربية، فقد كانت خاضعة في بداياتها لمفهوم الشخصية المتمثّل بمفهوم البطل الكلاسيكي المثال في أوصافه إلى أن بدأت هذه الفكرة تتلاشى، ويتسع مفهوم الشخصية، وتتعدّد أنواعها ومدلولاتها ووظائفها، فالمثقف المعاصر مختلف عن المثقف الكلاسيكي، فإنّه لا يتفق مع سلفه في النظرة إلى البطولة، فالبطل الجديد بطل ليس له من البطولة سوى اسمها، فالبطل المعاصر في الرواية إنسان عادي، ولم يعد حاملاً لفضائل متفرّدة عن بقية الناس نتيجة للتغيّر في ملامح المجتمع، وظروفه الواقعية فظهر في الراوية بطل ضد لا ينفلت حاضرة عن ماضيه، إذ يتمازج حاضر الشخصية مع ماضيها بصورة تصادمية، لأنها لا تستطيع ألمواءمة بين حاضر مشوه، وبين ماض جاء إلى هذا الحاضر، فينطلق الإحساس بالإحباط والعجز الشخصية، مما يقودنا إلى فعل عاجز رغم تصورها لفعاليتها، فيتسبب بموتها أو بغرقها في مزيد من التيه والعذابات، ويشكل البطل في رواية “قاع البلد” من خلال صوته، وصوت الشخصية الأخرى الممثلة بالطالب الأزهري، وعبر حركته في فضاء محموم للهامشيين والمقهورين، مما يضيء جوانب الفهم ليواطن هذه الشخصية المحورية المنهكة.
وبمساندة التقنيات السردية المتنوعة مثل الحوار والمونوج داخل حركتي الزمان الماضية وإلى فترة، لتلتقي خيانات الماضي وإرهاصاته وأوجاعه مع خيانات الحاضر وفجيعته، وانعكاس كل ذلك على دواخل الشخصية ومكبوتاته، وسلوكاتها. فتتضافر عناصر السرد معاً لتشكيل هذه الشخصية التي تشكل انعكاسًا لما يحدث في الواقع العربي المعاصر من حزائم وتراجع وإحباطات.
تقدم الرواية الملامح الشكلية للشخصية الروائية وصولاً إلى تجلية دواخلها السيكولوجية وطبائعها، ومكبوتاتها وانكساراتها وأوجاعها،” فاجأني الهربيد بصوته المدوي، وبشكله ذي الطول الفارع والشعر الطويل الغزير المطعم سواده بشيب يتبدى منسابا بين ثنايا جديلة مربوطة خلف رأسه يتركها تتدلى طويلاً حتى منتصف ظهره…. والهربيد يستفز النائم كله ليقف مثل مسمار ممغنط ([12]) فالهربيد رجل عجيب بارع بالقص، يمثل صورة المثقف الفلسطيني في إحدى صوره؛ إذ كان في ماضيه منكباً على القراءة، يعمل في بيت لحم بدكان للكتب ومتابعا للأحداث السياسية مثل عين راصدة تبرع بنقل كل ما يحدث حولها من أحداث وتفاصيل.
وتطل مرجعياته الثقافية من قدرته على القص المشوق، ومن جمله المنسجمة المتتابعة، ومن استشهاده بأبيات لا مرئ القيس، ولسان الدين بن الخطيب وغيرهم، ومن متابعته لأحداث ما بعد الحرب كأخبار الفدائيين والثوار والمشردين، وأولئك الذين قاموا على أنقاض معاناة الناس وتهجيرهم، “هذا ما قرأته بكتب الفلسفة وعلم النفس في بيت لحم، ولو أنني وظفت الكتب التي قرأتها في الدراسات الجامعية لحصلت على شهادة الدكتوراه”([13]).
وتتجلى شخصية الهربيد داخل البناء الروائي ضمن ثلاثة إئزامات متداخلة:
أولاً: خيانة الأم …ثانياً: فجيعة موت الأب
ثالثاً: الغياب عن الفضاء المكاني، والتهجير القسري، ومحنةالاغتراب.
إن البطل يعاني إئزاما وانكساراً يشعره بالهزيمة التي تشكل انعكاساً لمعاناة كل مثقف عربي واعٍ لفجيعة ما يحدث، ولمعاناة الفلسطيني على وجه الخصوص، ويأتي الائتزام الأول ممثلاً بتعلق البطل بأبيه؛ فوالده راع طيب حنون يغرق في بركة وحلّ رملي متحرك أمام إحساس الابن بالعجز عن مساعدته وانقاذه ، فيصير محملاً بكبت ونكوص مستمر الى الماضي وبالتحديد إلى هذه اللحظة التي شكلت ضعفه وهزيمته الأولى، يقول: “فغاصت رجلاه بالطين، ما يزال أبي يتخبط في اللزوجة، يحاول أن يرفع رجله اليمنى فتغوص اليسرى تحت ثقل جسده، ويستعين بالأخرى فتنزل تحت الأولى، يبدو أنها تهبط إلى قرار سحيق، الطين الرملي يمسك برجليّ العجوز مثل شفاطة، أقترب منه متورطاً فيتقرب أبي نازلاً إلى بئر عميق، أسحب رجليّ إلى الخلف بقوة لأنقذ روحي من الغرق… أبحث عن غصن لأمده إليه… لم يبق ظاهراً من جسده سوى يديه، روحي تتمطط من جسدي لتصل إلى وسط البركة الطينية الرمادية الماء المعكور ولا تصل إلى روح أبي” ([14]).
ويطل هذا المشهد ضمن أجواء نابضة بالفجيعة، وصوت نداء الابن لأبيه، لتظل هذه الحادثة فجيعة الابن الأولى التي مهدت وأرخت لفجيعته الأخرى الممثلة بالتهجير القسري، وانتهاء بخيانة الأم وفجيعتها، “بهذه المدينة الكبيرة الواسعة ينغل الناس مثل النمل خاصة في أعوام التهجير الفلسطيني القسري ([15]).
وتأتي الأزمة النفسية الثانية بتوجه القص إلى فجيعة خسارة الأم وتشوّه صورتها، رغم كونها ينبغي أن تمثل التعلق الطفولي الأول للطفل، وأن تشكل البديل والقوة في حال غياب الأب، وأن تكون رحما ووطناً بديلاً وفضاء تذوب داخله كل العذابات والانكسارات.
وقد كان الطفل متعلقاً بأمه منذ طفولته، يختزن ملامحها الشكلية ويحفظها، ويحفظ طبائعها النفسية والسلوكية؛ فقد كانت مثل فرس جامحة، ويطل شبقها من تعلقها بأغنامها في وقت الهداد إذ تنتشي برائحة الغنم والمراعي، وتتعالى ضحكاتها الصاخبة رغم نهر الأب المستمر لها، وانتهاء بحادثة اختفائها ضمن أجواء سردية يشعر الابن من خلالها أنها كانت تخطط مسبقاً للهرب مع تاجر الحلال الذي أعجب بضحكاتها الصاخبة، وما توحي به من جموح وشبق، والتي كانتتعلو حين كان يأتي لزيارتهم فجعل الابن منها معادلاً لزمن الخيانات والوجع، فيصفها مرة بالخائنة، ومة يصف الزمن الذي دفعها لفعل ذلك بالخائن.
يقول: “كانت أمي زينة امرأة جميلة، وكان اسمها مكتوباً على جسمها، طويلة بيضاء لدرجة أنها كانت زهرية القوام، عيناها زرقاوان كلون البحر، متوسطة امتلاء الجسد، هي لا تسمن نظراً لحركتها الدؤوب، وتنتشي بشم رائحة أغنامها، وكأنها نعجة تشم رائحة شبق الأكباش في موسم الإعشار، كانت تسير بين أغنامها، وتأخذ شهيقاً وزفيراً، فيمتلئ صدرها برائحة هداد فحولها الزنخة “([16])”
وتأتي فجيعة الخيانة الأولى، بما تمثله صورة الأم من وطن، ومن تعلق الابن بها، فالابن يلاحق كلامها، وحركاتها، ويحفظ كل تفاصيلها من شدة حبه لها، فتأتي الفجيعة متضخمة وفق مقدار الحب.
“كنت أحبها وأنا طفل مثل مغزل الصوف، وتشبه في سيرها تطريزاً من النور كنت أحب أمي كثيراً… هي السموات والأرض بالنسبة إلي. أما بعد الهجرة صرت أشعر أن حبها للعمل ولذلك الزائر الغريب ليلهيها… ترى هل كانت أمي زينة تريد أن تتحوصل وتختفي من الحياة بعد تهجير النكسة” ([17]).
ويقول الطالب الأزهري:” شعرت أن المسكين يصف جماليات أمه المهزومة بالتهجير والشتات” ([18]).
فالتهجير هو مكمن الوجع، ويلتمس الابن لأمه غدر خيانتها له،ويربط بين تخليها وخيانتها وغيابها وبين التهجير ومعاناة الفقر والاغتراب. فيواصل وصف أمه ويقول:” كانت ضحكاتك تجلجل في المكان، فأنت تصهلين مثل مهرة منفلتة من لجامها، لم أكن أفهم لم كل ذلك الفرح لحضور الأعرابي” ([19]).
فالابن نتاج لأم متمردة جامحة تقف مقابل أب متعايش يعتني بأغنامه ومسالم يضحي بحياته من أجل ما يحب، ويموت ميتة مفجعة ظلت تلاحق الصغير وتشعره بالعجز الذي يقابل عجز المثقف العربي أمام فجيعة الهزيمة وضياع الوطن.
والابن المتعلق بأمه لا يسامحها رغم سرده لمسوغات تبرر فعلتها من مثل بقائها بلا زوج ولا مصروف ولا أغنام بفعل الشتات فيقول:” أنها ليست خائنة بل ألذ من هو الخائن ([20])