منزل الملائكة تأليف: نادية لوبيث غارثيا (المكسيك) ترجمة: سيدي صالح الإدريسي
كنت أبلغ العاشرة من عمري، عندما سافروا بي للتعرف على العاصمة الفيدرالية. كنت غِراً في تلك الفترة، إلا أني أعرف حارتي، سان خيرونيمو كاليراس، أجمل حارات بويبلا. أعرفها بكاملها تقريباً، بفضل ميلي للتسكع حينها. كان حي كاليراس صغيراً جداً في سنة 1965. وكان سكانه متعارفون فيما بينهم؛ فيمكن أن يُعرف بسهولة من اشترى الحلويات لوجبة الإفطار، وذاك الذي اشترى الخبز الأبيض. من ذهب لقداس الساعة التاسعة، وذاك الذي ذهب لقداس الساعة الحادية عشر. لقد كنت أعرف ذلك الحي مثلما أعرف راحة يدي. حتى أن أمي عندما كانت تقول لي أننا سنذهب للسكن لبعض الوقت في مدينة المكسيك، وأنها مدينة كبيرة، كان يتملكني شعور بالخوف من الضياع، ممزوجا بشوق لما سأكتشفه هناك. بعد أيام من وصولنا لمدينة المكسيك، وجدنا مجمعا سكنيا في مركز المدينة نعيش فيه لبعض الوقت.
لزمني في الأيام الأولى البقاء في الغرفة منتظراً، حتى تنهي أمي تسوية بعض الشؤون التي لها علاقة بزواجها السابق. ودائما ما كانت تتحدث عن الحصول على تعويضات وأموال في المستقبل. ظننت أني سأموت كمداً بعد عدة أشهر من اكتشاف كل شق، وكل جدار شائه، وكل نملة تتحرك في المطبخ، وبعد مللي من رؤية البنايات والمنازل والأشخاص الذين يظهرون من الجانب الآخر للنافذة. تملكتني رغبة جامحة للعودة لبويبلا. أشفقت علي أمي في تلك الأيام، وقالت لي أن أذهب مع رولاندو، جارنا، للتجول معه على الدراجة الهوائية التي تجر ورائها عربة، يؤكد رونالدو أنها قادرة على حمل الأسمن من نساء المجمع السكني. لذا كنا نستطيع التجول بدون مشاكل في مركز المدينة على متن الغاضبة كما يسمي دراجته تحبيباً. لم أركب قط دراجة هوائية، وفوق هذه العربة، التي تجعلنا نرى المنازل و المارين كما لو أنهم بمحاذاتنا، وكل وسط المدينة يتحرك وفقا لوتيرة سرعة تدويس رولاندو لعجلات دراجته.
أتذكر أننا ما إن وصلنا للكاتدرائية حتى سمعنا أصواتا قوية، فتتبعنا مصدرها، ورغم أن العتمة كانت تغلف المكان، إلا أن الفضول كان أكبر، فتقدمنا للأمام ورأينا حشدا من الناس جانب الكنيسة الكبيرة، متجمعاً ويشاهد بإمعان شاشة حائطية ضخمة، تُعْكَسُ عليها صور ذات حجم كبير. قال رولاندو أن هذا سينما الشارع الذي يقام بين الفينة والأخرى. يُرَى في الشاشة مدخل منزل كبير، رُكِّبَ على بابه ذي اللون الأزرق تمثاليْ ملاَكينِ.
ظهر فجأة رجل يحمل سكينا في يده يجري خلف رجل آخر. لم أر في السابق شاشة أكبر ولا أشخاصا بذلك الحجم. أحسست بخوف شديد وبالأخص عندما رأيت ذلك السمين المرتدي بذلة عسكرية، بعد أن طارد الرجل الآخر في ممر طويل جدا قبل أن يفر هذا هاربا عبر نافذة، دخل غاضبا لغرفة كانت تنام فيها امرأة، وعند رؤيتها غرز فيها السكين مرات عديدة. لم أستطع تجنب إغلاق عيني والتشبث بساق رولاندو الذي كان واقفا -متسمرا في مكانه- وماسكا بدراجته. عندما فتحت عيني كان وجه السيدة التي قُتلت مُثَبَّتا على الشاشة وتعرفت عليها للتو. فبدأت أصرخ: إنها كولاشيون، إنها كولاشيون. “إنها السيدة كولاشيون”، قلت لرولاندو؛ “إنها تعيش في بويبلا”. قال لي رولاندو أني مجنون، فأنا لا أستطيع معرفة تلك السيدة، فهي فنانة وأنا لا أعرف الفنانات، وفي كل الأحوال فهن لا يعشن في بويبلا بل في المدينة. استقل دراجته وقال لي أن من الأفضل أن نغادر لأن الوقت تأخر. ركبت عربة دراجة رولاندو. كنت أستحضر في رأسي طوال الطريق وجه السيدة كولاشيون وهي ميتة. وما إن وصلت المنزل حتى طفقت جريا نحو بيتنا وطرقت الباب بقوة شديدة، وما إن فتحته أمي حتى قلت لها أني رأيت كيف قتلوا السيدة كولاشيون، وأنهم عرضوا ذلك في شريط في سينما الشارع. قالت لي أمي أيضا أني مجنون، فهم لا يستطيعون قتلها، لأنها إحدى زوجات الجنرال، وهؤلاء لا يمكن الاقتراب منهن. لم يساورني شك فيما رأيت، لأني شاهدته بأم عيني، ومن المؤكد أن قاتل المرأة، الرجل الثخين المرتدي بزة عسكرية، هو نفسه الجنرال الذي تحدثت عنه أمي. سألتُ أمي إن كانت السيدة كولاشيون فنانة وتمثل أدوارا في الأفلام، وقالت أنها ليست كذلك. فقلت لها: “إذن لقد قتلوها”.
وبختني وقالت لي أن أتخلى عن اختراع أشياء من السهل أن تقع لي ولها، لا أن تقع لعشيقة الجنرال. لقد كنت متيقناً من أنهم قتلوها، كما أن واجهة المنزل التي رأيتها في الفيلم هي نفسها واجهة منزل السيدة كولاشيون؛ واجهة مركبة من باب أزرق وملاكين عاريين بأجنحة كبيرة جدا، كل منهما في جانب من جانبيْ المدخل. وكيف لأحد أن يعرف هذه التفاصيل أكثر مني؟. أنا الذي تسكعت في سان خيرونيمي كاليراس بكامله. فلا أحد يمكنه نزع ذلك من رأسي. تلقت أمي التعويض أخيرا، بعد ما يقارب السنة من إيداعها طلبا بذلك. وسلمنا البيت الذي اكتريناه في المكسيك. كان أول أمر فعلته حال عودتنا لبويبلا، هو أني ذهبت مسرعاً لا ألوي على شيء نحو منزل السيدة كولاشيون لأعاين الواجهة. لقد كانت هي نفسها. وعندما عدت حيث كانت أمي، وجدتها تتحدث مع بعض السيدات لإخبارها بكل ما جرى في غيابها. وما إن دخلت المنزل، حتى قامت أمي من الكرسي وقالت واقفةٌ: يا إلهي؛ نعم، لقد قتلوا السيدة كولاشيون. وقد حكوا أن الجنرال نفسه هو الذي قتلها طعنا مرات عديدة عندما كانت نائمة. قالت الجارات أن هذا هو الشيء الوحيد الذي عرفنه عن الحادثة. فعلى الرغم من التحريات مع الجنود وجيران كولاشيون، بل أيضا على الرغم من أن لا شيء يخفى في حارة سان خيرونيمي، إلا أنهن لم يعرفن ما حدث بالضبط. حكيت للجميع أني رأيت، هناك في مدينة المكسيك في شاشة عملاقة، كيف قتلوا تلك السيدة. وحكيت لهم كيف رأيتهم يطعنونها بالسكين، كما تحدثت لهم عن الملائكة في باب المنزل. لم يصدق أحد ما كنت أحكي، ولم أصر عليه بعد ذلك أبدا، لأن أمي قالت لي أن لا أكرر الحديث عن القصة نفسها، وإلا سيبدأ الناس بالقول أني مجنون، أو أني شخص شرير أخترع قصصا من وحي خيالي عن المسكينة كولاشيون. نسيت الأمر كليا، إلا أني أحجمت عن مشاهدة الأفلام منذ ذلك الوقت.
إنها رهيبة، فيمكن أن يقع، بمجرد رؤيتها، أمر مماثل لحادثة السيدة. كانت تلكم قصة أبي. كان يحكي تلك القصة دائما عندما نطلب منه السماح لنا بالذهاب للسينما، بل وحتى عندما نخبره أن إحدى صديقاتنا ذهبت لمشاهدة فليم ما. كان يعتقد دوما أن الذين ينتجون الأفلام يتكهنون بوقوع مأساة ما، والأدهى من ذلك أنهم يخترعون المصائب لتكون موضوعا لأفلامهم. لم ينس أبي السيدة كولاشيون أبدا. لقد تحولت السينما، بسبب تلك القصة، لأسطورة ولغز بالنسبة لي، لشيء ممنوع رغبت في ولوجه. الأمر الذي لا يمكن تصديقه، هو أني بلغت سن السادسة عشر دون أن أشاهد فيلما قط. فأبي جعلني أقسم، أنا وأخواتي، بأن لا نذهب البتة لمشاهدة الأفلام احتراما له. قال أنه يعرف أن السينما هي شر محض، وليست سوى أناسا يمارسون القتل المجاني ليكون موضوعا لأفلامهم بعد ذلك. كنت أعتقد أن أبي هو الكائن الأكثر قسوة، فهو يتلذذ بتعذيبنا، وحكي أكاذيبه لجعلنا نقسم بأن لا نذهب أبدا للسينما. لم أعد أتحمل أكثر من ذلك، فقررت أن أذهب للسينما لمعرفة هذا الشيء الذي يصر والدي إصرارا على منعنا من الذهاب إليه. فذهبت. منذ تلك اللحظة تحولت السينما لهوايتي الفضلى. فدرست الإنتاج السينمائي، ونسيت قصة أبي، الذي تخلى عن التحدث معي عن التخصص الذي أخترته. وأنا بدوري تركت التحدث معه عن أكاذيبه ومخاوف طفولته. أحاول اليوم كتابة هذه السطور من حاسوب خاص بالمركز السينمائي الوطني. وبعد ثلاثة أيام من انخراطي في المركز بصفة منتجة منفذة، وجدت ملفا بعنوان: أشرطة مُنتَجة في بويبلا سنوات 60-70، وتحت هذا العنوان توضيحا يقول: التجارب الأولى، سينما واقعية. داخل الملف رأيت أوراقا تتحدث عن بناء سيناريوهات تسعى لأن تكون مضامين الأشرطة واقعية، من خلال خلق وضعيات تمثل فيها شخصيات متعددة أدوارا دون أن تكون على علم بذلك. يحتوي الملف على العديد من السيناريوهات، أثار انتباهي منها السيناريو التالي: سيناريو :بويبلا. منزل الملائكة 15.- داخل/منزل/مساء/امرأة / ممثل ذكر/رجل/سكين المشهد: منزل كبير يوجد على بابه ملائكة. ممثل جالس في الصالة، ينتطر وصول الرجل. يرتجل الممثل حركاته بشكل يتمكن من خلاله من الهرب عبر النافذة المفتوحة […] اا
من صفحة المترجم على الفيسبوك