بعد أن أصبحتُ اسماً معروفاً،دُعيت إلى برنامج حوار مع مذيعة أنيقة لا تغادر الابتسامة شفتيها،قدّمت الحلقة بطريقة فيها الكثير من التحبُّب والمكر، قالت:
– كتاباتك قرأناها وأعجبنا بها،وجمهورنا ينتابه الفضول في العادة حول الحياة الشخصية، ونحن لا خيار لنا سوى أن نُلبّي رغبة جمهورنا، أرجو أن لا يزعجك ذلك:
– إسألي ما شئت فلن أتحرّج من الإجابة على أي سؤال!
لنبدأ إذن بالسؤال الأصعب:
– ما رأيك في مشاركة الرجل في أعمال البيت، الغسيل الطبخ الكنس، هل ترى في ذلك أية غضاضة أو انتقاص للرجولة؟
– لقد ضربتِ على الوتر الحسّاس،إسمعي إذن هذه الحكاية:
في طفولتنا،أنا وإخوتي ، مرِضت أمّي بشدّة، ومكثت في المستسفى قرابة شهر، وجاءت عمتي في تلك الأثناء لرعايتنا والقيام بشؤوننا، وحتى أختصر الوصف فقد كانت عمتي سلحفاة مقارنة بأمي شعلة النشاط و كرة اللهب المتدحرجة، ولم تكن عمتي تتردد في إصدار الأوامر لنا وتكليفنا بهذا العمل أو ذاك، لتوفّر جهدها..
تقاطعني المذيعة قافزة إلى الإستنتاج:
– وهكذا تعودتم على أعمال البيت ولم تعودوا تجدون في ذلك أية غضاضة..
– لا يا سيدتي لقد تسرّعت قليلاً! لم تسر الأمر على هذا النحو أبداً، فقد كنا نقوم بالأعمال المسندة إلينا متثاقلين كارهين ولولا الأدب والاحترام كنّا لنلعن عمّتي..
تقاطعني المذيعة مرّةً أخرى:
– حدث العكس إذن! كرهتم أعمال المنزل وتشكّلت لديكم عقدة، ومن يومها لم تطيقوا أن تغسلوا حتى طبقاً واحدا..
تتضاحك المذيعة وتترك لي الإجابة:
– لا ولا هذي يا سيدتي!
فما حدث فعلاً أن والدتي عادت إلى المنزل، كانت واهنة وامتلأت قلوبنا إشفاقاً وحزناً وتطوعنا للقيام بكل أعمال المنزل، خشية أن يعاودها المرض وتفارقنا مرّة أخرى!
وهنا توقفت وضممت أطراف أصابعي ورفعتها مشيراً للمذيعة أن تتمهل ولا تقاطعني هذه المرّة حتى أُكمل، وهزّت رأسها علامة الموافقة وتابعتُ أنا حديثي:
المهم أن والدتي استعادت عافيتها وشرعت في القيام بأعمال المنزل، مانعة إيانا من القيام بأي عمل ومعلنة بمرح ورضا:
-بيكفي اهتموا بدروسكم ..كفّيتم ووفّيتم.
ولكن ذلك لم يكن كافياً لردعنا، وظلت الخشية والخوف عليها ساكنةً في قلوبنا، فبدأنا بالتوسل والرجاء أن تسمح لنا بمساعدتها، وبعد إلحاحٍ طويل وافقت، ولا تتخيلين حضرتك مدى سعادتنا وسرورنا..
البداية كانت من شطف اي غسل الفناء وكنا نسميه الحوش، وكان به حوض نباتات،زهور وبقدونس وريحان وهكذا، توزعنا العمل وأوكلت إلي مهمة سقاية النباتات، ولا تتخيلين كم كنت سعيداً وأٌنا أسلّط عليها خرطوم الماء ويسمونه البربيش، فتفوح روائحها الزكية مختلطة برائحة التراب.
في المطبخ أيضاً توزعنا المهام..أنت إدعك بالليفة، وأنا أغسل بالماء، وأنت تجففين، وكانت هذه أختي الصغرى فوكلنا إليها المهمة الأسهل..لقد دخل المرح إلى حياتنا، ونحن نتنادى ونصدر لبعضنا التوجيهات ونسرع لنجدة بعضنا البعض
تصغي المذيعة باهتمام واستمتاع دون أن تقاطعني:
– ظلت الأمور على حالها إلى أن قسم الله لي الزواج.. توقفت قليلاً قبل أن أردف:
وهنا كانت المفاجاة الكبرى، أول غارة لي على المطبخ باتجاه كومة الصحون صُدّت بعنف من قبل عروسي الجديدة والتي أوقفتني دون تحفظ وأعلنت بالصوت العالي متوددة بضحكة لتلطيف الأجواء وإبقائها في إطار المزاح الذي يقصد به الجد: مطبخي مملكتي.. وهو محرّم عليك إلى يوم القيامة وقس على ذلك كل أعمال البيت.. هذه متعتي فلا تشاركني فيها أرجوك، ثم ثنّت ضاحكة: أحب أن أؤدي كل شيء على أكمل وجه ولا أظنكم الرجال قادرين على ذلك… صوّبتُ نظري إلى المذيعة خاتماً الحكاية:
– هذه قصة حياتي يا سيدتي.. فما رأيكِ!
هزّت رأسها في عجب وأفضت معقّبة:
– لقد فاجأتني..كنت أتوقع سجالاً حامياً،فرجالنا يأنفون من فكرة المشاركة في الأعمال المنزلية.. ولكنك حقيقة أمتعتنا وأضفيت بعداً إنسانياً يغيب عن بالنا حقاً إبان مناقشة قضايانا ونحن نشكر حضورك كثيراً..أتحفتنا وشرّفتنا بحضورك!
خرجت من الاستوديو وقلبي ممتليء بالحنين لتلك الأيام الرغيدة السعيدة، التي رحلت ولم تُبقِ لنا إلا جمال الذكرى!