في مجال الدراسات الأدبية للنصوص ، قديمها وحديثها فكانت المقاربة وفق مناهج عديدة ، ولكل منهج آلياته الاجرائية ، ومنطلقاته الفكرية ، ومفاهيمه النظرية ، وإن دل ذلك على شيئ إنما يدل على أنّ النص الأدبي يتوافر على إمكانيات لغوية وتعبيرية دسمة تغري الاقبال عليه لتقصي ظواهره وقيمه الفنية ، فما هو أنسب منهج متبع في هذه المقاربة ؟ .
قد وقع إختياري على الأسلوبية لما لها من رؤية عميقة للنص الأدبي حيث تتناوله بلاغيا وجماليا ودلاليا كما ترمي إلى تخليص النص الأدبي من الأحكام المعيارية ، وبعد الإطلاع على قصيدة ” الكميت الأسدي ” ، وجدت ما كنت أصبوا إليه .
سألج إلى تطبيق أهم الآليات الاجرائية ، والتي أقرها الدارسون ، ومن أبرزهم جعفر العلاق في كتابه ” في تحليل الخطاب الشعري “، إذ تتمثل هذه المستويات في (الصوتي / التركيبي / الدلالي )
: المستوى الصوتي 1/
قبل دراسة البنية الصوتية سأشير إلى شكل القصيدة ، بحيث جاءت على شاكلة القصيدة العربية الماضاوية معتمدة على نظام الشطرين ( صدر / عجز ) ، مكونة من (13) بيت ، خالية من أي مواشجة عروضية .
إن إستثمار المستوى الصوتي باعتباره أحد أهم الأشكال الشعرية ، وحتى نحقق مقاربة ناجحة وجب ربط الصوت بالدلالة ، أي أن البحث هنا سيكون عبارة عن ( بنية صوتية دلالية ) ، ولقد نبه كوهن على ضرورة ماسماه بالنظم ” والذي لايعد حلية زائدة أو خارجة عن الشعر ، بل عده متمركزا في الصوت ، بل نظر إليه على أنه بنية صوتية دلالية “1 ، كما يتحقق التكرار بوصفه سمة أسلوبية فثمة تكرار على مستوى (الكلمة / الجملة / الفونيم ) والذي يحقق هذا الأخير نغما على مستوى القوافي على سبيل المثال ، ورصد التجانس بين الصوت والقافية التي يمكن أن تكون محملة بقرابة دلالية ونجد قوافي تتحقق فيها هذه القرابة على مستوى الصوت والدلالة ، لنأخذ قول الشاعر في هذا المقطع :
خَفَضتُ لَهُم مِنّي جَنَاحَي مَوَدَّةٍ إلى كَنَفٍ عِطفَاهُ أهلٌ
2/ المستوى التركيبي :
سأعنى في هذا المستوى بدراسة البنى التركيبية في هذه القصيدة ، عبر ما يسمى بالوصل ، وأيضا عن طريق البحث عن جماليات التركيب عبر مايسمى بالحذف أو الإختزال ، وجملة الإنزياحات déviation ، وغيرها من الآليات التي تساهم في خلق التراكيب الأسلوبية ، وكشف باطن النص عن طريق ألفاظ بلاغية وأخرى نحوية ، ومن هنا يمكن إيثار التساؤل التالي :
كيف يمكن أن تتضافر البنى الأسلوبية ؟
لنتأمل قول شاعر الهاشمين :
طَرِبتُ وما شَوقاً إلى البِيضِ أَطرَبُ ولاَ لَعِبَاً أذُو الشَّيبِ يَلعَبُ
ولم يُلهِنِي دارٌ ولا رَسمُ مَنزِلٍ ولم يَتَطَرَّبنِي بَنضانٌ مُخَضَّبُ
من خلال هذا المقطع والمتكون من (5) أبيات ، نجد أن الشاعر إستخدم تقنية الوصل ، والتي تحدث عنها كوهن بأنه يتحقق الوصل في صورته الطبيعية عبر أداة الربط التركيبية “2 ، والوصل هنا بين الأبيات قد تحقق عن طريق حرف العطف ” الواو ” ، ليعبر عن تضافر القصيدة فيما بينها ، والملاحظ لهذه الأدوات أنها جاءت مقرونة بحروف نفي ونهي متمثلة في ( لم/ لا ) ، فقد ساهمت هذه الأدوات في تحقيق نفي ونهي على مستوى السياق والذي غرضه العتاب .
كما إستخدم الشاعر في هذا المقطع ضمير المتكلم ( أنا ) والذي يبرز ذاتية الشاعر وحضوره ، وفي باقي القصيدة برزت ذاتيته من خلال ضمائر متمثلة في حرف الياء العائدة عليه ( خفظت لهم جناحي / فما ساءني …) ، فدل هذا على بذور الخطاب ، فهو يوجه كلامه الى بني هاشم أهل الرسول عليه السلام في قوله ( بني هاشم ) فهي لفظة تدل على توجيه الخطاب.
ولا ننسى أيضا تقنية الإسترسال أو الاستطراد التي وضفها الشاعر عن طريق تقنية الوصف الذي حملته القصيدة .
ومن بين السمات الأسلوبية المهمة نجد الإنزياح déviation ، والذي وصفه كوهن بالإنقطاع ” المتمثل في وصل فكرتين لا تتوفران على أية علاقة منطقية بينهما ” 3، ويظهر ذلك في البيت التالي :
خَفَضتُ لَهُم مِنّي جَنَاحَي مَوَدَّةٍ إلى كَنَفٍ عِطفَاهُ أهلٌ وَمَرحَبُ
فقد أسند الشاعر لفظة الجناح وربطها بالمودة والتي تمثل شيئا معنويا ، فمن غير المنطقي أن يكون الجناح مودة ؟ فالجناح عادة مايكون مقرونا بالطائر أو الطائرة ، وهنا الشاعر قرنه بلفظة محسوسة لا يمكن تجسيدها ( غير ملموسة ) ، وهذا ماجعل اللفظة تتجاوز معناها المعجمي الوارد في لسان العرب ، إلى معنى غير منطقي إفتراضي .
كما وظف الشاعر تقنيات تساهم في تضافر البنى تركبيا ، كتوظيفه للاستفهام في قوله :
مما لا شك فيه أن لكل شاعر معجمه اللغوي الخاص به ، والذي يميزه عن بقية الشعراء وهذه النظرة تعد نظرة خاصة ، بحيث أن اللغة هي التي تسهم في تكوين الرؤى ، أي أن الالفاظ هي التي تكون العلائق الدلالية ، التي من شأنها أن تكون مكنونه الداخلي ، وإذا كان فرضية السياق ينبني على ما لايتوقع فإن ثمة فرضية أو خصيصة أخرى تعتمد على تحويل الدلالة ، ويمكن أن تتمثل في كيفية إختيار الكلمات ، لنأخذ مثلا لفظة ” طربت ” ، لاشك أن هذه اللفظة المعجمية هي نفسها التي تعني الابتهاج، وقد نقلها الشاعر دون محاولة في تغير مضمونها الصريح الذي يؤديه الطرب المقترن بالفرح ، فالشاعر أمامه جملة من الاقتراحات ( إِبْتِهاج , إِرْتِيَاح , إِغْتِبَاط , إِنْشاد , إِنْشِراح , إِنْشِرَاح , بَشَاشَة , بَهْجَة , تَرْتِيل , تَرْنِيم , تَغْريد , تَغْرِيد , تَهَلُّل , جَذَل , حُبُور ) ، فلماذا إختار هذه اللفظة ؟
هنا نقول أن الشاعر إختار هذه اللفظة اللسانية لأنها مناسبة ، على مستوى الإختيار الافقي والعمودي .
المصادر:
1/ جان كوهن ، بنية اللغة الشعرية ، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري ، دار توبقال للنشر ، المفرت1986 ، ص52