الرواية العربية موضوعا للدراسات الثقافية..قراءة في منجز الناقد العراقي فاضل عبود التميمي / د- طارق بوحالة
تمهيد:
يشتغل النقد العراقي في السنوات الأخيرة على مقاربة الرواية العربية المعاصرة من منظور النقد الثقافي، أو ما يمكن أن يسمى في شكله العام بالقراءة الثقافية، حيث نعثر على محاولات كثيرة تمثلها دراسات نقدية نذكر منها ما يقدمه الناقد العراقي سمير الخليل في كتبه التي نذكر ذكر منها: مقتربات السرد العربي ودراسات ثقافية، والرواية سردا ثقافيا، 2020. كما كتب الراحل حبيب النورس أطروحة أكاديمية نشرها في كتاب بعنوان: الرواية العراقية والنقد الثقافي، 2013. ولا يمكن أن نغفل في هذا المقام جهود كل من فاضل ثامر وحسين القاصد ونادية هناوي وبشرى موسى صالح وخالد سهر وغيرهم من النقاد العراقيين الذي ساهموا في إثراء نشاط النقد في العراق دراسة وترجمة وإشرافا أكاديميا.
ويبدو أن الرواية العراقية قد تأثرت بتاريخ العراق المعاصر خاصة ما حدث بعد الغزو الأمريكي عام 2003، لتسعى إلى مساءلة كثير من القضايا السياسية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية التي أفرزتها هذه الحالة، مما جعل النصوص الروائية العراقية مدونة ثرية للقراءة النقدية من منظور النقد الثقافي.
1-فاضل عبود التميمي: ناقد متعدد ومتجدد:
يعد الناقد العراقي فاضل عبود التميمي من الأسماء التي تملك حضورا فاعلا في المشهد النقدي العربي المعاصر، حيث يملك في رصيده مسارا نقديا يدعو إلى الدراسة والاشتغال النقدي، فهو من الذين كتبوا في مجالات متنوعة أهمها النقد الأدبي والبلاغة العربية ونظرية الأدب والتحليل الروائي والدراسات الثقافية. الأمر الذي جعل منه ناقدا متعددا ومتجددا، حيث نعثر له على جملة من الكتب والدراسات أهمها:
-جذور نظرية الأجناس الأدبية في النقد العربي القديم.
-حضور النص، قراءات في الخطاب البلاغي النقدي عند العرب.
-السيرة الذاتي: من إحسان عباس إلى علي جواد الطاهر،
-قراءات في كتاب الصناعتين (الكتابة والشعر) لأبي هلال العسكري..
-البلاغة العربية: من التخيل إلى القراءة والتلقي.
-إعجاز القرآن للباقلاني.
ويعد كتاب فاضل التميمي ” دراسات ثقافية: في الرواية والرحلة والمقالة، الصادر عن دار مجدلاوي بعمان عام 2020، تجربة جديدة تضاف إلى حقل الدراسات الثقافية العراقية، وفيها نكتشف جهدا نقديا لافتا، بذله الناقد مستعينا بالممارسة الثقافية قصد الكشف عن مواطن التمثيلات الثقافية المختلفة في نصوص مختارة من الرواية والرحلة والمقالة، وسنركز في هذه الورقة على فصل كتابه الذي خصصه لنماذج روائية عربية معاصرة.
2-الرواية العربية والدراسات الثقافية:
أ-الجسد المعطّل والقراءة الثقافية:
يناقش فاضل التميمي في هذا المحور رواية “الصندوق الأسود” للكاتبة العراقية “كيلزار أنور”، كاشفا عن أهم مواطن تمثيلات الجسد المعطّل، وما مدى المكابدات النفسيّة للمرأة انطلاقا من طبيعة النسق الذكوري السائد والمتحكم في دواليب الثقافة العربية عموما.
يقر فاضل التميمي أن …الرواية هي بمثابة خطاب مؤدلج يفضي إلى قراءات مشبعة بالأفكار والتحولات…1
وبناء على هذه الفكرة ينتقل الباحث إلى مقاربة إيديولوجيا الجسد المعطّل، وهو مساحة تمثلها النساء اللواتي لا يقدرن على الإنجاب، مبينا أن دراسته ” تريد أن تقف عند إيديولوجيا الجسد المعطل في هذه الرواية الصادرة عام 2010، لتكشف عن واحدة من طرائق التمثيل عن إشكالات الجسد التي لم تقف عندها الرواية النسوية في العراق معتمدة الرؤية الثقافيّة الجزئيّة لنصوص محددة من الرواية، وهي تنفتح على فضاء الجسد الساكن.”2
ويختار الباحث في هذه المقاربة مدخلا إجرائيا قوامه مقولات النقد النسوي، قصد التمكن من التعامل مع الجسد على أساس أنه معطى ثقافي يتجاوز الحدود البيولوجية التي يسجن داخلها في كثير من الأحايين، لا سيما إذا اعتمدنا على المقولة التي مفادها أن الجسد والسرد يجدان في الخطابات الأدبية مساحة خصبة للتفاعل، حيث تعد الرواية واحدة من هذه الخطابات، ومنه تشتغل هذه الدراسة على مصطلح “الجسد المعطل” للتعبير عن حالة الجسد النسوي الموجود في حالة تعطيل عن الإنجاب، مما يجعله جسدا مرفوضا داخل حدود الثقافة الذكورية التي تمنح قيمة لهذا الجسد إذا كان عبارة عن آلة منتجة.
وتنهض “رواية الصندوق الأسود للروائية كيلزار أنور… على تيمة تقرأ إشكالية الجسد المعطل عن أداء وظيفته الإنسانية، وهي تعرف أن ذلك الجسد في نظر الآخر –الرجل- فضاء إخفاق يبدو منهكا ومنهزما ومخربا للصورة التي يحملها.”3
ويشتغل الباحث على كشف أهم تمثيلات الجسد المعطل في الرواية انطلاقا من التنقيب عن مضمرات محنة الجسد، كون الرواية تتعدى مستويات مساحة البوح الفردي نحو استحضار تجربة جماعية معممة، فحسب فاضل التميمي لم تعد نساء الرواية وهن الشخصيات المحورية تحلن على تجارب فردية معزولة عن الواقع الاجتماعي، بقدر ما تأسسن لطبقة اجتماعية تندرج ضمن ثقافة مقاومة للسائد، وللنظرة النمطية المشكلة حولهن.
ليكتشف أن هذا الجسد المعطل قد سعى إلى البحث عن جملة من الوسائل قيد التخلص من هذه المحنة الملاحقة له. وقد تحقق له ذلك من خلال التقرب من الذات الإلهية وكعمليات التدخل الطبقي والتعويض.
ب- الرواية والفكر النسوي:
يسعى فاضل عبود التميمي في رواية ” أحببت حمارا” لرغد السهيل الصادرة عام 2015 إلى قراءة الإحالات على مدى حضور الفكر النسوي في هذا النص السردي، الذي يحاول بدوره تفكيك معالم الثقافة الذكورية وأهم مزاعمها …” وتقويض ادعاءاتها التي شكلت من خلال عقود مديدة مرجعية متعالية لتسويغ التمييز ضد المرأة، حيث قدم الفكر النسوي أجوبة حادة عن مسائل كانت مغيبة في تضاعيف الصمت همها الارتقاء بالذات والانفتاح على معطيات الحياة الجديدة.”4.
وبعد تقصي مواطن الفكر النسوي في الرواية انطلاقا من عتبتها الأولى وهي العنوان ومرورا بمواطن مختلفة، يرى الباحث أن الروائية رغد السهيل قد “أوجزت تشفير تصديرها ذي الدلالات المقصودة الذي سيتمكن المتلقي من الإمساك به في متن الرواية .”5
لتنتقل وجهة القراءة الثقافية بعد ذلك صوب استنتاج أن الرواية قد بدت في صفحات أخرى أنها تتراجع بعض الشيء عبر مواقف بعض الشخصيات من الفكر النسوي، هذه الشخصيات التي وقفت عاجزة عن تفكيك المقولات الرافضة لأثر المرأة المغاير … 6
يحيل هذا الموقف على العجز الذي تتميز به بعض شخصيات هذه الرواية، مما جعلها تقف حائرة على تجاوز المقولات الكبرى لنسق الذكورة والتحرر منها بشكل نهائي.
ج-التمثيل السردي للمثقف:
وتأتي الرواية الثالثة بعنوان: مقتل بائع الكتب الصادرة عام 2016، وهي للروائي العراقي سعد محمد رحيم، حيث رفعت القراءة الثقافية مهمة البحث عن التمثيل الروائي لثقافة المدين ومدى دور المثقف في صناعة هذه الميزة، وذلك بمحاورة هذا النص الذي استعار حادثة مقتل فنان، وعمل على تحويلها إلى سرد قريب من الواقع اليومي مما جعل المتلقي يثب بها بسبب مصداقيتها.
ويظهر حسب الناقد أن الرواية قد استثمرت في على الثقافة في مدينة يعقوبة العراقية، بواسطة الإحالة على سيرة شخصية محمود المرزوق،من خلال التركيز على موضع الثقافة عنده، والتي ارتبطت بكتابات ورسومات قليلة ووعي مبتسر يخلط بين ما هو سياسي وفني لخلق وهم عام بهدف من خلاله المرزوق ومريدوه صناعة نجم كبير في الفن والأدب.
د- الرواية وسؤال الغيرية:
وجاءت الرواية الرابعة بعنوان “ترنيمة امرأة …شفق البحر” 2012 وهي كذلك للروائي العراقي سعد محمد رحيم.، وفيها ركز الناقد فاضل التميمي على عملية الكشف عن التمثيلات السردية المرتبطة أساسا بالاستشراق الذي تمثله شخصية بطلة الرواية كلوديا الإيطالية، وعلاقتها ببطل الرواية العراقي “سامر” انطلاقا من مقولات تاريخية بين الطرفين أبرزها مقولة الحوار الحضاري.
لهذا يرى فاضل التميمي أن الرواية قد تمكنت من القبض على لحظتين: الأولى تخص ” أفكار سامر التي تتركب من سياقات سردية تنتمي إلى الماضي لتلتصق بفضاء الوطن على الرغم من كلّ الإشكالات التي رافقت وجوده داخل العراق وخارجه.”7 ، أما اللحظة الثانية فترتبط بـ” أفكار الشخصيات الغربية بدءا من كلوديا بمايكل التي تتعامل تعاملا حقيقيا مع الواقع الذي يستند إلى المصالح، وقيم العلم”8.
ويستنتج الباحث من خلال هذه الأفكار مدى وعي وفهم الروائي سعد محمد رحيم لموقع الثقافة الأوربية وتعاملها مع الآخر من منظور نفعي محض، كما إنه قد استطاع إعادة تشكيل كثير من ملامح الثقافة الإيطالية في روايته من خلال أسماء الشوارع و المطاعم والأكلات وغيرها.
يظهر أيضا من قراءة فاضل التميمي لهذه الرواية تثبيتا لسردية اللا-حوار بين الطرفين المذكورين أعلاه، فهو حوار حضاري شكلي فقط، يسقط قناعه عند أول تجربة أو امتحان بينهما، كون الأنا لا تستطيع التخفف من أرشيف العلاقات المتوترة التي تجمعها بالأخر.
ه-الرواية والنسق الثقافي:
ويقرأ فاضل عبود التميمي في المحطة الخامسة من هذا الفصل رواية “العشق المقدنس” للروائي الجزائري عز الدين جلاوجي (2016)، ساعيا مرة أخرى إلى كشف المضمر وتأويل دلالته في هذه الرواية، مجملا ذلك في الأنساق الآتية: الحرب الطائفية ودونية المرأة، والطائر الغريب، والمشرق. وقد توصل الناقد إلى الكشف عن هذه الأنساق ثم تأويلها في ضوء المقاربة الثقافية المعتمدة، فـ”نسق الحروب الطائفية الذي يتعارض مع النسق المضمر الداعي علنية إلى السلم، والمحبة بين أبناء الدين الواحد، والديانات المختلفة”9 ، مكتشفا أن هدف هذا النسق هو ” تهيئة الأذهان لرفض سلطة التمذهب التي قادت المجتمعات العربية والإسلامية الحاضرة إلى خراب لا تحمد عاقبته.”10
بينما يتعارض نسق دونية المرأة ” مع النسق المنسل من سياقه (أي) النسق الذي لا يتنكر لتأريخ المرأة في ظل حضارات متعاقبة كان للمرأة فيها منزلة سامية، وكلن لها قصب السبق في مجلات الأدب، والفن، والعلوم، وهي -المنزلة- بمجموعها تشكل محتوى النسق المضمر الذي يتخفى تحت أغطية السرد، وجماليات العبث في تصوير شهوات الرجل إزاء جسد المرأة.”11.
بينما يرى الناقد أن حضور نسق الطائر الغريب في رواية العشق المقدنس “يحيل على نسق مؤداه صورة الطير بما تمتلك من سمات تتماهى مع صورة واضحة للمنقذ من ظلال الاحتراب الطائفي، والإثني في مجتمعاتنا المعاصرة”12
ليختتم الناقد مقاربته لهذه الرواية بتأويل حضور نسق المشرق ” الذي يتعارض مع النسق المخفي الآخر الذي تتراءى من خلاله البلاد المغاربية مسكونة في الإبداع، والنمو العقلي في العصور الأولى، فضلا عن العصر الحديث، فهي ليست بلاد تقليد وجدت على هامش الجغرافية والتأريخ، بل هي بلاد كان قد ابتكرت خطابها، وأعلنت مرارا عن طرائق اتصالها بالحياة والعالم.”13
تركيب:
ويظهر من خلال مقاربة فاضل عبود التميمي في الفصل الأول من كتابه “دراسات ثقافية في الرواية والرحلة والمقالة” حسن اختياره لنصوص روائية ذات ظلال دلالية وأبعاد سياسية واجتماعية وتاريخية، مما سهل عليه عملية القراءة الثقافية النافذة إلى أغوارها، ومن ثم الكشف عن مضمراتها الثقافية. كما إنه وظف باحترافية نقدية آلية التأويل باعتبارها عصب القراءة الثقافية الناجحة. مما جعله يغوص في أغوار هذه النصوص ويقدم قراءة ثقافية جادة.
الهوامش:
- فاضل عبود التميمي: دراسات ثقافية في الرواية والرحلة والمقال، دار مجدلاوي، عمان ، ط1، 2020، ص29.
- المرجع نفسه، ص 29
- المرجع نفسه، ص 30
- المرجع نفسه، ص 48
- المرجع نفسه، ص 49
- المرجع نفسه، ص 53
- المرجع نفسه، ص 103
- المرجع نفسه، ص 103
- المرجع نفسه، ص 127
- المرجع نفسه، ص 127
- المرجع نفسه، ص 127، 128
- المرجع نفسه، ص 128
- المرجع نفسه، ص 128