الكتابة والقراءة وقيمتهما في رواية “قيلولة أحد خريفي”/ عبد النبي بزاز
6 مايو 2022، 00:08 صباحًا
يسلك الروائي والقاص المغربي هشام بن الشاوي نهجا مغايرا في منجزه الروائي « قيلولة أحد خريفي » ، فالرواية تتضمن « تيمات » متنوعة ومتعددة يصعب الإحاطة بها في هذه المقاربة لما تتطلبه من حيز رحب يسع ويستوعب الأدوات المعرفية والنقدية الكفيلة برصد مكوناتها ، واستجلاء خباياها. لذلك سنقتصر في هذه الورقة على عنصرَيْ الكتابة والقراءة باعتبارهما من الخصائص الأساسية التي تثري نسيج الرواية في التأسيس لكتابة تتغيا سلك نهج يروم الاختلاف والتغيير.
ــ الكتابـــــة : التي تظهر كهاجس يشغل الكاتب ، ويسيطر على ذهنه وإحساسه أينما حل وارتحل : ” ألعن ضجة هذا القطار ـ الخردة ، التي تجعلني غير قادر على أن أركز في القراءة والكتابة . أفكر في طقوس الكتابة ، وأستغرب كيف يستطيع بعض المبدعين أن يكتبوا في المقهى وسط دخان الرواد وصخبهم.. ” ص 63 ، فرغبة الكتابة قد يشتعل أوارها ، وتتأجج رغبتها في القطار ، أو في أماكن أخرى : ” أتشرد في الزمان والمكان لعلي أصادف شخوص الرواية على قارعة طريق أو رصيف مقهى شعبي . ” ص 65 ، واعتبارها ، أي الكتابة ، من خصوصيات الكاتب الذاتية : ” الكتابة شأن خاص ، ولا يمكنني الحديث عنها مع أي كان ، حتى إخوتي نادرا ما يقرأون ما أنشر في الصحف والمجلات. ” ص 12 ، فانشغال الكاتب وتعلقه بالكتابة زج به في معاناة ضاعفت من إحساسه بالغبن ، وأذاقته مرارة الفشل والإحباط حين ولج عالم النشر واكتشافه لما يستشري فيه من اختلالات وأعطاب : ” حتى حينما فشلت في نشر محاولاتك القصصية على حبال بعض الصحف الوطنية … كتمت حزنك ، وأنت ترى مدينتك الطوباوية تنهار . ” ص 70، بعد معاينة أنماط لسلوكات لا تمت بصلة لمجال الإبداع وما يجلله من قيمة رمزية واعتبارية : ” أعتقد أن الإبداع يفسد حياة صاحبه ، فهي تذيقه شتى أصناف العذاب : الإحباط حين يرى كتابا ـ بلا موهبة ـ ينشرون في مجلات كبيرة ، ومنهم من صار مراسلا لبعض الصحف… ” ص 7 ، ورغم ما يستشعره من حيف وإحباط إلا أنه يظل مشغولا بهاجس الكتابة : ” تخيلوا شخصا يكابد خواء كهذا ، يفكر في كتابة رواية جديدة.. رواية ثانية ، وقد صار عاجزا عن كتابة القصص القصيرة . ما يسبب له الألم هو التفكير في جمالية الكتابة وتقنياتها.. ” ص7 .
ــ القراءة : وهي عنصر بارز في الرواية حيث تستدعي قارئا متابعا لكل فصول الرواية ، بصبر وأناة ، دون الانصياع لأي تأثير: ” هل تجعلك عزيزي القارئ كلمة« تثاءب » تتثاءب مثلي الآن ؟ أرجوك لا تنم قبل أن تكتمل الحكاية . ” ص 21 ، مما يؤكد أنه طرف مخول له الإدلاء بملاحظاته حول طرائق تشكيلها خصوصا حين توكل المهمة لكاتب / قارئ من قيمة المرحوم إبراهيم الحجري الناقد القدير والقاص المبدع حيث يقول : ” بخصوص الرواية أعجبتني البداية التي اقتحمت حبكات النص منذ البدء وهاجمت القارئ … لكن في الأخير لابد من رابط ، ولست بالضرورة مطالبا بتوضيح الرابط ، دع القارئ يخرج من كسله. ” ص 26، حيث نلمس تحريضا ، بخلفيات إبداعية ، على إقحام القارئ في صنع أحداث الرواية ، والانخراط في مجرياتها، والنأي به عن موقع قراءة الاستهلاك. كما يتحول الكاتب إلى قارئ مهتم بالمتن السردي المغربي ، وبأحد رواده ومبدعيه مثل محمد زفزاف في آخر رواياته « أفواه واسعة » : ” على عجل ، تناول إحدى قصاصات مسودة الرواية ، دون ملاحظة ، خط تحتها ـ بقلم أحمرـ أكثر من سطر .. وبحركة متوترة . وضع القصاصة عند الصفحة، التي توقف عند قراءتها. طوى برفق الكتاب، وبحنو قرأ: « محمد زفزاف.. أفواه واسعة.. » ، وقال لنفسه : « لابد أن أعيد قراءة هذه الرواية » .” ص 26 فتتداخل عملية القراءة والكتابة ، وتتواشج خيوطها في نسق مطبوع بالتفاعل والتكامل فيجبر معه القارئ بالتموقع داخل عالم الرواية ، والصدع بما يخالجه من ملاحظات ومؤاخذات : ” كاتب هذه الرواية حرمني من حقي في الحياة .. في الوجود، ولا أدري لماذا … وكان بإمكان الكاتب أن يمنحني فرصة سرد محكيات الرواية من وجهة نظري ، مادام لا يريد أن أكون مؤلفا مفترضا حتى يرضي غروره الحكائي . ” ص 30 ، فتغدو سلطة الراوي محدودة أمام تدخل شخوص الرواية ، وإلحاحهم على الحق في الرأي والتعبير باعتبارهم جزءا من عملية الحكي ، ومكون من مكوناته.
وإذا كانت الكتابة والقراءة كعنصرين يحظيان بقيمة دلالية ، وخاصية مؤثرة في تشكيل بناء الرواية ، وتحريك دفة مسار السرد ، وما يحفل به من متغيرات وانزياحات فإن هناك عناصر أخرى أضفت على المتن الروائي زخما إبداعيا أغنى سيرورته الفنية ، وشرعها على آفاق تشعبت معها مسلكيات الحكي ومقصدياته عبر اجتراح طرائق تشذ عن السائد والمألوف.
فإلى جانب وفرة الشخصيات ، واختلاف مواقعها، وتعدد الوقائع ، وتنوع مجرياتها ، فضلا عن مكوني الزمان والمكان ، والحوار، في شقيه الداخلي والخارجي ، والوصف كأداة لتصوير الحالات النفسية والذهنية والحسية … هناك موضوعات مثل الفساد في شتى أنماطه وتجلياته . في مجال الأمن حيث تطاولت يد ضابط شرطة على نقود الراوي : ” طلب الضابط تعبئة رصيد بقيمة عشرين درهما… حين مد لي البائع بقية المبلغ ، امتدت يد الضابط إلى القطعة النقدية في خفة …” ص 10 ، والحقل الثقافي ، وما يعج به من سلوكات مشينة تتنافى والحس المعرفي الإبداعي بدافع جشع مرضي دنيء : ” استحضرت اقتراح صديقك بأن تولم جمركي الملحق الثقافي .. ابتغاء مرضاته ، وطبعا ، يجب أن تتضمن الوليمة زجاجة ويسكي …” ص 72 ، وأيضا موضوع الموت ، في سياقه الوجودي: ” لا أحب الموت … إنني أكرهه منذ رأيت في طفولتي جدتي ـ بجسدها الضئيل … لِمَ يسرقها مني الموت ، وما زلت بحاجة إليها ؟ ” ص 47 ، فكراهية الموت تتولد عنها أسئلة ذات طابع أنطولوجي يطفح حيرة وقلقا : ” لماذا نأتي إلى هذه الحياة ؟ لكي نتعذب فيها فقط؟” ص 89.
وأخيرا فإن رواية « قيلولة أحد خريفي » غنية ب « تيماتها » المتعددة ، ونهجها الإبداعي الصادر عن رؤية تهدف لخلق أشكال حكي مغايرة للسائد والمألوف . وسعينا من خلال هذه المقاربة تناول موضوعيْ الكتابة والقراءة داخل متن سردي موسوم بالتنوع والتجديد والتغيير.