رحلة ابن شاب قرناها عبد الله البردوني / علوان الجيلاني
7 مايو 2022، 00:01 صباحًا
منذ رحيله نهاية أغسطس عام 1999م، ظل الشاعر اليمني الاستثنائي عبد الله البردوني، أكثر الوجوه الأدبية والثقافية العربية إثارة للجدل. فالشاعر الذي كانت حياته ضجة كبرى، تستقطب اهتمام الناس بشكل دائم، تحول بعد رحيله إلى ضجة أكبر وأضخم، فقد تضاعفت مقروئيته، وزاد إقبال الناس على تلقيه شعراً ودراسات أدبية وفكرية وثقافية وتاريخية، وراجت حواراته الصحفية والاذاعية والتلفزيونية، وأعادت الميديا الحديثة تسويقه تجاوباً مع رغبة جمهوره الواسع، وقد حدث ذلك كله بالتوازي مع إقبال كبير على التأليف حول أعماله، والاهتمام بدراستها.
وإذا كانت ضجة البردوني انبنت منذ البدء على قوة تحليقه الشعري، اختلاف تكنيك قصيدته وخروجها على المألوف، اتساع ضديتها وتقويضيتها، اغتنائها بمحمولات بالغة العمق، قدرتها على ملامسة هموم الناس، رؤيويتها ونفاذ نبوءاتها، وتعبيرها الناجح عن روح الأمة وتطلعاتها. وهي السمات التي اتسم بأكثرها نتاجه الموازي، في النقد الأدبي والنقد الثقافي، وفي المقاربات الفكرية والتاريخية. فإن جزءًا من ازدياد ضجته وعلو صوتها بعد موته، كان يتمثل في اختفاء أعماله الشعرية والثقافية المخطوطة، وتعذر جمع وطباعة ما هو منشور منها في الصحف والمجلات.
جزء من تلك الأعمال يتمثل في ديوانين، طالما صرح في أيامه الأخيرة بجاهزيتهما للنشر وهما “رحلة ابن شاب قرناها” و” العشق في مرافئ القمر”، كما يتمثل في كتابين طالما أعلن هو عن قرب صدورهما؛ وهما “الجمهورية اليمنية” و” الجديد والمتجدد في الأدب” وكان سبب اختفائها غامضاً وغير مفهوم، لذلك ظل يثير غضب المثقفين، ويؤجج تساؤلاتهم وغضبهم، وكان الإحساس بتعرض، تراث البردوني لمؤامرة من قبل السلطة حاضراً في غضب المثقفين وتساؤلاتهم، فهم لا يكفون عن الجهر به طوال الوقت.
وكان الخلاف على إرث البردوني المادي والأدبي، يتأجج ويتطاول سنة إثر أخرى، بين زوجته وأبناء أخيه، فيؤجج احتدامه وانسداد أفقه شكوك المثقفين، بشأن تورط السلطة في الموضوع، فقد كان بوسع السلطة أن تتدخل وتحسم الأمر، استشعاراً لأهمية البردوني كأحد شعراء العرب الكبار في هذا العصر، واستشعاراً لأهميته عند اليمنيين خاصة، إذ لا يختلفون على اعتباره أهم رموز اليمن الأدبية والثقافية.
كان صراع زوجة البردوني وأبناء أخيه حول إرثه، يعطل نشر دواوينه وكتبه المطبوعة، ويعطل نشر أعمال أخرى، كانت منشورة في الصحف والمجلات ومحفوظة في الإذاعة؛ مثل سيرته التي تتابعت حلقاتها قبل رحيله في صحيفة “26 سبتمبر” لتغطي ثمانية وأربعين عاماً من حياته، وهي الفترة الواقعة بين مولده عام 1926م، وعام 1975م. إضافة إلى تعطيل كم هائل من المقالات والمقابلات، والأعمال الأخرى المنشورة في صحف الثورة والوحدة والجيل، وفي إذاعة صنعاء التي بثت عبر سنوات طويلة مئات الحلقات من برنامجه الشهير “مجلة الفكر والأدب”.
كانت ضدية البردوني للسلطة، وعدم قدرته على التوافق معها، وأيضاً عدم قدرتها على التوافق معه، أمراً مشهوراً عند جميع الناس، يستوي في ذلك النخبة المثقفة وغيرهم، وكان التناقض بين الجنازة الشعبية الكبيرة التي حظي بها، ورفض السلطة تنظيم جنازة رسمية له، مؤشراً واضحاً على اتحاده بالشعب، وضديته للسلطة بمقدار ما عده المثقفون والكتاب بعد ذلك دليلاً على تورط السلطة في المؤامرة على أعماله المخفية. وكان تطاول صراع فرقاء أسرته على إرثه، يمثل بالنسبة للمثقفين دليلاً آخر يرسخ قناعتهم بالمؤامرة.
كان منطق النخبة الأدبية والثقافية أن تراخي السلطة عن التدخل لحسم الصراع على إرثه، يدل من جهة على تورطها في تأجيجه، أو مصلحتها في تطاوله، بقدر ما يدل على عدائها لإرث البردوني برمته ورغبتها في تحجيمه بأي شكل من الأشكال.
والحقيقة أن غضب المثقفين لم يكن مجرد هيجانات عاطفية، كان كتاب “الجمهورية اليمنية”، شبه جاهز عشية قيام حرب 1994م، بين شركاء الوحدة اليمنية، وقتها أعلن البردوني رفضه للحرب، فإراقة الدماء من وجهة نظره تفرغ الوحدة من مضمونها، ومن مثالية تحققها الذي روج له المتحدون منذ قيام الوحدة عام 1990م، كما أن الحرب نفسها جاءت مصداقاً لوجهة نظر صدح بها عند اعتمالات قيام الوحدة، ومؤداها؛ أن الوحدة مأساة وأنها سوف تأتي بالكوارث وتوقظ الكوارث النائمة، كان ما يحدث يؤكد على مصداقية وجهة نظره بالضبط. لذلك أعلن أنه سيعيد كتابة كتاب “الجمهورية اليمنية” من جديد، قال ذلك لي شخصياً، إذ كنت وقتها في ذروة ارتباطي به، أتردد عليه بشكل دائم.
بعد حسم الحرب لصالح قوات الرئيس صالح المتحالفة مع الإسلاميين المتشددين، ظل البردوني يكتب فصول كتاب الجمهورية اليمنية، وفق منهجه الذي لا يكتفي بقراءة الأحداث ورصد مستجداتها، وإنما يستكنه دخائلها ودوافعها العميقة، ويستحضر أشباهها ونظائرها في التاريخ اليمني، ويراقب في نفس الوقت تداعياتها، ويستشرف من خلال كل ذلك نتائجها في المستقبل.
كان موقف البردوني ضد تحالف المنتصرين في تلك الحرب، وقد ظل يتجه إلى التشدد جراء مظاهر الاستعلاء والغطرسة التي أصابت المنتصرين، وجراء تراجع الحريات العامة، والانفتاح الاجتماعي، وانكسار شغف التعددية التي نعم بها اليمنيون مدة أربع سنوات فصلت بين تاريخي قيام الوحدة، وقيام الحرب.
وكان تعبيره عن الرفض واضحاً في عدة قصائد كتبها أثناء الحرب وبعدها، يدين من خلالها تضخم ذات المنتصرين، ويذكرهم أن ما فعلوه كان خطأ تاريخياً.
قبل موت البردوني بثلاثة أيام “صباح الجمعة 27 أغسطس 1999م، دخلت عليه كان في مكتبه، وهو غرفة صغيرة مكتظة بالكتب، حيث مجلسه على الأرض في الجهة الشمالية منها، وأمامه طاولة صغيرة واطئة، عليها الراديو القديم.
بعد أن فتح لي الباب مرحباً كعادته، أشار إلى ثلاث رزم كبيرة من الأوراق؛ كل رزمة داخل فرخ من ورق الفلوسكاب، وقال لي مبتسماً: هذا كتاب “الجمهورية اليمنية”، لقد صار جاهزاً لإرساله إلى المطبعة.
قلت له: ألف مبروك أستاذنا، هذا إنجاز عظيم، سيتلقفه الناس بلهفة كبيرة.
قال لي: إلق نظرة عليه.
كانت رزم الكتاب الثلاث فوق بعضها على الأرض، تبعد عن يمينه حوالي متر واحد، جلست على الأرض ورحت أقلب صفحاتها لبضع دقائق، قبل أن أكرر مباركتي له. ثم قمت إلى حيث أجلس مقابلاً له، فيما راح يلاطف ابنتي مروة، التي قدر لها أن ترى البردوني قبل موته بثلاثة أيام، وكانت آنذاك طفلة صغيرة.
كان رحيل البردوني صباح يوم الاثنين 30 أغسطس 1999م مفاجئاً، صعق المشهد الثقافي اليمني صعقة عاتية، فقد شعر الأدباء والمثقفون باليتم، شعروا بفقد المظلة الحامية؛ بل شعروا –كما كتبت إثر رحيله بثلاث سنوات- أن البردوني كان يمثل بالنسبة للكتاب والمثقفين اليمنيين، ما يمثله الرصيد الذهبي الذي تضعه الدول في البنوك ليحمي عملاتها من الزلازل والاضطرابات. توالت البكائيات شعراً ونثراً، وعم التذمر جراء رفض رئيس الجمهورية تنظيم جنازة رسمية، ورفضه فكرة دفنه في مقبرة الشهداء الخاصة برؤساء وقادة الدولة وكبار مسؤوليها، وانسحب التذمر على عدم تخصيص شارع باسمه، وعدم إطلاق اسمه على إحدى قاعات كلية الآداب في جامعة صنعاء.
وحين أفاق الأدباء من صدمة موته، بدأت التساؤلات عن أعماله التي لم تنشر، الأعمال التي طالما تحدث عن قرب صدورها، وتحدث عنها أيضاً عدد من أصدقائه ومريديه المرتبطين به ارتباطاً قوياً. وقتها شاع أمر اختفاء تلك الأعمال بشكل غامض، ونفت زوجته وأبناء أخيه علمهم بها، أو بطريقة اختفائها، وهذا جعل الكتاب والمثقفين يذهبون بشكوكهم إلى الأيادي الخفية للسلطة، ولم تكن شكوكهم لتحتاج إلى دليل، فكتاب “الجمهورية اليمنية” يدين حرب عام 1994م، ويدين طريقة المنتصرين في إدارة البلاد بعدها، وديوانا “رحلة ابن شاب قرناها” و” العشق في مرافئ القمر” فيهما قصائد تصرخ بهجاء النظام، تتهكم به، وتسخر منه، وتحمله مسؤولية ما حدث.
ثم توالت بعد ذلك جملة وقائع تؤكد ظنون المشهد الثقافي واتهاماته للسلطة، بعد عام على رحيل البردوني طلب الأستاذ أحمد جابر عفيف رئيس مؤسسة العفيف الثقافية، لقاء العزي الشاطبي، وهو القارئ الذي لازم البردوني أعواماً طويلة، وعليه أملى البردوني معظم أعماله، كان العفيف وقتها يقف في صدارة المشهد الثقافي اليمني، فهو سياسي سابق تولى مناصب رفيعة في الدولة، وقرر أن يكرس سنوات عمره الأخيرة كلها لخدمة الثقافة ومنتجيها، كان العزي الشاطبي معروفاً بصمته وعزلته، وقد استدرجه العفيف إلى مؤسسته بذريعة رغبته في تقديم مساعدة له، لكنه كان يضمر في نفسه استدراجه كي يعلم منه، ما إذا كان يعرف شيئاً عن أعمال البردوني المخفية، غير أن المفاجأة كانت أكثر مما توقع، فالشاطبي في لحظة امتنانه للعفيف بسبب مبادرته نحوه، باح بسر لم نكن نعرفه، فقد أخبر العفيف أن لديه النسختين الأصليتين من ديواني البردوني “رحلة ابن شاب قرناها” و”العشق في مرافئ القمر”، لحظتها شعر العفيف بضرورة عقد صفقة مع الرجل، فإصدار مؤسسته للديوانين سيكون حدثاً كبيراً.
مساء اليوم الثاني كانت الساعة السادسة، وكنت أتأهب لمغادرة المؤسسة كعادتي كل يوم، لكن العفيف الذي كان لا يزال في مكتبه على غير العادة؛ نادني بصوت خفيض:
-تعال يا علوان.
انعطفت ودخلت المكتب. فقال:
-اجلس قليلاً لدينا موضوع مهم.
انتظرت، وخلال دقائق خلت المؤسسة من موظفيها ومرتاديها، وبقينا وحدنا. لحظتها تبلج وجه العفيف، وضغط على الجرس، الجرس الذي عادة ما يعرف به أهل بيته أسفل المؤسسة رغبته في صعود أحد ما إليه. بعد برهة كان العزي الشاطبي يدخل علينا. وفي يده كيس نايلون أزرق اللون، أخرج منه ظرفاً بنيا، ثم أخرج من الظرف البني ملفين ورقيين، كُتب على أحدهما “رحلة ابن شاب قرناها” وعلى الثاني “العشق في مرافئ القمر”. كنت مذهولاً والعفيف يشير له كي يسلمها إلي، قبل أن يقول لي:
-مفاجأة لا تخطر على بالك، صحيح؟
أجبته ممتناً وصدري يتقافز:
-مفاجأة تتجاوز كل توقعاتي.
وفيما رحت أفري أوراق الرزمة الأولى، فاجأتني في منتصفها قصيدة “وصول” وهي قصيدة سبق نشرها في ديوان “رواغ المصابيح”، وهو ديوان البردوني العاشر، وقد صدر عام 1989م:
بودِّي أن أفرَّ الآن منِّي
وأدخلَ نزوةً في رأس جنّي
وأسبح فوق ومضٍ لايُسمّى
ولا يلقى الملقِّب والمكنّي
يحنُّ إلى مطافٍ غير طافٍ
ويُومي: يا نجوم إليه حِنّي
انتفضت مستغرباً وقلت للعزي الشاطبي:
-ما الذي جاء بهذه القصيدة إلى هنا؟
أجاب وقد فاجأه سؤالي:
-كيف ما الذي جاء بها إلى هنا؟ هي من قصائد الديوان.
قلت بيقين: لا، لقد نشرت هذه القصيدة في ديوان “رواغ المصابيح”، وقد حفظت أكثرها عند أول صدور الديوان عام 1989م، وأنا ما زلت في المرحلة الثانوية.
تصلب العزي الشاطبي مصمما على أنها جديدة، وصدم العفيف الذي ربما فكر أن العزي الشاطبي يخدعه، فقال بصوت يخالجه الاحباط:
-وبقية القصائد هل سبق نشرها؟
أجبته:
-كل القصائد التي مررت بها قصائد جديدة أعرفها، إلا هذه
ثم أردفت:
-كتب البردوني الصادرة كلها هنا في المكتبة، وسوف أؤكد لكما أن هذه القصيدة قد نشرت.
نهضت وتوجهت إلى الصالة، ومن أحد الرفوف الأمامية على يمين باب مكتب العفيف، تناولت ديوان “رواغ المصابيح ” كانت ترتيب القصيدة في الديوان “26” من سبع وثلاثين قصيدة هي كل القصائد التي يضمها الديوان، دخلت وقد فتحت على الصفحة التي فيها القصيدة، ارتبك العزي الشاطبي، وعرته حيرة عجيبة، ولم يزد على القول: كيف جاءت إلى هنا؟
طلب مني العفيف أن أتأكد من بقية القصائد، ولم يكن التأكد من جدتها أو عدم جدتها يحتاج إلى جهد مني، وذلك لسببين:
أولهما: معاشرتي الطويلة لشعر البردوني المنشور في دواوينه التي نشرها أثناء حياته.
وثانيهما: معرفتي بقصائدة الأخيرة؛ بل وصلتي بلحظات انكتاب العديد منها. كون قصائد الديوانين الأخيرين انكتبا في فترة اتصالي الوثيق به.
تنفس العفيف الصعداء، وتنفس الشاطبي أيضاً، وإن ظلت علامات الاستغراب ترتسم على وجهه.
قال لي العفيف بعدها: سوف نصدر الديوانين، ستتولى أنت الإشراف على رقمها وتصحيحها بدقة، وستكتب مقدمة تتحدث فيها عن البردوني وقيمته الأدبية، وعن أهمية الديوانين ومضامينهما. وقيمة العثور عليهما بعد اللغط حول اختفائهما.
بيدي وضعت الديوانين داخل الظرف، وفيما كان العفيف يقف بنفسه إلى جواري، وضعت الظرف في رف الملفات المهمة جداً.
حين مسّيتُ على العفيف مستأذنا، قال لي:
-شدّ حيلك، من بكرة لا شغل لك إلا إنجاز رقم الديوانين، وتجهيزهما للنشر.
بسعادة وبثقة كبيرة أجبته:
-سيتم كل شيء على أكمل وجه.
عدت إلى البيت مشتاقاً لطلوع الصبح أكثر من أي يوم آخر. وعند السادسة صباحاً استيقظت على طارق يطرق بابي، فقد اتصل العفيف بصهري الذي يسكن قريباً مني، وطلب منه أن يخبرني بضرورة الإسراع إليه.
ارتديت ملابسي بسرعة، وهرولت إلى شارع القيادة، حيث أوقفت تاكسياً، طلبت منه أن يقلني إلى شارع مجاهد بأقصى سرعة، كنت أفكر أن العفيف يحتاجني لمرافقته إلى زيارة واحد من أصدقائه الكبار، إذ كان كثيراً ما يطلب مني مرافقته في زيارات كهذه، وهو يقوم بها مبكراً كعادته. ولأن الشوارع كانت فاضية تماماً، فلم يستغرق المشوار أكثر من بضع دقائق.
حين وصلت كان العفيف يقف في باب المؤسسة، وقد ارتسمت على وجهه علامات الأسف والقرف والصدمة.
-ما الخطب يا أستاذ؟ سألته.
فرد وهو يضرب كفاً بكف:
-جاء العزي الشاطبي قبل نصف ساعة وأخذ الديوانين؟
-ها؟ كيف حدث هذا؟
-اتصل بي علي عبدالله صالح البارحة، وهددني بإغلاق المؤسسة إن لم نبتعد عن التفكير في طباعة ديواني البردوني؟
صدمني كلامه، فتمتمت:
-هكذا؟
قال وهو يتميز غيظاً وتذمراً
-أجل هكذا، بمنتهى الغطرسة قال ذلك. بعد اتصاله، اتصلت بالعزي الشاطبي، وطلبت منه أن يأتي قبل طلوع الشمس لأخذ الديوانين.
قلت كأني أحدث نفسي:
-ليتني صورتهما، آلة التصوير موجودة، ولم يكن الأمر ليستغرق أكثر من ربع ساعة.
بعدها لازمني الندم طويلاً، واتهمت نفسي بقلة الحذق، أما العفيف فقد أخبرني بعد أيام، أنه بعد استلامنا الديوان تلك الليلة، أخبره أحد المقربين منه أن العزي الشاطبي جاء مراقباً من شخصين غريبين، وأنهما انتظراه حتى خرج وتبعاه في عودته إلى بيته.
تلك الحادثة جعلتنا نتأكد إلى درجة لا مجال للشك فيها، أن السلطة تعارض طباعة كتب البردوني، وزاد اليقين عندما طبعت الهيئة العامة للكتاب أعماله الكاملة عام 2001م، التي ضمت دواوينه الإثني عشر الصادرة إبان حياته، دون تجاوزها إلى الديوانين الأخيرين، كان ذلك تأكيد آخر على ذلك.
ثم عندما جاء عام 2004م، وهو العام الذي طبعت فيه مئات الكتب، وظلت كتب البردوني النقدية والفكرية إلى جانب كتبه المخفية، خارج التفكير ارتفع أجيج التذمر بين المثقفين بشكل أكبر، ولم يقنعهم التحجج بخلافات الورثة فقد كانت ميزانية تلك المناسبة سخية جداً، وكان بإمكانها استرضاء ورثته بما يريدون تسهيلاً لحسم خلافاتهم، غير أن ذلك لم يحدث، وقد شاعت في المشهد الثقافي أن خالد الرويشان وزير الثقافة آنذاك، كان يكتم تلقيه أوامر من القيادة بألا يقترب من البردوني، أو من خلافات عائلته، لذلك اكتفى بإصدار طبعة ثانية من الأعمال الشعرية الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب إبان رئاسته لها.
عام 2012م كان قد انقضى على رحيل البردوني ثلاث عشرة سنة، وكانت شعبيته قد تضاعفت مرات كثيرة، وصارت رمزيته أكثر وضوحاً وتكريساً، فهو الشاعر الأكثر حضوراً في ساحات المدن اليمنية الضاجة بهيجان لم يسبق له مثيل، وهو الشاعر الأكثر حضوراً في منابر الفرقاء جميعهم، بما في ذلك منابر صالح وأتباعه، وتلك كانت من أغرب المفارقات. وكانت مراصد الظواهر الثقافية المصاحبة لهيجانات الشوارع العربية، تؤكد أنه لم تحضر قصائد أحد من شعراء العرب الكبار على حناجر المحتجين وأقلامهم، أو في وسائل الإعلام المحتفية بهم في البلاد العربية كلها كما حضرت قصائد البردوني.
وكان يفترض أن يكون ذلك كفيلاً، بإنهاء خلاف الأسرة حول إرثه، خاصة بعد أن تبين ضلوعها في التعنت إزاء أي تسريب لنص من نصوصه التي لم تنشر من قبل، وفي هذا السياق بذلت وزارة الثقافة جهداً لم يكتمل، بسبب تعنت الورثة من جهة، وعدم نفاذ كلمة أصحاب المبادرة عندهم، ناهيك عن وجود نزعات وصاية غريبة، تتملك بعض المسؤولين والمثقفين تجاه إرث البردوني.
ثم حدث متغير أكثر خطورة، فقد أدت حالة الانقسام بين فرقاء الصراع اليمني إلى الزج بالبردوني في تجاذباتها، وصارت محاولات المتحمسين لنشر ما لم ينشر من تراث البردوني، تتعرض لحملات تشكيك لا يبررها إلا الفجور في الخصومة، ورغبة العداوات السياسية.
أما المتغير الأغرب فقد حدث بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، إذ صارت اللهفة على اللايكات، تدفع ببعض شعراء الجيل الجديد إلى إنتاج قصائد، تحاول اصطناع أسلوب البردوني، تقلد معجمه، وطريقته في شحن النص بأسماء الأماكن والرموز، وكان اللافت هو ركاكة التقليد من جهة، وامتثال النصوص فيما يبدو لموجهات سياسية تظهر في مضامينها، وتكشف بؤس التقليد وتهافت المقلدين، وإفلاس الجهات التي تدفع بهم إليه.
ولم يلبث الأمر أن تطور بظهور مستجد آخر، إذ صار بعض الأكاديميين الجدد، ومعهم صحفيون وكتاب ومفسبكون، يشككون في وجود إرث للبردوني غير ما نشره في حياته.
ومنذ عام 2020م تصاعدت التجاذبات حول الشاعر الكبير؛ المثقفون والأدباء المستقلون، ومعهم العارفون بقيمة البردوني من أي منزع كانوا، يطالبون بإخراج إرثه، وآخرون بدوافع المماحكات السياسية، أو رغبة في الإثارة ولهفة على اللايكات، أو رغبة في حرمان المبادرين المتحمسين من شرف المحاولة؛ ناهيك عن النجاح، يشككون في صحة انتساب ما قد ينشر إلى البردوني.
الغريب أن يتورط في التشكيك أناس كانوا من أكثر الناس حماساً لأي مبادرة في هذا الصدد خلال فترات سابقة.
أخيراً تصدت الهيئة العامة اليمنية للكتاب بصنعاء –يرأسها عبد الرحمن مراد وهو شاعر وكاتب معروف، لهذه المهمة، وكان حظها جيداً حيث ساهم تدخل سلطات صنعاء في مراضاة الورثة وحسم خلافهم، ما سهل البدء في الاشتغال على الديوانين.
وفي ظل ضجيج مواقع التواصل الاجتماعي، التي تعج بعارفين يحجبهم العداء السياسي، كما تعج بجاهلين ينعقون مع كل ناعق، تم تشكيل لجنة من مجموعة أدباء موثوق بهم. أشرفت على مقابلة النسخ وتصحيح مادتها، ووثقت ذلك بشكل جيد.
وهكذا كان على آخر ديوانين أبدعهما البردوني أن ينتظرا ثلاثة وعشرين عاماً قبل أن يخرجا إلى النور.