صدرت منذ فترة رواية “تائه بين الفواصل” للكاتبة حليمة عودة قُصيني، وتقع في مئة وواحد وتسعين صفحة من الحجم المتوسط، وهو العمل الثاني للكاتبة بعد إصدارها الأول “كفى”.
لقد قرأتُ رواية “تائه بين الفواصل” بتمعن شديد، فأعجبني ذلك النفَس الطويل الذي تتمتع به الكاتبة، وقدرتها على ربط الأحداث ومدّ الخيوط وربطها بأسلوب شيّق، لتحيك منها حبكة روائية متقنة.
بدأت الكاتبة بإهداء روايتها إلى والديها وبكلمة شكر لمصمم الغلاف عادل سميح، ثم تشابكت الأحداث وتعددت الشّخوص وتداخلت، منها الرئيسية ومنها التي مرّت مرّور الكرام، وبأسلوب محبب متقن رسمت الكاتبة شخوصها بعناية، فقدّمت ما تريد من الوقائع والأحداث، وأخّرَت أحداثا أخرى لتعلن عنها لاحقا، وذلك لتفعيل عنصر التشويق وضمان انفعال القارئ ودمجه مع الحدث المفاجئ.
أما عنوان الرواية فقد حمل بين طياته فلسفة ما، نستشعر من خلاله الأحداث التي حكت قصة الشاب ماهر، الذي مضى باحثا عن ذاته وسط إحساس عميق بالاغتراب عن المحيط، فتجوّل بين العناوين والمتاهات، مكتشفا أن الحرية المزيفة تتناقض مع الحرية الشخصية تناقضا تاما، إذ تمنع الإنسان من تحقيق ذاته وتقيّده بقيود وسلاسل مجتمعية.
كلّ هذه الأحاسيس نكتشفها تباعا بين السطور؛ انطلاقا من الكبت المجتمعي والأُسَري الذي وصفته الرواية.
يتعرف ماهر ابن القرية إلى رُلى ابنة المدينة، وتبدأ قصة الحبّ بينهما، يرفض والده زواجه منها متذرعا بالمثل الشعبي والفكر التقليدي السائد: “من لا يأخذ من ملّتِه يَمُت بِعلّتِه”!
يأتي حكم الوالد نتيجة لخيبته من تجربة زواج فاشل مع زوجته السابقة، وهي من بنات المدن، رافق ماهر شعورا بالإحباط فهو مثقل بالعادات والتقاليد البائسة المقيّدة، المانعة من الحرية والانطلاق وحق الاختيار، فعاش صراعا وتناقضا ما بين الزواج عن حب وغضب الوالدين، أو الزواج التقليدي ورضا الوالدين والأسرة! فكان زواجه فاشلا بسبب تفضيله إرضاء أسرته على سعادته الشخصية وحقه في الاختيار، فظلم نفسه وزوجته بأنانية لافته، إذ عانت الزوجة من بروده العاطفي، الإهمال والهجر، ولم يعد مخلصا لأي امرأة يقابلها في حياته.
بعد انتهاء علاقته بحبيبته رُلى، كان حزينا يبحث عنها بين فواصل أيام حياته، شعر بأنه قد أضاعها وأضاع نفسه، مخلّفا شخصا كئيبا يعيد ويكرر ما بداخله، تعرّف بعد ذلك إلى سالي وظلّ يتردد عليها هربا من واقعه وخوفا من مواجهة الحياة، محاولا تعويض النقص والحرمان العاطفي من خلال تلك العلاقة المؤقتة معها، ثم بدأ بالصعود والنجاح العملي والمهني، فأُرسِل في بعثة للقب الثاني والثالث إلى جامعة كامبريدج في بريطانيا، وهناك تعرف إلى “جينكا” وبدأ معها علاقة غرامية، فأهمل زوجته ولم يعد يتصل بها للاطمئنان عليها وعلى أولاده!
أحب جينكا لكنه خانها مع سالي ورفض حملها، خذلها كما خذل زوجته وحبيبته رُلى، فقد شوهته التربية الذكورية ولم يعد يعرف معنى الحبّ، أصبح أبا وزوجا فاشلا محبّا لنزواته فقط، حتى غدا ذلك نهجه وسيّر حياته.
في النهاية وبعد خسارته لجينكا عاد إلى زوجته ووطنه، محاولا تعويضها ما فات؛ لكنّها مرضت، وتوفيت وهي تحمل حزنها وألمها!
تناقش الرواية فكرة الزواج في الثقافة والمجتمعات العربية التقليدية، فالزواج في مجتمعاتنا هو شأن عائلي وليس أمرا شخصيا، إذ يعلو رأي الوالدين وكبار العائلة على الرأي الفردي الخاص، ويعتبر الأبناء جزءا من المجموعة أو المنظومة، يفكرون بعقليّة الأسرة، تقاليدها وعاداتها، وعليهم قبول الواقع بما فيه طريقة تفكير الأهل وآرائهم المحدّدة مسبقا، فلا وجود لآراء شخصيّة تخالف قوانين العائلة وأنظمتها، وإن حصل ذلك فيعتبر تحدّيّا وتمرّدا وعقوقا، من الضروري رفضه والتصدي له!
إن طريقة تربية أولادنا على الطاعة العمياء باسم العادات والتقاليد أحيانا، وباسم الدين وطاعة الوالدين أحيانا أخرى، وتجاهل رغباتهم وطموحاتهم وأحلامهم، محاولين تحقيق أنفسنا وأحلامنا من خلالهم، فذلك يحبطهم ويدمر نفسياتهم ومعنوياتهم، يلغي ويقمع شخصياتهم ومواضع تميزهم.
تطرقت الرواية أيضا للحرية في الغرب، احترام الإنسان وقراراته، وقدرته على الاختيار وتحقيق الذات، بعيدا عن الحواجز والعادات والتقاليد البائسة في الشرق، وكأنه صراع لأجل البقاء وإثبات الذات وتحقيقها، فالثقافة الغربية تؤمن بالمسؤولية الإنسانية وبالإنسان كفرد لديه كل الإمكانات الفردية والطاقات الفكرية الخلاّقة المستقلة، وذلك بالنقيض لثقافتنا الشرقية التي تؤكد على التبعية ومسؤولية الفرد تجاه المجموعة، وإكراهه على تنفيذ سياسة القطيع، كذلك وتسمح بالتدخل في أدق تفاصيل حياته وخصوصياته.
اعتمدت الكاتبة الحبكة العضوية المتماسكة، فصاغت سطورها بحوادث مترابطة، لتمضي في نظم واحد ونسق مستقيم حتى بلغت تمامها، فتواصلت الأحداث بشكل طبيعي وكانت مركبة بطريقة مقبولة معقولة ومقنعة.
أخيرا، أعتقد أن ملخص الرواية كان في الجملة التي قالها ماهر لسالي وهي: “أغلبنا ضحايا مجتمع وجهل، نفتقر إلى حضن الأمان، ذلك الذي نرمي فيه همومنا”.
أبارك للكاتبة حليمة عودة قُصيني، وأتمنى لها مزيدا من العطاء، الإبداع والتألق.