قبل ان نبدأ في الدراسات التي كتبت عن يونسكو ودرامته العبثية نتساءل هل اختفي مسرح العبث ، الم يعد له اليوم وجود بين التيارات المسرحية المعاصرة ، خاصة بعد ان انحسر المسرح الملحمي وازدهر المسرح الشامل والمسرح التجريبي ؟ اسئلة كثيرة تدور في عقل المسرحيين والنقاد
ولكن الحقيقة انه هذا المسرح لم يختفي او ينحسر تياره كما نتصور ولكن يمكننا القول انه تعرض الي كثير من النقد حيث اصر النقاد علي وصفه بالعبثي من خلال رواد هذا المسرح والذين يعتبرون ليس بالكثيرين فاهمهم بيكيت ويونسكو اداموف وجينيه هؤلاء الذين كان تناولهم لهذا النوع من الدراما وكأنهم يقولون ان الحياة عبث وانها لا معني لها ، من خلال مسرحياتهم السلبية التي تهدم المعني او المعاني التي درج البشر علي تناولها في المسرح . وانها تمثل صرخة احتجاج ليس علي المسرح فقط بل علي الحياة كلها .
فهم يرون ان العالم ارتبك واهتزت معالمه واركانه وجفت معانيه من كل مضمون ، قيمه تدهورت وضاعت اماله في الحضيض والعدم . لذلك كون المسرح هو المعبر الامين عن الواقع فيكون منطقيا حيث لا منطق ولا معني ، حيث لا دلالة ولا معني ، وعليه جاء هذا المسرح اللامعقول منطقية وكان اللامنطق منطقا .
ان الافكار اليقينية والافتراضات الأساسية الثابتة التي سادت في العصور السالفة قد طرحت ظهريا وانها قد تعرضت للاختيار فثبت هزالها ، بل انها قد نبذت بعد ان ثبت انها اوهام رخيصة وطفولية . لقد ظل تدهور الايمان الديني غير ظاهر حتي نهاية الحرب العالمية الثانية اذ حجبته استار الاديان البديلة مثل الايمان بقيم التقدم والقومية ومختلف خرافات النظم الشمولية ، ثم جاءت الحرب فحممت كل ذلك .
ان كلمة العبث او العبثية لو انتقلنا لهذا المعني النقدي تعتبر خير من كلمة اللامعقول – يقول يوجين يونسكو في مقاله له عن كافكا عام 1957:
ان العبث هو ما ليس له هدف ، فالإنسان يضيع عندما تنقطع جذوره الدينية والميتافيزيقية والروحية ، وتصبح كل افعاله لا معني لها ، ولا جدوي لها ، وتذهب عبثا .
العبث اذن لا يعني اللهو واللعب ، او العبث بالمقدسات والموروث، ولكنه يعني افتقار الحياة الي المعني أي ان الانسان قد خلق عبثا . وهذا فيما يبدو هو المعني الذي رمي اليه من ترجم الكلمة الفرنسية اول الامر . اما كلمة اللامعقول التي اثر الكثيرون استخدامها فيما بد فليست دقيقة اذا ان الخروج عن المعقول او المنطق لا يمثل السمة الرئيسية لهذا المسرح وهو الي جانب ذلك سمة من سمات الوان مسرحية بل وادبية كثيرة ، ولذلك وجدنا احد اعلام المسرح العربي المعاصر الشاعر صلاح عبد الصبور يرفض الكلمتين ويحاول اشتقاق معني جديد لكلمة اللامعقول تقترب من معني اللامنطقي :
لقد ظلمت كلمة اللامعقول حين القاها بعض نقاد المسرح الحديث كثيرا ، اذن المسرح لا معقولا بمعني انه مجاف للعقل ولكن بمعني انه مجاف للقوالب العقلية المسماة بالمنطق . ومن هنا فهو يخضع للعقل العام .
الاختلاف الشكلي :
ربما النقاد لم يوفقوا في تحديدهم للشكل الذي يتميز به مسرح العبث لان كتاب هذا المسرح يحاولون الهروب من الشكل الكلاسيكي وعماده الشخصية والفعل الارادي الذي يشكل اساس الحدث والحبكة المحكمة ، ويعتمدون علي وجود ما يرمز للشخصية ثم يهدمون ما درجنا عليه في التراث المسرحي
اولا : بإلغاء فكرة التطور للحدث والشخصية ،.
وثانيا: بالخروج بالحوار عن منطق التفكير بحيث لا تصبح اللغة اداة توصيل او تواصل بل مجرد اداة تعبير ورمز وإيحاء وثالثا : باللجوء الي حيل مسرحية تشتت انتباه القارئ حتي لا يتوقع الانتقال الطبيعي من توتر الي توتر حتي النهاية .ورغم هذ فان النقاد اجمعوا علي ان هذا المسرح فيه جدة جدير ان يحتفل بها وانه يمثل ظاهرة جديرة بالوقوف لديها .
اذا نظرنا الي المسرح العبثي ليس باعتباره امتدادا للتراث المسرحي العالمي ولكن باعتباره رافدا للمسرح الشعري أي المسرح الذي يعتمد في جوهره علي الاستعارة الدرامية ، وجدنا انه يبدأ بداية عنيفة عل ايدي بيكيت وينتهي نهاية هادئة علي ايدي يونسكو .
اما البداية العنيفة فهي تصوير اللقطة الاستعارية تصويرا دراميا أي نقلها من عالم اللغة الي عالم الفعل . فعندما يوقل الشاعر (والقي الانسان في قمامة الزمان ) يحولها الكاتب المسرحي الي صورة مجسدة مثلما يفعل بيكيت في مسرحية لعبة النهاية حين يجعل الابوين يعيشان في صندوقي قمامة .
وعندما يقول الشاعر تدور بي دوارة الملال : يحول الكاتب المسرحي الي صورة مجسدة لانسان يدور ويدور في كرسي قعيد لا يزوره احد وان زاره احد لا يحادثه مثلما يفعل بيكيت في مسرحية اخري ، وهكذا ، فان هذه الفكرة التي تبدو لا معقولة او عبثية هي في جوهرها صورة استعارية ، بل ان بيكيت قد سبق كثيرا من الشعري المعاصرين الذين تحدثوا عن الانتظار المرير الذي يذهب عبثا ، حين حوله الي حدث يقع بين شخصين تنشأ بينهما علاقة من نوع ما، دون ان تتطور ودون ان يفضي انتظارهما الي شيء . بل اننا راينا كتابا لا ينتمون حسب التصنيف النقدي الي مدرسة العبث يستثمرون هذا اللون من الاستعارة مثل ماردريت دورا في مسرحية ايام فوق الاشجار بينما تحولت نفس الفكر فكرة الزمن الذي يذهب فلا يجيء او الزمن الدي يتحول الي تراب يدفن الفرد حيا –الي استعارة الايام السعيدة لصامويل بيكيت حيث نري البطلة وقد دفنت حتي منتصف جسدها في التراب ، ونري التراب وهو ينهال عليها ويرتفع حتي يصل الي راسها في نهاية المسرحية .
لقد بدأ تطوير الشكل التقليدي حتي يتحقق قدر التجاوب مع المتفرج ، وقد بدا هذا التطوير علي يد يونسكو نفسه حين انتقل من مرحلة الصدمة –مرحلة المغنية الصلعاء ، وهي المسرحية التي احال فيها صعوبة التواصل في عالم ما بعد الحرب الي استعارة مغرقة في غرابتها عن تمزق اوصال اللغة واستحالة ايجاد نسيح من الكلمات قادر علي نقلا لمعاني التي ارتبكت وتبلبلت في ادهان ابناء اوروبا حين انتقل من هذه المرحلة الي مرحلة الخرتيت وهي المسرحية التي صور فيها مخ البشر في عالم الحضارة الحديثة تصويرا يعتمد علي استعارة كبري تقوم علي المفارقة .
وبعد او اوجزت قليلا عن هذا التيار المسرحي سأخذ اهم رواده وهو اوجين يونسكو .
من رواد هذا المسرح الكاتب يوجين يونسكو وهو المولود في رومانيا عام 1912 ولكنه انتقل ليعيش في باريس وكانت اللغة الفرنسية بالنسبة له هي لغته الرئيسية حيث عمل بها مدرسا في مدرسة الليسيه في بوخارست واشتغل بالنقد والادب وبعد الحرب العالمية الثانية انتقل الي مرسيليا وعاش فيها قليلا ولكن حنينه الي باريس جعله يعود اليها وبدأ فيها نشاطه المسرحي المكثف واصبح رائدا للمسرح العبثي (او المسرح الطليعي، كما يحب ان يطلق عليه النقاد الفرنسيون. حيث هذا النوع من المسرح يهدم الجدار للمسرح التقليدي (الكلاسيكي ) فهو يؤسس درامية ومفاهيم تقنية خاصة :
سأستعين بهذه الدراسة القصيرة التي كتبها محمود اسماعيل بدر. عن يوجين يونسكو والتي يوضح فيها اللغة والضحك والاحلام ، والسخرية عند يونسكو
اللغة في مسرح يونسكو :
اللغة في مسرح يونسكو تهدف الي نقل المفاهيم المنطقية الموضعية الي المتفرجين وتهدف الي ابراز سمات الشخصية الانسانية الدرامية لتكشف بوعي عن الحدث الدرامي . وقد ايق يونسكو ان الشخصية ل م تعد سلسلة متصلة لحلقات تقوم علي التتابع الواعي وان الحدث المسرحي قد فقد منابع انبثاقه ومنطقية تطوره وحتمية وصوله الي نقطتي الحل والتنوير ، وبهذا يري ان اللغة لم تعد وسيطة لنقل أي شيء علي الاطلاق وانما اصبحت شاهدا من شواهد العبث علي وجود قائم فقد جعل مثلا في مسرحية المغنية الصلعاء من اللغة مجرد حشوات من المعني تستفز مشاعر الجمهور وفكره .. ذات مركز حيادي ودليل علي جذب الروح واستحالة تفاهمها مع الاخرين وقد اصبحت هذه المفاهيم واضحة في مسرحيات كثيرة له مثل الخرتيت والكراسي والدرس .
الضحك والاضحاك :
عنصر الاضحاك في مسرح يونسكو غالبا ما يكون مجرد مرحلة في البناء الدرامي وحتي وسيلة من وسائل بناء لمسرحية وهو يتحول شيئا فشيئا الي اداة الموازنة (العنصر المأسوي ) وهذا جلي في مسرحية الدرس وفي خاتمتها بالذات حين تم انتحار بطليها الوحيدين والشخصيات هنا تبدأ من مرحلة الكوميك ثم تنتقل الي مرحلة التراجيك في لحظة ما ، ثم تنتهي في الكوميك او التراجيكوميك والاصطلاح الاخير مأخوذ من التراجيكوميديا وتندرج تحته المسرحية ذات النهايتين الهزلية والمأسوية .
الاحلام واللاشعور
الحلم عملية معرفة كالتفكير تماما ، فالحلم نشاط للروح يجلو اعماقها ، ولهدا نجد البطل في مسرحيته ضاحا الواجب يلجأ الي الحلم ليستجلي حقيقة خافية ويهتدي الي ما لا يمكن الاهتداء اليه في اليقظة ، ولدلك يعتبر يونسكو ان الجهد المبذول لنقل الواقع الي المسرح نقلا حرفيا هو مضيعة للوقت وخداع للمتفرج اذا يحمله علي ان يتوهم ان ما من حقيقة الا الواقع ، بينما ان الحقيقة المتخيلة اكثر عمقا من الواقع ..
فالواقعة تجعل الحقيقة تنكمش وتتضاءل ويعتروها التصور المزيف فهي تنظر الي الانسان نظرة منقوصة بينما يكمن الكثير من الحقيقة في احلامنا وخيالاتنا التي يستثمرها المسرحيون ايما استثمار لتقديم بناء مسرحي تعبيري يقوم علي فن التخيل الصعب.
السخرية من المعقول
مسرحية يونسكو اميديه او كما يكون الخلاص ، تصور دثة تنمو وتتضخم في بيت يحيا فيه زوجان ينكمشان ازاء تمدد الجثة . وهذا تصور مضاد للمألوف ، لكنه تصور حافل بشحنة هائلة من الخيالات والافتراضات والتهم والسخرية . هنا موقف فلسفي من الوجود قوامه الارتداد عن أي اعتقاد المطلق في موضوعية الحقائق الخارجية ومن ثم الامان بحقيقة اوسع تسلم بالواقع وما يعبر عنه ..
وفي نهاية المطاف لنستمع الي هذا الحوار النفسي او الداخلي المعبر :
(واللامعقول هو نهاية المطاف ، والحياة لا معقولة ، الموت لا معقول ، هدا اللامعقول يبدو غريبا مثير للدهشة ، يجب ان نقاوم حتي هذا اللامعقول الدي يحيط بنا.)
هذه كلمات انقطها يونسكو لبرانجيه بطل مسرحية (الخرتيت )وما تقدم تحليل مكثف موجز للأسس القائمة عليها مسرح العبث الذي بهر العالم ، ولكنه للأسف لم يعمر كثرا في وجدان ومفاهيم النقاد ولم يستمر كثيرا في بلاده الاصلية حينما انطلق من اوروبا معبرا عن غضبه تجاه سماسرة الحرب وما خلفته من خواء وتفكك اسري ومشوهين ومرضي نفسانيين محاولا من خلال رواده امثال صموئيل بيكيت ويوجين اونيل وجان جينيه وغيرهم ان يتجه نحو تطلعات روحية وانسانية تؤكد انسانية الفرد في غاية التكنولوجيا المعاصرة . انه غريب ولا معقول ويدو للعجب والتساؤل : هل في المسرح حظوظ كما في الحياة ؟
وفي الختام اقول كما كتب ممثل هذا التيار النقدي مارتن اسلن في كتابه عن مسرح العبث في اوج ازدهاره وزعم انه كتاب لن يطويه النسيان، وركز علي ان مسرح العبث يرتكز علي موقف محدد جوهره :
ان الاكار اليقينية والافتراضات الاساسية الثابتة التي سادت في العصور السالفة قد طرحت ظهريا ، وانها قد تعرضت للاختبار فثبت هزالها ، بل انها قد نبذت بعد ان ثبت انها اوهام رخيصة وطفولية . وقد ظل تدهور الايمان الديني غير ظاهر حتي نهاية الحرب العالمية الثانية .
اذن فمسرح العبث لم يكن يرمي الي تصوير (عبثية ) الحياة الا في مراحله الاولي اما ما نراه اليوم من نماذجه التي بلغت درجة كبيرة من النضح فتدل علي اتجاه الكتاب الي تقديم الاستعارة الدرامية التي فتحت افاقا جديدة امام المؤلفين والمخرجين والممثلين .