النجاح بنت محمذن فال في قراءة للقصة القصيرة جدا “نوح ظل” للشيخ بكاي
“نوح ظل”
فتح الظل الحزين ذراعيه يستجدي عناق الراحلينَ وغاب في عويل جارح…
أطلت مراشفُ حلمٍ تبث الحياة، وتنثر الوردَ.. تُغني للناي روح الربيعِ..
أطلت..! …
وكانت تناغي الليالي ..تناجي الظلالَ ضحىً، وتُراقِص ظل الأصيلِ، وتهمس في أذن الظل أسرار عهد الظلالِ.. وعهدِ السهولِ.. وهمسِ البطاح وشدو التلال…
تهللَ الظلُّ .. هفا…
وكان عناق الريح تسفو على وجهه الرملَ..
قهقهت الرامساتُ تُدحرج نعشا…“
القراءة:
الظل ملاذ المحبين إليه يأوون هروبا من هول الرقيب ؛ واحيانا ياتي الظل لطي عنق الزمن حيث يوحي بما تبقي منا .. ذلك القليل المجسم لأحلامنا التي تاهت ولم يبق إلا ظلها ..
لكن الظل هنا توق للمستقبل علي غير العادة. وذلك لما تقتضيه القصة القصيرة جدا من الإبهام والتناقض !
يفتقد الظل هنا للانسنة في تجليها لدى المحبين ولذلك (فتح ذراعيه يستجدي، فهو في مدلوله العادي نوع من الطلل
اذ هو اثر لكائن ما ومجازا هو اثر لحياة ما ..
لكنه هنا تعبير عن حالة لم تكتمل، بكاها الظل الذي يرمز للعاشق إلى درجة النوح .. وقد جاء على غير مدلوله الأصلي إذهو يرمز اصلا إلي تجسيم لما تولي، بينما هو هنا يبكي توقعا لم يتم ولو أنه أطل ! (أطلت )
أما أطراف اللقاء فهي
ذكر
انثي
- ذكر يعبر عنه الظل ، مع أنه في دلالته المعجمية يحيل إلي التذكير والتأنيث معا ، إلا أن العلاقة الإسنادية اوحت هنا بكونه يشير للتذكر باستخدام ضمير المذكر في المفعول به (ذراعيه) المقترن بضمير المذكروفي فعل(يستجدي).
يأتي الاستجداء ليصطدم بخيبة ولدت من الحسرة ما قدر لها أن يكون .. وينسجم ذلك مع فعل أطل بإيحيائه للمستقبل لا إلى الماضي ..
- اما الانثى فقد عبرت عنها الاحلام
عن طريق العلاقة الإسنادية (أطلت مراشفُ حلمٍ تبث الحياة،)
يأتي فعل أطل في ثنائيته التراكمية (أطلت مراشف الحلم ، أطلت !! ) ليكشف المستور الذي حاول البطل الظل طمْره في(عويل جارح ) لكن فعل ( اطلت )جاء ليفضح الاستجداء ..إنه توق للقائها وقد أطلت
(أطلت..! …
وكانت تناغي الليالي ..تناجي الظلالَ ضحىً، وتُراقِص ظل الأصيلِ، وتهمس في أذن الظل أسرار عهد الظلالِ.. وعهدِ السهولِ.. وهمسِ البطاح وشدو التلال…)
ثم ينفضح السر أكثر ! حين تحل الآذان محل الجفون على غير عادة المحبين (وتهمس في أذن الظل أسرار عهد الظلالِ )
عندئذ تكتمل فرحة الظل بمجرد الإطلالة و يحدوه الأمل بلقاء الانثى
( تهللَ الظلُّ .. هفا… ) وليس ذلك بالامر الغريب في ادبنا العربي فهذا قيس :
هنا أَبَعْدَ انْتِهاء القَلْبِ بَعْدَ هَفائِه،
يَرُوحُ عَلَيْنا حُبُّ لَيْلَى ويَغْتَدِي؟
وتعطي ثنائية الدلالة المعجمية للفعل هفا لتضفي علي القصة القصيرة نوعا من الكثافة منقطع النظير ، فهو يعني: هفاء الظباء في سرعتها الذي يوحي بإطلاق العنان للعاشق في حرية وسرعة الظباء مما يعزز التوق للقاء ..
كما في قول قيس ليلى :
هنا أَبَعْدَ انْتِهاء القَلْبِ بَعْدَ هَفائِه،
يَرُوحُ عَلَيْنا حُبُّ لَيْلَى ويَغْتَدِي؟
وهو كناية عن حالة الخيل عندما تفتح ذراعها عدوا كما كان الظل المتمثل في العاشق يريد أن يفتح ذراعه لعناق حبيبته
لكن الخيبة هي ما عانق الظل فاجتمعت كل آليات الفشل الواردة في صيغة التأنيث لتسحق حلم الذكر:
( وكان عناق الريح تسفو على وجهه الرملَ..
قهقهت الرامساتُ تُدحرج نعشا…)
لتنسجم القصة القصيرة نوح ظل مع مضامين الشعر العربي القديم في سخطه على الأنوثة متجلية في دلالات التأنيث في هذه الألفاظ (الريح، تسفو قهقهت الرامسات ، تدحرج )
آمر عبر عنه بعضهم في حسرته على آليات الفشل ومنها الرامسات التي تقضي على الانسنة التي يبكيها العاشق هنا
يقول عنترة
لَعِبَت بِها الأَنواءُ بَعدَ أَنيسِها =
وَالرامِساتُ وَكُلُّ جَونٍ مُسبَلِ
وبما أن الظل الذي تصدٌر القصة لا يرمز إلي الذكر دون الأنثى ، إلا بما تمليه العلاقة الإسنادية ظلت القصة القصيرة جدا نوح ظل وفية لمستوي الإبهام الذي اتسمت به منذ البداية خاصة في خاتمتها بالرامسات تدحرج نعشا ..
فهي إذا لا تعزو فشل اللقاء إلي الذكورة دون الانوثة فالنعش يعبر عنهما معا نظرا لدلالته المعجمية المعبرة عن ذلك فكلا العاشقين دل عليهما لفظ النعش الذي يتميز بأنه لا ظل له ، مما يعني أن حياتنا العاطفية قد تبقى دون ظلال حتى !
كل ذلك يعزز انتماء القصة إلي الأدب السريالي ، لم لا ؟