ثقافة وفنموضوعات رئيسية
قراءة في رواية “جنوبي” لرمضان الرواشدة جنوبي يجولُ شمالًا وشرقًا وغربًا وما بيْنَهُم / سلمى جبران
قرأتُ نص رواية “جنوبي” مرّتَيْن ووقفْتُ متأمِّلَةً، فرأيْتُ الفقَرات والأحداث تتنقَّل بين الأمكنة والأزمنة بروح مغامِرة واضطُررتُ أن اتتبَّعَها كي تصبحَ رؤيتي واضحةً تمكِّنُني من تمييزِ السطور وما وراء السطور.
لسْتُ ناقدة ولكنَّني قارئة يتحدّاها النص فتتحدّاهُ وتبذُلُ جهدًا حتى تصِلَ إلى أعماقِهِ!
عندما يُبنى النص من سياقات متعدِّدة ويتحوّلُ إلى لوحةٍ فنّيّة شخوصُها تخرجُ من الإطار، يصعبُ على القرّاء لملمة الأجزاء وجعلُها كُلًّا.
القراءةِ الثانية طالت وتشعّبت وراحت بي إلى نصوصٍ صوفيّة عديدة وإلى أدبيّات عقائديّة محلّيّة وإلى قضيّة القضايا وإلى عبد الناصر، وحثَّني النصّ على الدخول في كل تفاصيلِهِ وعلى معرفة جوّ الأحداث وأبعادِها، في حين أنَّ القراءة الأولى لم تترك بي أثَرًا يُذكر.
يُستَهَلُّ الكتاب ببيت شعر من المواكب لجبران خليل جبران:
وأكثر الناس آلاتٌ تُحرِّكُها أصابعُ الدهر يومًا ثُمَّ تنكَسرُ
وجدتُ البيتين التاليين في قصيدة جبران أيضًا يدُلّانِ على السيرة الذاتيّة لجنوبي وعلى المواقف والمبادئ التي يطرحُها:
فلا تقولَنَّ هذا عالِم عَلَمٌ ولا تقولَنَّ ذاك السيِّدُ الوَقُرُ
فأفضلُ الناسِ قِطعانٌ يسيرُ بها صوتُ الرعاةِ وَمَنْ لم يمشِ يندَثِرُ
واستوقفَني اقتباس في أول الكتاب ص 7:
“وأغرب الغرباءِ من صارَ غريبًا في وطنه، وأبعدُ البعداءِ من كانَ بعيدًا في محلِّ قُربِهِ، فسِرُّهُ عَلَن وخوفُهُ وطن” من كتاب الإشارات الإلهيّة لأبي حيّان التوحيدي في النثر الصوفي.
وهذان الاقتباسان ينطبقان تمامًا على رواية جنوبي.
وجدتُني أمامَ روايةٍ تصفُ الحياةَ على عواهِنِها وبعفويَّةٍ متزايدة حيث الزمان والمكان يندمجان ليُتيحا للمؤلف / الراوي /البطل أن يتنقّل بلا قيدٍ بين الأحداث بزمانِها ومكانِها، وبين شخصه وشخوصٍ من الماضي، بصوت واحد: بضمير المتكلِّم والمخاطَب والغائب.
الأب سَمعان تنبَّأَ لجنوبي بالغربة: “وُلدتَ غريبًا وتعيشُ غريبًا وتموتُ غريبًا، ولكنَّكّ ستكونُ معَ الرّب في ملكوت السماوات”ص8. هل الأب سَمعان والد جنوبي أم أنَّ سمعان كاهن؟! غير واضح في النصّ. هل المقصود من العنوان، وهو اسم الشخصية المركزيّة، أنَّ الجنوب في معظم البلدان العربيّة مرتبط بالهمّ اليومي والإهمال العام لعدم وجود التطوير؟ هل شخصيّة جنوبي تقمَّصت شخصيّة الجنوبي في قصيدة الجنوبي للشاعر أمل دُنقُل؟
وتبدأ الرواية ص 9-12 بوصف جغرافي اجتماعي للمكان الذي عاش فيه جنوبي بأُسلوب متعدِّد الألوان، يصل حكاية بأُخرى ومكانًا بمكان وزمانًا بزمان. أسلوب فيه من التداعي ما يجعل الحكايات دراما يعيشُها الراوي ويسترسل بها فيعيشُها القارئ. تمتدّ هذه الدراما من معسكرات الجيش إلى الأحياء والعشائر: الشوابكة والطفايلة والمعانيّة، وأم عوض الهباهبة، والدكاكين (محمد الطفيلي وأحمد موسى) والمطاعم والمدارس والسجون والقصور الملكيّة والاحتفالات ومجمّع الباصات وإربد ومعان وفلسطين. كل ذلك في الصفحات الأربع الأولى! والرواية مليئة بالمفردات الشعبيّة المتواجدة في منطقتنا.
فصل جديد ص 13عنوانه: مقتطفات من حياة جنوبي بن سمعان طفولة معذّبة ومعاناة وقسوة الأهل والحيّ وفصول من الجهل والقهر والإذلال. قصّ مطوَّل يصوّر المعيشة بكل تفاصيلها وأناسِها ومحيطِها وأحداثِها ومعاناتها نفسيًّا وجسديًّا… وهنا يورد مقطعًا من قصيدة الجنوبي للشاعر المصري الصعيدي أمل دُنقُل:
بدايتها: هل أنا كنت طفلاً، أم أن الذي كان طفلاً سواي/ هذه الصورة العائلية
كان أبي جالساً، وأنا واقفٌ.. تتدلّى يداي/ رفسةٌ من فرس
تركت في جبينيَ شَجًّا/ وعلَّمت القلبَ أن يحترس
نهايتُها: فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكونَ الذي لم يَكُنْه/يشتهي أن يلاقي اثنتين:
الحقيقة والأوجُه الغائبة.
وأقتبس ص24: “هذه الصورة التي رسمها الشاعر أمل دُنقُل تسيطر عليَّ وأنا أتذكّر بدايات الألم والحب والمعاناة والفقر الذي حوَّلَنا في الجنوب إلى أشباه أُناس، بالكاد تعرف ملامحَهُم! فالطفولة غير الطفولة، وما زالت رفسة الفَرَس علامة فارِقة” انتهى الاقتباس. وهنا خَطَرَ لي كلامُ الجامعة ابن داود الملك: “باطِلُ الأباطيلِ باطل، الكلُّ باطل”!
والآن بعد هذه الذكريات المعبّأة بالمشاعر والألم والصّدْق، هل يشي لنا ضمير المتكلِّم بسيرة ذاتيّة للكاتب؟ يبقى السؤالُ هنا سؤالًا! وتمتدّ هذه الذكريات عبر الأزمنة والأمكنة إلى أيام الجامعة ببراءتها ومُتَعِها الجميلة وتنتهي بموت والد جنوبي وهو ابن 16 عامًا، وحينها مَنَعَهُ إخوَتُهُ من توديعِ والِدِهِ لحظةَ وضْعِهِ في القبر، ويقول عن ذلك، أقتبس: ص 31 “أُصبتُ بما يشبهُ الصدمة النفسيّة التي حَمَلتُها معي، وحملتُ غضبي على إخوتي حتى الآن…أحببتُ أبي كثيرًا … انكسر شيءٌ في داخلي تجاه هذا العالم المجنون، وكِدْتُ أكفُرُ بكلِّ شيء.” انتهى الاقتباس. وَهُنا، أرى تشخيصًا ذاتيًّا سليمًا لهذا الحَدَث من طفولَتِهِ!
جنوبي لم يُرِد التعلُّم في الجامعة وأرادَ أن يدخل سلاح الطيران، ولكنّ جامعة اليرموك حوّلتْ مسارَ حياتِهِ من حلم الدفاع عن سماء الوطن إلى شاب ثوري مُطارَد يُسجَنُ أربع مرّات بسبب أفكارِهِ والمظاهرات التي شارَكَ فيها. ص33. وبعدَ هذا البوح تأتي الأسئلة الوجوديّة التي تستند إلى آلام الماضي وتلتقي مع صدمات الحاضر. عاد إلى جامعة اليرموك وتنقّلَ من تنظيم “أردن دمقراطي” إلى تنظيم طلّاب يساريين وإلى مجلّات فكريّة، وظلَّ مُطارَدًا من إربد إلى عمّان حيثُ سلّموهُ إلى أجهزة الأمن ليقضي ثلاثةً وسبعين يومًا في سجنِ المُخابرات. بعدها صدر عنه عفو وعاد إلى الجامعة وعانى ضرباتٍ عديدة وفي النهاية خرجَ من الجامعة مع لقب أوّل في الأدب الإنجليزي.
فصلٌ آخر: تحوّلات الفتى جنوبي ويتفرّعُ إلى سبعِ ليالِ:
الليلة الأولى: اللقاء بالمفكّرين الناصريّين تحت شعار: “ما أُخذَ بالقوّة لا يُستّرّدُّ إلّا بالقوّة” جعلهُ يفكّر: أقتبِس ص46 “وكنتُ أعجبُ كيفَ لفِكرٍ أن ينتَسِبَ إلى شخصٍ، وعبد الناصر لم يكن مُوَفَّقًا في كثيرٍ من قراراتِهِ وتَرَكَ المخابرات تعيثُ في الناسِ فسادًا” انتهى الاقتباس. وأنا أسأل: هل ما أحبَّتِ الناس حينَها طلَّة عبد الناصر الرجوليّة اللافتة وصوْتَهُ وكلامَهُ وشعاراتِهِ الرنّانة!!؟
الليلة الثانية: الفدائيّون والمقاومة وحياة رجالِها والأغاني المُلهِبة لمشاعِرِهم الوطنيّة.
الليلة الثالثة: شارع الهاشمي وشارع الرشيد والمظاهرات والاعتقال الانفرادي ومجزرة اليرموك بعدَ دخول قوّات البادية إليها.. والحُلُم الدونكيشوتي ببناء عالم جديد وحرْق مُهلِكِ الشعوب، والأغاني الثوريّة للمعلّم تشي جيفارا. ولكن بعدَ انهيار الاتحاد السوفييتي، ترك الرفاق أحزابَهُم وتحوّلوا إلى الأعمال الخاصّة ومنهم من تدَيَّنَ وأصبحَ من روّاد المساجد. ص56.
الليلة الرابعة: عشْق وأغاني شعبيّة وركض موْضِعي.
الليلة الخامسة: الصوفيّة والعشق الإلهي وقصيدة رابعة العدويّة:
عرفْتُ الهَوى مُذ عَرَفْتُ هواكْ وأغْلَقْتُ قَلْبِي عَلىٰ مَنْ عَداكْ
وقُمْتُ اُناجِيـكَ يا مَن تـَرىٰ خَفايا القُلُوبِ ولَسْنا نراكْ