تلك الصحفيّة الناشئة التي اتصلت بي لتبدي إعجابها الشديد بكتاباتي، ثُمّ لتفصح بعد ذلك عن هدفها الحقيقي، ببساطة أن أساعدها في كتابة مقالها الأوّل، لأنها تريد أن تضع رجلاً أو قدماً صلبة كما صحّحت نفسها على أول الطريق، وبمساعدتي بلا شك سيكون المقال قويّاً ومحكماً، مما سيعفيها من ملاحظات رئيس التحرير اللاذعة فهو الذي حوّلها من مراسلة إلى كاتبة، ولا تريد أن تُخيّب ظنّه أو تفتح له المجال ليتمنّن عليها أو يقوم بتصحيح كتاباتها بنفسه، هذا الشرح المطول على التلفون انتهى بلقاء في مقهى الفاروقي حيث ضربت لها موعداً، ولم نكن لنبدو كعاشقين بالطبع أنا بشعري الأشيب وهي بشبابها المتألّق ومع ذلك لم تعتقنا النظرات المتطفّلة!
كانت أول ملاحظة لي أنها لفتة مبشرّة أن تعتني بتصحيح اللفظ على التلفون من رِجل إلى قدم ثابتة، بمعنى أن الحسّ الصحفي متيقظ لديها، انتهى الأمر على ما يرام، وتتابعت اللقاءات بعد ذلك ولكن في مكتبي الخاص، وهي لقاءات آمنة لأن مكتبي كان مفتوحاً للجميع وليس فيه أية خصوصية.
وفي يوم حضرت وكان هناك صديق لي بطبعه قليل الكلام وغير فضولي، ولذا أتممنا العمل بحضوره، غير أنّي فوجئت به بعد أن غادرت، ينهض مندفعاً من على مقعده ويكلمني بانفعالٍ بادٍ ولكن دون أن يرفع صوته كأنه يحرص على أن لا يسمعنا أحد:
– هذي البنت مش رايحة تجيبها البر…هل رأيت الطريقة التي تنظر إليك بها..كأنها تنظر إلى سوبرمان أو ملك جمال العالم، قولبها زي ما بدك، ولكن النتيجة نفسها، صدّقتي خطوة خطوة ستستدرجك إلى الزواج!
ضحكت كثيراً وهززت رأسي تعبيراً عن الإستخفاف بما ذهبت به إليه الظنون!
ولكن ذلك لم يهز قناعته، وأكّد بإصرار وهو يدق بسبباته وجه المكتب:
– إصبر وسترى! ثم عقّب في استعراضية متمثلاً ببيت الشعر:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالاخبار من لم تزود.
تجاوزت الأمور بيننا حدود الألفة حتى صارت تعد لي القهوة على موقد الغاز الصغير في المكتب، ولاحظت أحياناً أنها تطيل الصمت وكأنها تكتم شيئاً تود البوح به، مما أثار هواجسي واستعدت حديث صديقي، وبدأت أجري الفرضيات في ذهني: ماذا لو ألمحت لي بالزواج، هل أوافق؟.
وأخيراً جاء اليوم الذي كنت أتحسّب منه، جلست بوقار على كرسيها المعتاد على طرف المكتب، اتكّأت بمرفقها على سطحه اللامع وانكشف بياض ساعدها لتعلن لي بوقار وجدّية:
– لقد تقدّم أحدهم لخطبتي أو لنقل الزواج مني وهو من أقاربي البعيدين ومقيم في كندا!
مسحتها بعيني متفحصاً، ووجهت إليها السؤال مباشرة وأنا أنظر في عينيها لأقطع الشك باليقين:
– هل هذه حقيقة، ام أنك تجرّين رجلي لأقول شيئاً بخصوصنا؟
– أستاذ! أنا لا اكذب عليك، ولا أجرؤ على ذلك حتى لو أردت، أنت لا تعرف ماذا أنت بالنسبة لي!
جاشت نبرتها بالعاطفة، بأسوأ مما كنت أتوقعه، ولكني لم أفقد رباطة جأشي و حرصت على أن أظل متماسك التبرة وأنا أصرّح وكأنني في لقاء صحفي أو ندوة تلفزيونية:
– إسمعي فاطمة! أنا لا أنكر شعوري نحوك، ولكن شعورك نحوي قد يكون مليون ضعف شعوري، بحكم سنّك وحرارة عواطفك…وسأقولها لك بلا مواربة: ارتباطك بي يعني الوقوف على أرض رخوة، لا ندري متى ستخور بنا، ولا داعي لأن أشرح لك أكثر فأنت ذكيّة بما يكفي، أما ارتباطك بهذا الشاب، إذا لم يكن هناك ما يعيبه، فهو الوقوف على أرض صلبة ستمضي بك إلى المستقبل الذي تحلم به كل شابّة: أولاد.. عائلة..كل هذه الأمور!
اغتصبت ابتسامة وكأنها تعض على خيبة أمل لم تخفها:
– سأجرّب والحياة تجربة، ونحن الصحافيون خير من يدرك ذلك…سأكتب لك من هناك، فلا تبخل علي بالرد!
لملمت ثوبها مصدرة حفيفاً خفيفاً واتجهت نحو الباب وأدارت راسها ملقية علي نظر أخيرة وأصختُ حتى تلاشى صوت أقدامها على بلاط الممر الطويل