قراءة في “تداعيات رجل معلق بقشة” لعبدالرحيم العدم/مجدي ممدوح
22 نوفمبر 2022، 11:32 صباحًا
ما الأدب؟..ما الفن؟. لقد أجاب شيخ النقاد أرسطو على هذا السؤال، واضعا بذلك أول نظرية حول طبيعة الأدب في التاريخ. وبالرغم من أن تنظيرات أرسطو كانت مستقاة من فن التراجيديا، إلا أن النقاد سرعان ما اكتشفوا أن هذه التنظيرات تصلح لكافة الفنون. الفن محاكاة للواقع، هذا ما قاله أرسطو…هكذا بكل بساطة. هل تبدو الفكرة بسيطة؟ هي بسيطة بكل تأكيد، ولكن فضيلة أرسطو أنه قطع مع كل التصورات الميتافيزيقية لمنبع الفنون. فالفنون تحاكي الواقع الحياتي. ولكن هل يكفي النقل الأمين للواقع لصناعة الأدب؟ لو كان الأمر كذلك لأصبح الواقع أكثر أدبية من الأدب، ولأصبحت الصورة الفوتوغرافية أعظم من أي لوحة فنية . المحاكاة إذن ليست محاكاة مباشرة، بل هي محاكاة انتقائية، حيث يختار الأديب عناصر منتقاة من الواقع ويصنع منها توليفة جديدة ويحيلها إلى عمل أدبي . فهو يحتار أحداثا منتقاة وشخوصا منتقين من الواقع وفق رؤيته ووفق الفكرة التي يريد التعبير عنها. فالمحاكاة هنا محاكاة ذكية . كيف ينبثق الأدب من الواقع ؟ هذا السؤال يجيب عليه كل أديب على طريقته الخاصة. ولكل أديب توليفته السرية وتمائمه السحرية الخاصة به والتي تحيل الواقع إلى أدب. هذه التوليفة السحرية لا يكشف خيوطها في الأغلب إلا النقاد. ولكن ثمة توجهات حديثة في الفنون تتجه نحو الإفصاح عن هذه الخيوط السرية داخل النص.
نصوص عبد الرحيم العدم توفر لنا فرصة ثمينة لفهم الترسيمة التي يتم وفقها تحويل الواقع لأدب قصصي. وهذا يوفر فرصة ثمينة لمن يروم دخول عالم القصة القصيرة. ربما يكون عبد الرحيم من القلائل الذين يُدخلون القارئ للمختبر السردي لكي يعاين الواقع وهو يتحول بسحر ساحر إلى أدب. نصوص عبد الرحيم تكشف عن المحاكاة بشكل لا لبس فيه، وتنفي أية تصورات ميتافيزيقية حول الأدب. في كل نصوصه نجد صورا متنوعة من الحياة اليومية بكافة أطيافها. نصوص عبد الرحيم تتعامل مع اليومي والراهن والحاضر والعادي وتنفخ فيه من الروح الإنسانية فتحيله لأدب. التعامل مع اليومي والراهن لصناعة الأدب ليس بالأمر السهل، فمن السهولة بل من الخطورة أن يقع الكاتب في فخ المباشرة التي تقوض أي عمل فني. لا أزعم أن عبد الرحيم على دراية بكل هذه الترسيمات والنظريات حول الأدب، ولكنه يدرك بغريزته الأدبية كيف ينفث في عناصر الواقع التي يرصدها بشكل يومي ويحيلها لأدب.
لنتأمل نصوص عبد الرحيم: بائعة العطور الجميلة بلهجتها المخملية التي نصادفها في المولات، حدث يومي عادي وشخصية يومية عادية نتعامل معها وهي تعرض لنا عطورها لينتهي بنا المطاف لأن نشتري، أو لا نشتري ربما. ولكن عبد الرحيم يلتقط هذا العادي واليومي بعيني نسر، ويحيله بمهارة خيميائي عليم إلى نص قصصي. يبدأ عبد الرحيم سرده بمنتهى البساطة حتى ليخيل للقارئ أنه يسرد خبرا عاديا، ولكنه في نقطة معينة، وفي لحظة انعطاف، ينقلنا لكي نتواطأ معه في رؤية غائية للواقع. علينا الانتباه دائما أن الواقع أعجم لا يمكن أن يقول شيئا، بل نحن الذين نقوِّل هذا الواقع وننطقه بما نشاء. وهنا نقف على معلم مهم من معالم الفن كونه إبداعا للروح الإنسانية. كل ما موجود في الطبيعة بشكل تلقائي من جمال لا يمكن أن يكون فنا. الفن هو ما يبدعه الروح الإنساني. وهذا تحديدا هو ملخص نظرية هيجل في الفن. عود على بائعة العطور التي تصطاد السارد في أحد المولات وتستدرجه لكي يصرف النقود التي في جيبه على العطور ويعود محملا بحقيبة العطور بدلا من الألبان والخضار واللحوم والخبز. هنا تتكشف المفارقة والتي لا غنى عنها في الفن القصصي. هذا النص ينجح في عقد مقارنات صادمة بين الزوجة وبائعة العطر، بين الواقع الصلب القاسي والحلم الأثيري. بين العطر واللحم. وهذه المفارقة هي التي تطحننا كل يوم من الصباح حتى المساء ونقف أمامها بلا حول ولا قوة.