من عنوان المجموعة القصصية “سكاكين جاهزة وبالخدمة” تشدنا الكاتبة د. مرام أبو النادي لمجموعتها القصصية، فهو عنوان ملفت للنظر ومثير للتساؤل وخاصة لمن يعرف الكاتبة وهدوئها ورقتها، وفي نفس الوقت يدفع القارئ للبحث عن ماهية هذه السكاكين وخاصة أنها وعلى الغلاف الأخير وتحت صورتها تورد العبارة التالية: “في الحياة أرواح تحفك بالود أشواكا وتفرش لك أزاهير المكر بابتسامة لا تتجلى الا في لحظات خلواتك في غيابهم سكاكين تحز، فحذار من دمك المسفوح على تربة طيبة”، فهل هي السكاكين المقصودة بالعنوان أم أن هناك سكاكين أخرى داخل النصوص؟ والمجموعة القصصية من اصدار جفرا ناشرون وموزعون مع لوحة غلاف يتناثر الألم في مساحاتها وصورة بالأسود والأبيض قبل كل قصة، والمجموعة من 108 صفحات من القطع الصغير وصدرت هذا العام 2022م مكونة من ثلاثة وعشرين نصا.
القصة فن سردي عرفه العرب تاريخيا من خلال الحكايات التي كانت تعتمد السرد القصصي الطويل، ومن يقرأ في تاريخ الأدب العربي يجد أمثلة على ظهور القصة في الأدب العربي ومنها قصص تحدثت عن قصة حب الشاعر عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة الملقب بالمرقش الأكبر مع أسماء بنت عوف ابنة عمه، وقصة زنوبيا والمعروفة بالزباء ملكة تدمر، وقصص وردت في كتاب سراج الملوك لمؤلفه أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف والمعروف بلقب الطرطوشي نسبة لمدينة طرطوشة الأندلسية التي شهدت مولده، وكذلك بعض ما ورد في كتاب التبر المسبوك لأبو حامد الغزالي وكذلك تميز أبو جعفر أحمد بن يوسف والمعروف بإسم ابن الداية بمؤلفه “المكافئة” من إحدى وسبعين قصة.
وليس بالامكان تحديد جذور الحكاية والقصة وأين بدأت فهي من تراث لكل الشعوب، وإن تطورت الى شكلها الحالي في مرحلة متقاربة بين أوروبا وبين البلاد العربية، فالقصة كما الحكايات التراثية تقوم على الحدث وخيال الكاتب والواقع المعاش، ورغم ما تعرضت له القصة من هجران حتى أن البعض اعتبر أن القصة ماتت وحلت الرواية مكانها، إلا أني أرى أن القصة كانت وستبقى الأصل في السرد ومن رأيي ورأي العديد من النقاد أن التعامل النقدي مع المجموعات القصصية أصعب بكثير من الرواية ويمثل أزمة بحثية لدى الناقد ولدى القارئ، فالبحث في مجموعة قصصية عن عوامل الترابط بينها وما في ذهن القاص واختلاف الأحداث فيها والأزمنة والأمكنة ليس بالأمر السهل، بينما الرواية تروي حدث بفكرة واضحة يلعب بها خيال الكاتب دوره من خلال شخصية الراوي وهي الشخصية الرئيسة والشخصيات الثانوية، وتسلسل الأحداث في مكان وزمان واضحين بعكس المجموعات القصصية ذات التنوع والفضاءات والأمكنة والأزمنة والتأثيرات النفسية على الكاتب خلال فترة كتابة القصص، وهذه المقدمة كان لا بد منها بعد قرائتي الثانية للمجموعة والبحث في المحاور التي رأيت أنها تدور حولها.
ad
المحور الأول: معاناة المرأة..
نلاحظ ومنذ القصة الأولى أن المحور الأول في مجموعة د. مرام القصصية هو معاناة المرأة في حياتها، وهذا يتجلى بوضوح في قصتها الأولى “حقائب الخذلان” حيث المرأة كانت بالنسبة لزوجها مصدر مالي من خلال عملها، وحين أنجبت طفلين وتفرغت لتربيتهم وفقد زوجها المصدر المالي طلقها وذهب ليبحث عن امرأة أخرى تكون له مصدر مالي، بينما في قصة “خفيف الظل” نجد الزوجة تعاني من شخصية زوجها المرح خارج بيته وخاصة مع النساء مما يثير غيظ الرجال منه، بينما في بيته ينقلب الى العكس فيهمل زوجته وأسرته ونجد ذلك في خاتمة القصة بقول القاصة: “سألته إن كان يرغب بتناول العشاء.. لم يرد عليها.. كررت عليه السؤال.. صرخ في وجهها كعادته بأن كل ما يحتاجه الهدوء.. الهدوء فقط وإغلاق فمها والذهاب للنوم”.
بينما في قصة “ملكة بالريموت كونترول” نجدها تشير لمدى سطوة الذكر على المرأة في مجتمعاتنا يرفعها متى شاء ويحطمها متى شاء حين يقول لها “أنت عبدة من عبيدي”، ومما يلفت النظر استخدام كلمات أجنبية للعنوان “Remote control” بينما هو في العربية “جهاز تحكم” وهو الأجدر أن يكون العنوان، ونجد نفس السطوة الذكورية بقصة “مقص فضي” من الزوج على زوجته التي يهديها مقص بدلا من أن يأخذها الى “الصالون” لتقص شعرها عندها بعد طول اهمال فهو يعمل مزين ولديه محل لعمله يمارس مهنته فيه وأيضا هنا كان استخدام كلمة “كوافير” للمهنة بدلا من مزين بالعربية وهي كلمة فرنسية coiffures”، بينما في قصة” فنجان القهوة” والتي أخذت شكل ومضة طويلة نسبيا نرى كيف تبدأ علاقة اثنين مع اثنتين على فنجان قهوة، الأولى تنتهي بالاستغلال والثانية بالفراق، وتشير لمعاناة سلوى في قصة “يوم الحب” مع زوجها الذي يرفض أن يقدم لها وردة ولكنها تتفاجأ حين تراه من بعيد يقدم الشيكولاتة والورود لفتاة عشرينية بمطعم وهي كانت ذاهبة لتفاجئه بأنها حامل.
المحور الثاني: المشكلات النفسية..
وهذه المشكلات النفسية لدى المرأة مستمدة فعليا من فهم دقيق لنفسية المرأة، فلا نجد الا نادرا نساء لا يعانين من بعض هذه المشكلات النفسية وفي قصة “لو كنت قصيرة” استخدمت القاصة حالة من هذه الحالات لفتاة تتمنى لو أنها كانت قصيرة الطول فهي ترى أن “القصيرات أكثر طفولة ومرحا وكأنهن خلقن الآن” بينما وكما ورد في القصة “لم تكن تعرف أن القصيرات كن يرمقن مجيئها بعيون حاسدة”ويتمنين لو أنهن يمتلكن طولها، وفعليا بالكاد نجد فتاة معجبة بإسمها أو بشكلها أو بملامح جسدها أو غير ذلك، بينما في قصتها “خبز بمذاق لحم بشري” نراها تورد أنموذج لإمرأة تقوم بشراء الخبز للمحتاجين ولكن في نفس اللحظة تبدأ بالنميمة والاستغابة.
في قصة “المناصب تحتم” نرى كيف كانت الرغبة النفسية بالحصول على المال تجعل المرأة أن تقبل بالعيش عشيقة لمسؤول في الخفاء وفي عالم الظلام، بينما في قصة شجرة التين تحدثت عن مشكلة الزوجة وكراهيتها لأخت زوجها، بينما في قصة “يوم عادي وممل” أوردت ثلاثة نماذج لنساء الأولى تريد الزوج الثري وتتخلى عن حبيبها والثانية لا تهتم الا بعمليات التجميل وقصات الشعر والثالثة التي ترى أن كل أيامها عادية ومملة بدون صخب وأحداث ومغامرات، ونرى في قصة “عاملة المسبح” كيف أن النساء “أتين إلى المسبح من كل فج عميق.. ولكل واحدة مأربها.. إلا أن السباحة بحد ذاتها لم تكن من تلك المآرب”، وفي نفس الوقت “يرمقن بعضهن بنظرات الغيرة أو التعالي.. وفي الحديث يجاملن بعضهن بلسان مغموس بالعسل.. والسم يسكن أجوافهن”.
المحور الثالث: المشكلات الإجتماعية:
وفي هذا المحور انتقلت الكاتبة إلى بعض من المشكلات الاجتماعية المنتشرة في مجتمعاتنا بشكل واضح وملموس، ففي قصتها “الحذاء ذو الرباط الزهري” تستخدم شخصية ذكر بميول شاذة يتهامس عنها الجميع، ولكنهم يمارسون النفاق له كمسؤول بعد أن دعاهم على الغداء وللمتعة في مزرعته فنرى أن “الجميع بات يقسم بأن لا أحداً سيمثلهم خير تمثيل سواه”، بينما في قصة “مروحة بالسقف” نجد الكاتبة انتقلت لمشكلة الفقر والبطالة وكيف أن زيادة سرعة المروحة أسقطت السقف على الفقير فمات، بينما في قصتها “أنتم السابقون وأنتم اللاحقون” تحدثت عن مشكلة اجتماعية ملموسة وهي المشاركة من الأصدقاء بدفن الميت وقبل مغادرة المقبرة يرتبون أين تكون سهرتهم، وإن كان هناك خطأ فني بطباعة القصة مرتين في نفس الصفحة، وعالجت مشكلة اجتماعية أخرى في قصة “الكبرياء الضال” وهي مشكلة التكبر والعنجهية من بعض الأشخاص وسلوكهم السيء مع الغير.
بينما في قصة “طيور تغرد فزعا” استخدمت شخصية الطفلة ياسمين المؤدبة والتي أحسنت أمها تربيتها سلوكا وخلقا، والتي تشاهد وتعاني من اساءات الزميلات في المدرسة لها ولغيرها وهذه من مشكلات الأطفال في المدارس حتى انهاء الثانوية، وفي قصتها “طبيب بعقد نفسية” تناولت كيفية تصرف بعض الأطباء مع المراجعين وردة فعل المراجع للطبيب، أما في قصتها “سكاكين جاهزة وبالخدمة” والتي أعطت المجموعة أسمها فقد بحثت في مشكلة اجتماعية تتلخص كيف كانت تصرفات الأصدقاء وتخليهم عن مأمون الذي لم يقصر مع الأصدقاء حين كان بصحة وعافية، فأصبحوا كما السكاكين حين احتاجهم بعد أن أصبح مقعدا بسبب وقوعه وإصابته بالشلل، وهذه القصة ذكرتني بالمثل التراثي: “حين يقع الجمل تكثر السكاكين”، ونلاحظ أيضا استخدام كلمة “برواز” في نهاية القصة وهي كلمة فارسية وكان الأجدر استخدام كلمة “إطار” العربية، بينما في قصتها “اللص الشريف” كانت تقدم مجموعة من الوصايا لمواجهة النكسات والخيبات حتى يراها القارئ “كحذاء مهترئ.. لا أكثر”، وفي قصة “الراقصة عفيفة” نرى كيف أن الفقر أخرجها من طفولتها من المدرسة لتقف إلى جانب والدها الفقير المقعد لتبيع الفجل والنعناع على بسطة في الشارع، وبعد وفاة والدها لا تجد مصدر رزق سوى أن تصبح راقصة في نادٍ ليلي، وهنا نلاحظ اختيار الكاتبة لإسم الراقصة بشكل معبر، بينما في قصة جهاد نرى أنموذج لمزينة في “صالون” نسائي تبدع بتزيين العرائس ولكنها “تجاهد لتكون عروسا بعد ثلاث زيجات فاشلة”، وفي آخر قصة بالكتاب وتحمل عنوان “ستكون مجنونا جدا” نراها تقول في بداية القصة “ستكون مجنونا جدا إن ظننت أنك ستعيش في عالم يخلو من النفاق والغدر” لتشرح الفكرة من خلال قصة يونس الريفي وما يتعرض له بالمدينة.
وهكذا نرى أن الكاتبة وهي دكتورة نقد في جامعة البتراء في العاصمة الأردنية قد امتلكت قدرة جيدة في استخدام القصة من أجل البحث في مشكلات موجودة في المجتمع وفي حياتنا الواقعية بأسلوب سلس ولغة غير معقدة مع التكثيف اللغوي وإيصال الفكرة للقارئ بسلاسة، فأسلوبها بالكتابة يفتح الآفاق للقارئ لفهم مجموعتها القصصية، وأعتقد أن طبيعة عملها ودراستها كان لها تأثير قوي لفهم القصة القصيرة وأساليبها، فتجنبت الكثير من المطبات التي يقع بها غيرها، وقد مازجت الكاتبة أسلوبي القصة الأشهر في عالم القصة المعاصر بعد منتصف القرن التاسع عشر، وهما القصة التي تعتمد على الحبكة القصصية المعتمدة على المقدمة فالذروة فالخاتمة، وبين الأسلوب الثاني الذي ينبذ الحبكة والذي ينسب إلى الكاتب أنطوان تشيخوف 1860-1904 م والذي يوصف بأنه أعظم كاتب قصة وأنه من أحدث ثورة في أسلوب القصة التقليدي، وبالتأكيد أن هذه القراءة النقدية لا يمكن بالتأكيد أن تحيط بكل تفاصيل القصص في الكتاب، وإن كان يمكن أن تعطي إشارات لمن يقرأ الكتاب أن يرى ما أرادته الكاتبة من أهداف في مرحلة بدأ السرد القصصي ينحى نحو التغير والتقليص وإعادة التشكل والرمزية المغرقة.