بعد إصداره “خيط من دخان الذاكرة أو الطفل الذي…” الصادر عام 2014، متبوعا بكتاب “بين بحر ومولد حلم ” الصادر عام 2017، ها هو الفنان والمسرحي المغربي نور الدين بنكيران يفاجئ جمهوره بعنوان جديد يتعلق الأمر بمؤلف موسوم ب (بالأبيض والأسود) سيرة ذاتية ، الصادر عن مطبعة سومكرام بالدار البيضاء 2022 مزدان بلوحة غلاف للفنان التشكيلي صلاح الطيبي.
الإصدار المومأ إليه جاء في 264 صفحة من القطع الكبير، أراد له الكاتب أن يكون لسان حاله ، ومرآة صادقة تعكس تقلبات حياته ونبضه المجتمعي الأكثر صفاء وواقعية ، وتغياه مساحة شاسعة للبوح وتعرية الذات ، وسيرة جوانية مزدحمة بالمكاشفات والأحلام المجهضة ، ضاجة بالانتظارات والانكسارات والأعطاب النفسية المريعة التي ظلت لزمن طويل قيد الكمون.
للوهلة الأولى، يبدو المؤلف مثل حكواتي يسرد سيرته بلا خطوط حمراء. يهمس ويبوح بأسرار البيت تارة ، ويكشف المستور الأسري ويستنفر موبقات حياته الخاصة والعامة تارة أخرى ،ولا يتحرج في إبراز طيشه الشبابي، ودسارته بالمدرسة في حب أستاذته الفرنسية ،وهو لا يزال في قسم السنة الأولى إعدادي. والأنكى من ذلك ،مزاحمة أستاذه في حب زميلة لهما بالقسم في المرحلة الإعدادية .
ad
والحقيقة ،أن الراوي رجل مسرحي ،لا يقنع بصفة حكواتي متمرس ،(لي علا فمو على لسانو ) كما يقال ، وإنما ، يرفع منسوب الجرأة والمكاشفة إلى أقسى درجات السرد الارتجالي ،لكن وفق ناظم أخلاقي محدد ،وصراحة صادمة بالغة التقدير والإعجاب. “كنت محرجا حين أستيقظ في الصباح، وأكون محط سخرية نظرا لتبولي المتكرر في الفراش أثناء النوم ..وكنت حريصا أن أخرج باكرا من المنزل ،إذا وجدت نفسي مبللا في الصباح ،وأحاول أن أطمس معالم مافعلت”ص 36.
والحقيقة ، أن القارئ المتأمل سيجد نفسه أمام كائن أصبح يتنفس المسرح ، كاتب عاشق متيم بأبي الفنون ،وصار الركح بمكوناته جزء منه بل حياته وكيانه بأكمله . لقد انغرست شوكته في دواخله وتمكنت منه وأحكمت السيطرة على جميع المنافذ ، ما ساعده على إنجاز تراكم فني وزخم إبداعي شمل الأعمال الفنية والأنشطة المسرحية تأليفا وإخراجا. فوق الخشبة ، وعلى الشاشة الصغيرة والكبيرة . ومن بين الأعمال المسرحية التي بقيت راسخة في ذهن المؤلف وأثرت فيه واستولت على مخيلته ” مسرحية “لفائدة الرضع” قدمتها فرقة من النرويج . ليظل المسرح ” هوسي وجنوني، وعشقي ،أتنفس من خلال الارتماء في أحضانه ،والشرب من منبعه الأصيل ، هيامي الإرادي والاإرادي . أبو الفنون معشوقي يسري في دواخلي وجوارحي “
وباقتضاب شديد ، كانت تجربة تشبه إلى حد بعيد علبة سوداء صممت خصيصا للفتح دون أكواد . هذه هي طبيعة السيرة الشحنة القادمة من وراء ضفاف الحاضرة التازية ،فما بين الصرخة والأولى،والحفيد الأول ثمة حمولة بالأبيض والأسود، تم تفريغها بميناء 2022 بعد شحنها سيكولوجيا بترسانة من الزلات و الموبقات “كان فيها نور الدين بنكيران بطلا فاعلا ومفعولا به ، الدافع والمدفوع، الجار والمجرور ،الشاهد والمتفرج ،العارف والجاهل، المتكلم والصامت ،الجاني والضحية “طيلة خمسة عقود .
وهنا يجدر السؤال ،أين الأبيض ؟،وما حصة الأسود من حياة المؤلف؟ وإذا اقتنعنا أن الأبيض يتمثل في بدء سيرة نور الدين بنكيران ب الولادة مصادفة مع خبر إطلاق سراح والده من السجن وعودة الملك محمد الخامس من منفاه ، ثم الحصول على وظيفة في قطاع حيوي ، تلاه الارتباط بالمصونة زوجته ،وعلاقته الإيجابية مع محيطه وأحبائه في الهوس بالمسرح “سنوات السيل المثمر الغزير، حيث يأتي الابداع إلهاما يجري ويسري بكل السبل يثبت الأقدام على أرض صلبة تمنح القدرة على العطاء والمضي قدما لرسم حياة فنية ،لطالما كانت حلم الكاتب ومناه . انطلاقا من تأسيس فرق مسرحية ، والمشاركة الفعالة في مهرجانات عربية الأردن تونس العراق مصر.. تجربة كتابة السيناريو،مشاركة الفرق خارج المدينة في تحد ملفت . المشاركة بألمانيا والحضور في المسلسلات العربية ربيع قرطبة وسيل من الأعمال المسرحية والتلفزيونية .فضلا عن الاهتمام بالسينما وإنتاج وإخراج فيلم ” الهايم ” وفيلم “رقص على الأشواك” وكذلك جولات ورحلات ومحطات فنية وطنية جهوية عربية ودولية .
أما إن سألتموني عن مساحة السواد ،فسأخبركم أنها شاسعة وبلاضفاف ” وعلى سبيل الحصر ،ففي سنة 2014 أكتوبر سيصاب المؤلف بشلل نصفي، وسيخضع ثلاثة أشهر للعلاج النفسي والترويض المكثف حتى شفائه ، وهو نفس المرض الذي أنهى حياة المرحوم والده. أخوه حمزة ” المصاب بالصرع ،المسكون المجنون المرياح الذي أصيب بشلل نصفي رافقه حتى مماته ” الأسود” ليس سوى الألم والحزن والهم والفقر والجوع الذي رافق نبضات بنكيران وعاناه المؤلف في طفولته في المنزل رقم 5 بدرب الزاوية مولاي الطيب ، ويتفاقم الحزن برحيل الوالد والوالدة ،وفواجع أسرية غير قابلة للحصر ،إخوة عاطلون أحدهم بمرض عضال . يقول المؤلف”كنا نتسامر ونسمع الأحجيات من أمي التي لا تنتهي عبقريتها في الحكي ، وموسوعة كبيرة لا تنضب .” في سمرنا حول لهيب المجمر هناك وقت كل ليلة مخصص لرمي القمل في الجمر حتى نسمع انفجاره في اللهيب “
وفي علاقة بالحالة المدنية السوداء ، يحكي المؤلف ” كتب لي أن يعيش وسط عائلة فقيرة ،ولا يرى عيبا أو حرجا في ذكر مهنة والده “أمين الدلالة في الجوطية ، ووالدته النكافة مزينة للعرائس ،معروفة في المدينة ، لكن والدها كان تاجر ذهب ” ياللمفارقة ؟ ورغم البساطة والفقر كانت الأسرة قنوعة ،وكم من الليالي لم نذق الطعام فيها ،وتفرج بعدها ونعيش من خير الله. ” ويسترسل في السواد “كنا نفترش القليل ونتغطى بالقليل ،وما يشعرنا بالدفء إلا التصاقنا ببعضنا . وتستمر الحياة في إيقاع متفاوت بين الفرج والفجيعة إلى أن اكتشف المؤلف ذات يوم أن الأب صار عاشقا محبا ، وأصبح كثير الترحال إلى مكناس ليلتقي بإحدى صديقاته الميسورة . وعلى خلاف ما تقرره النساء في مثل هذه المواقف ، كان تفكير الأم استراتيجيا ، بمعنى الحفاظ على الشمل الأسري بما يضمن استقرار العائلة اجتماعيا ” لقد فكرت الأم بعقلها وليس بعاطفتها ، ما جنب الأسرة التشتت والضياع فطلبت من الوالد أن يتزوج صديقته المكناسية ، على سنة الله ورسوله ،على أن تقيم معهم في البيت بتازة . وكذلك كان وحدث بطعم مشرق بالالتباس ،إلى أن توفي الوالد، ولم نعد نسمع أو نعرف عن الزوجة الثانية شيئا .
تجدر الإشارة هنا إلى أن أول أجر فني يكشف عنه المؤلف كان درهما واحدا تبرع به أحد أساتذته كتشجيع له ،وخمسون فرنكا من طرف أستاذه مكافأة له على عمل مسرحي أداه خلال عيد وطني بالمدرسة لابتدائية بتازة العليا.
مسك الختام ” العابرون في حياتنا كثيرون ، لكن أصحاب البصمات نادرون رائعون ،حتى إن فرقتنا المسافات والأيام . نشتاق إليهم وحتما سنلقاهم لأن رقعة العالم مهما كبرت فهي صغيرة “