لأن مفاوضات السلام المزعوم تبدو وكأنها منحة وليس حقاً، والحديث عن مبادلة الأرض بالسلام مجرد خرافة.وحتى لا تتأرجح الثورة ما بين التعاون والمقاومة. كان لا بد من إسقاط وهم الحصول على الحقوق بالتفاوض، من هنا أختار الكاتب تسمية المفاوض بالفوّاض على وزن الخرّاص. وأوكل إليه ان يحكي لنا حكاية الأم لاجيوس او اللاجئة فاطمة.
رواية “الأم اللاجيوس” للأديب المقدسي نافذ الرفاعي، ليست رواية سياسية، ولا إجتماعية ولا حتى سيرة ذاتية او تاريخية توثيقية، بل هي بكل تأكيد بعضٌ من كل هذه الأجناس الأدبية.
إنها الأم لاجيوس –أو فاطمة- التي تمثل جيلا بكامله للمرأة الفلسطينية الصابرة والمجاهدة التي ذاقت صنوف التهجير وعذابات اللجوء ولم يكسرها غياب الزوج، بل زادها ذلك شموخا وإصراراً لتحسين ظروف معيشتها والوصول بعائلتها إلى بر الأمان، ولم ينسها ذلك تقديم ما تقدرعليه وما تستطيعه لمؤازرة العمل المقاوم وخدمة القضية الوطنية.
يُقارب الأستاذ الرفاعي في روايته جوانب كثيرة ، وفي مقدمها حال المرأة الفلسطينية من خلال اللاجئة فاطمة وهي الشخصية المحورية في هذه الرواية والتي قدمها الكاتب بأبهى صورها وتجلياتها، فهي المرأة التي بدأت رحلة عذابها عندما هُجّرت من قريتها، ومحاولة زوجها العودة الى قريته علّهُ يُحضِر بعض المؤونة، لكن إنتظارها له سيكون طويلا ومؤلما، انتظرته وهي على طرف المجهول. وهي لا تعرف أيعود أم لا . إعتمدت على نفسها وقررت أن لا يقتلها الخوف، وأن لا تستسلم وتُذعن للعَوَز والوحدة والجوع والبرد. وبفضل حُسن تدبيرها تتمكن من تغيير ظروف معيشتها وإستئجار غرفة حجرية بالقرب من المخيم، وتمارس أعمال البيع والشراء معتمدة على بعض ما يفيض عن حاجة أهالي المخيم من معونات.
كما يبرز الروائي إرتفاع منسوب الوعي لدى فاطمة وتغيراً في شخصيتها، فبعد أن وجدت ما تبقى من أهلها وطلبهم منها أن تحضر متاعها وتسكن معهم، رفضت وعندما حاول أخوها رفع يده محاولا لطمها، أمسكت يده وهددته قائلةً: اقطع يدك لو تنمد عليّ، أنا على ذمة رجل ومتزوجة وأعيش منذ ثلاثة أعوام ولا أقبل بحياتكم هذه. كما قررت أن ترسل إبنتها للتعلم في المدرسة رغم معارضة جدتها فالمستقبل قاس جدا والتعليم خير سلاح لهذه الفتاة اليتيمة.
وفي وصف دقيق لحال المرأة الفلسطينية التي هُجرت من ديارها أنقل بالحرف ما جاء في متن الرواية، عندما سألت الشابة يافا الفوّاض عن إسم أمه، أجابها: اسمها فاطمة اللاجئة، ولها أسماء أخرى عند كل موقف، وعند كل تحدٍّ، ولدى مواجهة كل مصيبة. لها اسم عندما جفّ حليب صدرها، واسم عندما خافت الريح أن تقتلع خيمتها وملاذها الأخير. واسم عندما تلوّت جوعاً وربطت تحت حزامها حجراً كي يُسكت الجوع الكافر، واسم عندما طاردها المتختلون شبقاَ جنسيَّا بحثا عن جسدٍ مكسورِ بالوجع والجوع،واسم لدى صراخ طفلة مريضة ولسعة برد مجنونة” 32
إنها حكاية شعب بكامله تعيدنا إلى زمن النكبة عام 48، مرورا بهزيمة العام 1967 لتصل الى بداية زمن المفاوضات الهزيلة، ففي زمن النكبة تستذكر فاطمة كيف كانت عصابات الغزاة تطاردهم ووصلت إلى مسامعهم أنباء عن ّذبح القرية عن بكرة أبيها واغتصاب النساء وقتل الرجال. وهذا ما دفع بالكثير من سكان حيفا للهروب في القوارب بعد أن سمعوا بأخبار المذابح والقتل، وكيف كان القارب يتأرجح من الحمولة الثقيلة، ويتصاعد بكاء الحسرة على من صعدوا دون أبنائهم أو أزواجهم أو أقاربهم والبعض منهم دخلوا إلى تجمع اللاجئين في منطقة تسمى”حسكة” ما بين مدينة إبراهيم الخليل وحلحول وبيت كاحل، تولاهم الصليب الأحمر الدولي وزودهم بالخيام، والبطاطين وبعض الآنية مقلاة وطنجرة أو حلّة 38.
وتستمر عذابات هذا الشعب بعد أن ذاق الجميع مرارة هزيمة العام 1967، وسقط ما تبقى من البلاد تحت قصف الطائرات التي تبث الرعب في صفوف الجيوش الكرتونية، بينما الجميع يستمعون لراديو صوت العرب، وصوت المذيع يهدر ويكذب من قمة رأسه حتى أخمص قدميه بإسقاط طائرات العدو . وفي قرى عديدة حمل الناس أمتعتهم على رؤوسهم وأكتافهم، رافعين الرايات البيضاء، متوجهين نحو الأردن، وآخرون رفعوا رايات بيضاء فوق بيوتهم،.
كما أعادنا الكاتب في روايته لتداعيات هذه الهزيمة وما نتج عنها من قرارات أممية إنحازت للمعتدي على حساب المعتدى عليه، مشيراً الى التدليس الذي شاب قرار الأمم المتحدة واللعب على الترجمات، حينما حذفت أل التعريف من كلمة الأرض المحتلَّة وإعتمد بدلا عنها عبارة أرض محتلّة. لتبدأ معاناة الشعب الفلسطيني وتشتته في مختلف بقاع الأرض ومخيمات اللجوء.
وعندما ينعدم الأمن والأمان لا بد وان نشهد بعض الممارسات الشاذة وهذا ما تلحظه الرواية من تغيرات المجتمع وسلوكيات الناس فالأم اللاجئة شعرت أن الإنسانية تكسّرت في عصا الترحال والعذاب،وأن الكثير من القيم قد إنعدمت والناس يحلفون ويحنثون باليمين كذبًا، وإنتشر التسول وظاهرة زواج القاصرات لبعض الأثرياء وتفشي اللصوصية وأعمال السرقة، حتى هي نفسها لم تسلم من محاولة التحرش بها من قبل أحدهم فأمسكت بشظية المرآة ولفّتها بقطعة قماش كي تبدو كالسكين، وضربته بالشظية على يده بكل قوتها لتنغرس الشظية في ذراعه.
من جانب آخر يتطرق الكاتب إلى مسألة المفاوضات وأساليبها، وهنا تجدر الإشارة إلى ان الكاتب يفاضل او يقارن بين جيلين، جيل الاوائل الذي هُجِّروا وعاشوا النكبة وويلاتها وقاوموا الإحتلال أمثال الأستاذ جورج، وجيل الذين جنحوا للمفاوضات أو ما يُسمى زوراً بالسلام، معتبراً أنّ لا امل من هكذا مفاوضات سيّما وأن الطرف المفاوض الآخر يعمل لإضاعة الوقت وكسبه والرهان على الزمن. ليفرض حقائق جديدة على الأرض، ويُرسِخ الإستيطان. وفي نوع من النقد اللاذع يورد الكاتب على لسان الوسيط تساؤلاً ذا دلالات عميقة عندما توجه للفوّاض بالسؤال: “كيف تكون أنت ابن لاجئة؟ مظهرك ارستقراطي وبذلتك تساوي أكثر من ألف دولار تناقض صارخ ما بين بؤس الأم وما بين ترف الابن”. هذا التساؤل إن دلّ على شيء فإنما يدل على ان الكثير قد ركب موجة الثورة وتصدر المشهد السياسي لحصد المنافع المادية والمعنوية على حد سواء، من هنا كان الفوّاض يتمنى في قرارة نفسه لو أن أمه أو أبا فتحي الخليلي يجلسان مكانه لأنهما يملكان موقف صلبًا وإرادة. ومع هذا فقد إستطاع الفوّاض أن يُجادل الطرف المفاوض ويُسجل رؤيته – ولو للتاريخ- “أنا رجل ثوري حالم بالسلام وأكره الحروب، أريد أن يتوقف قتل أبناء شعبي ووقف ترحيلهم وهدم بيوتهم وسياسة العقاب الجماعي. واستطرد قائلاً “اليوم أقف أمامكم أيها السادة أطالبكم بخوف أمي وجوعها وجفاف صدرها، أمام صرخات أختي الصغيرة وبكائها. أطالبكم أمام حيرة أمي وعجزها وحيدة طريدة شريدة”.
إلى جانب المفاوضات التي لا يؤمل منها خيراً، يبرز الكاتب الجانب المقاوم الذي آمن به الكثيرين أمثال الأستاذ جورج ورفاقه، كما كان للمرأة الدور المساند في هذا المجال، فالأم لاجيوس او فاطمة لم تتوانَ لحظة عن مساعدة المقاومين، عندما إلتقت بالأستاذ جورج الذي كانت الشرطة السرية تراقبه، ولديه رسالة يجب أن تصل للمقاومين، ناولته علبة السردين في ورقة جريدة قديمة وأخبرته بأن يضع الرسالة فيها، وبطريقة ما، استطاعت اخفاء الرسالة في ملابس طفلتها، ونجحت دون أن تنتبه الشرطة السرية لذلك. لتكون هذه بداية مهمتها الجديدة في إيصال الرسائل بين هؤلاء المقاومين دون خوف او توجس. وكان الأستاذ جورج ورفاقه يتسللون إلى القرى والبلدات المحتلّة لتخريب الطرق وشبكات الكهرباء والمياه .
إشارة إلى أن المكان كان حاضرا بقوة في الرواية، وقد إستفاض الكاتب في وصف المدن والقرى، وطبيعة الأمكنة وعادات ساكنيها، يقول الفوّاض عن أمه وقريتها أنها ما زالت تحتفظ بصورة تلك القرية وحقولها الخضراء التي تعانق المدى الرحب ونبات السمسم الذي يرتسم على أسراب الأرض المخضرة، وتحكي لهم عن الفلاحين، الذين يغنون بين صفوف السمسم يزيلون الأعشاب وينكشون بينه وحوله بفؤوس صغيرة. وفلاحات يحملن الزّوادة على رؤوسهنَّ المغطاة بخرقة بيضاء يظهر من أطرافها خبز الطابون المحمص الشهي.49. كما نجد وصفا لبعض أحياء المدن والبلدات كالقدس وبيت لحم ويخص بالوصف درب دير قرنطل في جبل التجربة ومدينة أريحا التي هي أقدم مدن التاريخ،وكذلك بعض أحياء القاهرة وكورنيش النيل وخان الخليلي وحي الحسين والأزهر وغيرها من الأماكن.
في الختام لا بد من الإشارة إلى وصية الأم لاجيوس لإبنها الفوّاض : إن أمي اللاجيوس أوصتني أن أجلب السلام. أن يعود الحق. أن تنام مرتاحة في موتها على أرض قريتها، بعدما أرهقها اللجوء، وأدمتها الحرب وحياتها كلها مبنية على الحرب والهلع والرعب.وتنفيذا لوصيتها قام الفوّاض بمساعدة يافا بأخراج جثمانها من القبر ودفناها سراّ في مسقط رأسها، لتنام بسلام في أرض الولادة.