من روايتي العزلة.. ازلية سرمدية لا تنتهي/ خالد الهواري
9 فبراير 2023، 11:11 صباحًا
نعم يا امي، انا لم اصغي اليك بما فيه الكفاية، ربما كان علي ان اسألك الكثير من الاسئلة قبل ان انخرط في هذا الزيف الذي يملآ العالم، ولكن كلماتك الطيبة ستظل ترافقني في كل مرحلة اخطوها في درب حياتي، وكأنك “يا يوسف” ايها القديس الهارب من ظلمات البئر لم تموت بعد، تتجسد علي اسطح البيوت في نظرة انكسار البنات وهن يعلقن الملابس علي حبل الغسيل فوق اسطح البيوت في الاحياء العشوائية، وزحام الجوع امام عربات الفول المدمس، وعنابر المستشفيات الحكومية، ورائحة الاجساد التي تحترق في القطارات، ولازلت وانا مصلوبا على مقاعد محطة القطار الباردة اقتفي اثر عابر سبيل يلقي ما تبقي من سيجارته، في سجن العزيز المسحور بممالك تجري من تحتها الانهار تراودك صراعات نفسك في وحشية زنزانة قسوة من قالت: “هيئت لك” فهممت بها قبل ان يهبط عليك ناموس الحق..
خرجت العرافة التي كتبت عليها الالهة التي نصفها من الثلج والنار، فلا النار تذيب الثلج، ولا الثلج يطفئ النار ان تظل في الاحياء لا تموت قبل ان تعثر على لغز اسرار الحجر الاصفر في لون طبق العدس العطن، مثل رائحة عرق المكومين الذين كانوا يتشاركون معك الهم في زنزانة في عالم اخر، خرجت في مشهد مهيب بعد ان ودعتها عجائز العشيرة، ونثروا على شعرها الماء من البئر الذي لم تشرق عليه او تغيب عنه الشمس، كانت تبحث في كل مدينة، في الاسواق، سوقا سوقا، وفي البساتين بستانا بستانا، وفي العلامات علامة علامة، عن المخلص من الحياة التي كتبت عليها ازلية سرمدية لا تنتهي، في ازمنة لم تعد تعرف الخصب، فجفت ضرعيها في زمن الفاقة التي حلت مع قدوم اول ايام موسم التزاوج بين المطر السخي والارض المبتذلة، الصراخ لا يفيدك ايها الهارب من رحمة مولانا، توزعون المنشورات، وتحرضون الناس على النظام يا اولاد الحرام، ستموت هنا وستدفن هنا، ولن يسمع احدا عن سيرتك، والناس التي عاشت مع بعضها البعض في ازمنة لاتعد ولا تحصي..
كانت البيوت لها بابا واحدا، حتى اموال الخراج التي كانت تجئ من كل الجهات تظل في مكانها لا يحرسها احد، ولم يحدث خلال اكثر من المائة عام التي كانت فيها الخيرات تأت من اي مكان تحل فيه غيمة المطر، ان خطر على بال احد ان يمتلك ما يزيد عن قوت يومه، عنوان المدينة، التي ازدهرت كثيرا، وكانت اخبارها تدغدغ احلام الخليفة، وتفتح اكياس عطاياه، وماتت كثيرا حتى وطأتها نعال عبار السبيل، لم يكن مخطوطا على الرقاع، لم يكونوا يعرفون بعد سجلات الزيارة التي تحتاج الى التصريح من النيابة العامة، وطوابير تفتيش المتاع في اروقة السجن، وتحرش جنود الحراسة بزوجات وبنات المعتقلين، لا يكلف القادم نفسه من التعب غير ان يدخل الى اول باب يصادفه ويسترخي ويفك العمامة من فوق رأسه، هم انفسهم الان الناس التي تأكل بعضها بعضا، وتتاجر بأعضاء اطفالها وتزوج بناتها للعجائز للخلاص من اعباءهن، خرجت في بهجه وجهها الاسمر المضيء كأنها قطعة اقتطعت من طرف شجرة الابنوس في شاطئ الطلسمات، حيث تعيش اخر احفاد الهة السكون، تبحث على هدى النجوم، تقتفي اثر الملوك الثلاثة لتفسد لعنة الالهة الحجرية العارية الضخمة كأنها الاوتاد على حافة جرف النهر، قبل ان تعود في سيرورة ازلية، ثم تتشكل في اجساد طيور اسطورية، تنفث غبار تراب الصحراء الاصفر قبل اكتشاف المجهول وتبديل هؤلاء الهمجيين سروايلهم الممزقة واقامة الحدود والاسلاك وجدران العزل، وهي تحلق بأجنحتها في الطريق الى الشمس.
عضو الاتحاد السويدي للامم المتحدة وعضو منظمة العفو الدولية الامنستي وعضو نادي القلم السويدي