معين بسيسو الذي تسطّر حياته ملحمة فلسطينيّة تقدّم النموذج المُلزم الاقتداء به في تلاحم المبدع مع شعبه وقضيته تلاحما كاملا.
فمنذ صرخته الأولى عندما خرج إلى الحياة في العاشر من تشرين الأوّل عام 1927 التي نبّه بها إلى وجوده، بدأت ترتسم أمامه الطريق النضالية الصعبة الطويلة التي تنتظره. فوطنه فلسطين كان مرهونا في يد المستعمر الإنكليزي الذي يعمل بجدّ لتقديمه هديّه رخيصة لزعماء الحركة الصهيونية كي يقيموا فيه الوطن القومي. وأبناء شعبه تتلاعب بهم الأهواء والانقسامات. ويشقى السواد الأكبر من الشعب من الفقر والعوز وصعوبة تحصيل ما يضمن لقمة العيش.
فيكبر ابن حيّ الشجاعية وسط هذا الواقع المرير غاضبا صاخبا واضعا أمامه هدفا كبيرا لتغيير الواقع وتأمين المستقبل الأفضل لأهله أبناء شعبه.
ترك مدينة غزة ليدرس في القاهرة، وفي مصر تعرّف على المناضلين وانحاز إلى جانب القضايا الوطنية والجماهير المستضعفة، وتابع أخبار التحوّلات الكبيرة التي تجتاح العالم والأفكارَ الاشتراكية التي بدأت تنتشر وتجتذب عقول الشباب وتمنيهم بعالم آخر. فانضمّ إلى صفوف الحزب الشيوعي وكان نشيطا وترقّى في المراتب حتى تمّ انتخابُه أمينا عاما للحزب.
هذه النشاطات المتعدّدة أدّت إلى اعتقاله وإدخاله السجون في مصر لسنوات عديدة. لكنها سنوات صقلته كرجل قويّ يتحدّى كلّ الصعاب، ويتمسّك بأفكاره واختياراته وانحيازه إلى جانب الجماهير.
فالشاعر كما يراه بسيسو يُشبه مُتسلّق الجبال الذي يصعد ثمّ يسقط ويعاود الصعود حتى يصل إلى القمّة التي بعدها لن يكون هناك من راحة أو استقرار، وكأنّ قدره أن يبقى في حالة صعود مستمر.
معين بسيسو عاش النكبة وما تمخّضت عنه، وعانى كغيره رحلة التّيه الفلسطيني، وظلّت غزّة في دمه حيثما حلّ.
وكان لكلّ هذه التجارب والتحوّلات والمعاناة التي عاشها وشعبه أثرها على تفجير مَكامن الإبداع عند معين بسيسو فتدفّق الشعر الثوري الملتزم الذي قرأناه في مجموعته الشعريّة التي صدرت عام 1952 باسم “المعركة” وبرزت في قصائده ملامحُ التجديد والنُّضج والالتزام بآمال وآلام شعبه.
أنا إنْ سقطتُ فخُذْ مكاني يا رفيقي في الكفاحْ
واحملْ سلاحي لا يخفكَ دمي يسيلُ من السلاح
وهتف أيضا:
*فإذا سقطنا يا رفيقي في جحيم المعركة
فانظر تجد علما يُرفرفُ فوق نار المعركة
ما زال يحمله رفاقك يا رفيق المعركة.
وكما يصفه الشاعر إيهاب بسيسو: معين شكّل حالة ثوريّة وشعريّة مميّزة. وقد قاد المظاهرات في غزة في منتصف الخمسينات لإسقاط مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء بعيدا عن الوطن.
وصرخ معلنا:” كتبوا مشروع سيناء بالحبر، وسنمحو مشروع سيناء بالدم”.
ورغم الملاحقات والمطاردات التي عاشها لمواقفه السياسية واعتناقه للأفكار الشيوعيّة إلّا أنّه سارع لينضم إلى المناضلين في المقاومة المصرية والتصدّي لجنود العدوان الثلاثي على السويس في مصر عام 1956 وهو يُعلنها عاليا:
قد أقبلوا فلا مساومة
المجد للمقاومة.
كما وأصدر معين كتابه الوثائقي “دفاتر فلسطينيّة” الذي كتبه خلال فترة اعتقاله في السّجون المصرية، ووصف فيه ما يتعرّض له المعتقلون الفلسطينيون.
ملاحقة معين بسيسو من قبل أجهزة السلطات المصرية جعلته يعيش حياة القلق والمطاردة ومن ثم الارتحال ما بين العواصم المختلفة: القاهرة بيروت دمشق موسكو ليستقرّ عام 1970 في بيروت وبقي هناك حتى الحصار الأخير.
وفي هذه السنوات تولّى الكثير من المهمّات النضالية في إطار المقاومة الفلسطينية. وانتخب عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني وعضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين. ورئس تحرير مجلة “اللوتس” وعمل في مجلة “فلسطين الثورة” ونال جائزة “اللوتس”.
وظلّ معين في حماسه وتدفّق شاعريّته وسرعة التّوثّبِ واتّخاذ القرار الصحيح الذي تفرضُه عليه الأحداث. ففي عام 1982 كان يشارك في مؤتمر أدبي في طشقند. وعندما سمع ببدء العدوان الإسرائيلي على الثورة الفلسطينية والحركة الوطنيّة اللبنانيّة ولبنان، ترك المؤتمر وعاد سريعا إلى بيروت ليكون مع المقاتلين.
ولدي محمّد: في ظلي الدامي تمدّد
أو فوق ركبة أمك العطشى تمدّد
وإذا عطشتَ وجُعتَ فاصعَدْ
وتألّم معين وهو يشهد ويعيش الصمتَ العربي التّام أمام العدوان على لبنان واحتلال بيروت وموت الآلاف من الفلسطينيين، وآلمه أكثر صمتُ المثقفين والمبدعين العرب.
الصمتُ موت
قُلها ومتْ
فالقولُ ليس ما يقوله السلطانُ والأمير
وليس تلك الضحكةُ التي يبيعُها المُهرّجُ الكبيرُ للمهرّج الصّغير
فأنتَ إنْ نطقتَ مُتّ
وأنتَ إن سكتَّ متّ. قُلْها ومُتْ
وفي قصيدته الملحميّة “القصيدة” صرخ عاليا في وجه كل العرب:
هذا العشاءُ هو الأخيرُ
على موائدكم
فمنذُ الآنَ سوفَ أكونُ وجهي
لم تكنْ عذراءَ نخلتُكمْ
ولا عَذراءَ مَريَمُكُمْ
فلا بيضا صنائعُكُمْ
ولا خُضراً مَرابعُكُمْ
ولا سودا مواقِعُكُمْ
ولا حُمرا مواضيكُمْ
ألا تَبّتْ أياديكُم
وداعا يا ليالي الكَرنفالْ
إضافة إلى إبداعات معين في الشعر فقد كتب المسرحية، وأصدر العديد من المسرحيات التي عرضت معظمها على المسارح. كما كتب الأعمال النثريّة العديدة. ولكنّه ظلّ البارز والمتألّق في الشّعر الثوريّ النّضالي.
وقد آمن معين بسيسو كما يقول الكاتب محمود شقير بأهميّة الالتزام في الأدب، وبضرورة أن يكون الأدب مُلهما للجماهير ومعبّرا عن همومها وتطلّعاتها. ومن هنا جاءت فرادتُه وصدقُ انتمائه في زمن القَمع والاستبداد.”
ويصفه محمود درويش بقوله:
معين بسيسو شاعر مليء بالمظاهرة والشوارع، مزدحم بهتاف مُتدفّق، يؤمن حتى التديّن بأنّ القصيدة قوّة حركة، قوّة حزب، قوّة قادرة على التّغيير الفوري.
ويقول الكاتب خيري منصور: “من الشائع نقديّا عن شعر معين بسيسو أنّه مباشر وسياسي بامتياز. كما أنه مؤدلج وهذا أيضا سبب لعزوف النّقد عن نصوصه في ثقافة ساد فيها كسل ذهني وصلت فيه النّميمة مكان النّقد”.
ويُدافع الروائي رشاد أبو شاور عن مباشرة قصيدة معين بقوله “قد يُقال بأنّ هذا الشعر فيه مباشرة، وتحريض آنيّ، والحقّ أنّ تلك المباشرة حمَلتها مواهب أصيلة ذكيّة، عرَفت كيف تغوص في عُمق الحدَث، وتستخرج منه قيما إنسانيّة جوهريّة لا تموت مع الزمن.”. فمعين بسيسو شاعر معركة واشتباك يحيا ويتألّق في الميدان، بين الناس في أتون المعركة”.
يقول الناقد محيي الدين صبحي في دراسة له حول شعر معين: إنه يتبع أخشن طرق الأداء، ويركب أوعر أساليب التعبير، شاعريّتُه ينقصُها الصّقل، ولكن نقصان الصّقل ميّزة فنيّة متّسقة تسِمُ أعمالَه كلّها بسمة الخشونة وإفراط في المباشرة، والانحراف بالصورة عن إطاره الإنساني إلى شيء من التّوغّل الوحشيّ، كلّ هذه لمقصد سياسي.
يقول معين رأيَه في الشعر:
لجهنّم يا الكلمة ذات القرط وذات الخلخال
بالشاعر وربابته، بالموّال
وسيرة فرسان بني “عبس وهلال”
لجهنّم يا أوزان بحور الشعر العَلنيّة
ووقوفا في الصّف
صفّا واحد.. بالخوذة والسونكي.
ويقول معين:
علّمتني الزنزانة السّفرَ لمسافات بعيدة، وعلّمتني أيضا الكتابة لمسافات بعيدة، فالسّجين دائما يُسافر بيده في الماء، ويُحاول الكتابة بصوته”.
الشعر عند معين بسيسو حالة حبّ عنيفة، يقوم فيها الشاعر بعمليّة بَعث جديدة للغة حتى تستطيع حمْلَ العالم، والدّفاع عن ذلك العالم أمام الذين يريدون سرقته”.
كان معين بسيسو قد شارك محمود درويش في كتابة قصيدة “رسالة إلى جندي إسرائيلي” التي استقبلها البعض بالنقد اللاذع والرفض واعتبرها عز الدين المناصرة قصيدة ضعيفة كذلك لم تعجب رشاد أبو شاور وغيره.
ثنائيّة الموت/البعث راسخة في شعر معين بسيسو وكثيرا ما يعود إلى الميثولوجيا المسيحية “المسيح والصّلب”.
يقول محمود درويش “كان معين يطرد فكرةَ الموت كما يطرد ذبابة، وكان يُمازحنا ويهدّدنا جميعا بالرّثاء، كان يكره الرثاء ويمقت المشهد الفلسطيني اليومي في طابور الموت”.
وكأنّ معين رغم تظاهره برفضه للموت وعدم اكتراثه به أو الخوف منه، كان في لا وعيه يخاف أنْ يموتَ غريبا عن وطنه، بعيدا عن أصدقائه فكتب:
أخاف أن أموتَ تحت عَلَم غريب
أخاف أن أموت تحت عَلَم أرفض
كلّ خيط فيه
يا إلهي الكبير، يا وطني.
على الغريب أن يموتَ فوق أرضه
عليه أن يموت في بداية الطريق
في نهاية الطريق
وليس في منتصف الطريق.
وتكرّر خوفُه ممّا قد يحدث له بهمسِه في أذن بسّام أبو شرف الذي كان يسير إلى جانبه أثناء مشاركتهما في موكب جنازة بلقيس زوجة الشاعر نزار قباني نحو مَثواها الأخير في مقابر الشهداء في بيروت: لقد وجدَتْ أرضا تحتضُنها وأصدقاء يودّعونَها نحو مَثواها، هل سنجدُ أرضا تحتضننا وأصدقاء يودّعوننا؟
يروي محمود درويش كيف أنّ معين كاد يقتله مرتين: الأولى، عندما استلّ مسدّسَه ليحسمَ نقاشا مع قارئ خبيث قال له إنّ المحاصَرين في تل الزعتر محتاجون إلى الماء أكثر من حاجتهم للشعر. فمرّت الرصاصة فوق كتفي. المرة الثانية: حين وضع على باب غرفته في لندن شارة “رجاء عدَم الازعاج” لم يُزعجه أحد.. ليموت على مَهل، فنبّهني إلى أننا قد ننجو من القذائف لنقعَ في غدر القلب. لنموت بطريقة أزعجت خالدَ بن الوليد. ومنذ وضعَ تلك الاشارة نزعْتُها عن أبواب غُرَفي في كلّ الفنادق. أريدُ مَن يزعجني وأنا أموت. ثم ناداني كثيرا إلى أن انقضّ قلبي عليّ.
تألّم محمود درويش من رَفْض السّلطات الإسرائيلية السّماح بدَفْن جثمان معين بسيسو في غزّة، ومن تلكؤ السلطات المصرية مدّة أربعة أيام لتسمح بدفنه في مقبرة الأربعينات في القاهرة. وذهب به الخيال لحالته وكيف سيتعاملُ الآخرون معه، فكتب في رسالة أرسلها
إلى سميح القاسم من باريس يوم (19.5.1986) يختتمها بهذه الكلمات الحارقة:
“قريبا؟ ست عشرةَ سنة! ست عشرةَ سنةً كافية لتَقْبَلَ بنيلوب وُدّ خطّابها وتلعن بحرَ إيجة. ستّ عشرة سنة كافية لأنْ تتحوّل الحشرات الصغيرة على جراح أيوب إلى طائرات نفّاثة. ستّ عشرة سنة تكفي لأصرخ: بدّي أعود. بدّي أعود. كافية لأتلاشى في الأغنية حتى النّصر أو القبر.
ولكن، أين قبري يا صديقي؟ أين قبري يا أخي؟ أينَ قبري؟”
ولكنّ محمود درويش يرتاح في قبره بين أبناء شعبه الذين حوّلوا قبره إلى مَزار يؤمّونه كلّما زاروا رام الله.
*ونُنهي بهذه القصة الجميلة التي يرويها محمود درويش ما حدث له ولمعين عندما تقدّمت منهما فتاة جميلة تحمل الورد على رصيف محطة القطار في تالين استونيا لتأخذَهما إلى الفندق. يقول محمود: بعد قليل اتّصل بي معين ليقول: نحن في وَرْطة وعلينا أنْ نغادرَ الفندق فورا، فتلك الفتاة استقبلتنا باعتبارنا راقصَيْن من كوبا! قلتُ له: لن نخرجَ إلى ثلج يبلغ ارتفاعُه مترين حتى لو كلّفنا ذلك أنْ نرقص. فلنرقص إذن. ما الفارق: راقصان من كوبا أو شاعران من فلسطين.