قصيدة الومضة.. لدى الشاعرة التونسية نعيمة مناعي: الصمت المقروء/ محمد المحسن
تخير المفردات القليلة يحمل ثقل الدلالات المتوالدة عن هذا التكثيف ما يجعل القارئ يستحث ذاكرته القرائية والمعرفية لأجل الإحاطة بهذا الكم من الدلالات المكبوتة في إطار رسم الكلمات والتي تتفجر كلما قاربها المتلقي بالقراءة ليعيش الدهشة في كنف جمالية تفاعله مع النص.
ولأن واقع حال الشعر المعاصر هو واقع الرفض للقيود والتحرّر منها للبحث عن بديل للقصيدة القديمة،فإن لجوء كثير من الشعراء لهذا النمط إنما كان للتعبير عن هذا الواقع وإن لمسنا تواجده في تراثنا العربي من خلال التوقيعات.
غير أن حال قصيدة الومضة المعاصرة راجع لما لها من تأثير نفسي نابع من محاولة الشاعر اكتناز أكثر الدلالات ضمن إطار ضيق وكلمات أقل،كما تعد من وسائل القناع الذي يتخذه شعراء العصر إذ يمكنهم من تحميلها الدلالات المختلفة دون اللجوء للتصريح بها،ولعلها كذلك من وسائل إظهار تمكّن الشاعر وقدرته اللغوية الثقافية التي تبرز من كتابته لهذه القصيدة.
ومن الشاعرات اللاتي اعتمدن هذا النمط من القصائد في تونس،نجد الشاعرة نعيمة مناعي والتي تعد (وهذا الرأي يخصني) إحدى الشاعرات اللاتي سعين إلى التميز في كتاباتهن الشعرية،إذ أضفت على قصائدها جماليات جعلتها تنفرد عن باقي التجارب الشعرية الحداثية في تونس التي تسعى إلى التجريب والإبتداع والتفرد.
ومن الجدير بالذكر أن نؤكّد على أن الذين يتصدون لكتابة هذه القصيدة(الومضة/التوقيعة) يجب أن يتخرجوا أولا من كل المدارس الشعرية المختلفة قديمها وحديثها،بدءا من المدرسة العمودية وحتى ما يسمى الآن بقصيدة النثر،وللحق أؤكد أن شاعرتنا نعيمة مناعي قد تصدت لكتابة هذا النوع من الشعر باقتدار إذ تعلن بشكل غير مباشر عن اكتمال معينها الشعرى بكل أبعاده الفنية والإنسانية،وتعلن بشكل غير مباشر عن وصولها إلى قمة الهرم الشعرى والمعرفى.
فشاعرتنا لها إبداعات شعرية كثيرة،كما أنها تكتب فى العديد من الجرائد والمجلات التونسية الشعر والمقال..هذا بالإضافة إلى مشاركاتها في العديد من الملتقيات التونسية..
نعود إلى قصيدة الومضة عند نعيمة مناعي ونختار بعض النماذج من إبداعاتها لتكون الدليل والبرهان على ما قدمنا.
الومضة الأولى :
كان أبي رجلا
عاش أبي رجلا
مات أبي رجلا .
في حديثه وأنا طفلة كان يخبرني في أسئلة بريئة
لم أفهمها إلا حين كبرت .
أن العالم فيه بعض …الذكور.
هذه -التوقيعة -التي صيغت بأنامل الشاعرة نعيمة مناعي تتحدث عن تجربة إنسانية شديدة الجمال وشديدة الإيحاء يمكن أن تفرد لها صفحات فى عالم النثر،فكل سطر من سطورها يحتاج لمساحات كبيرة لشرحه وتحليله،كما أن هناك مساحات كبيرة مسكوت عنها أو متوارية بين السطور وعلى المتلقى أن يبحث عنها كل حسب مخزونه المعرفى ومنظوره الجمالى.
الومضة الثانية :
الآن يا جميلتي
أينع أمسي
تزاحمت الابتسامات
على إشراقة غدي
اليوم يا جميلتي تينع خصلات الياسمين
في عز البرد
بالأمس كنت أشرقت
وحينها لم أنتبه
فأنا أحلم دوما أن يتفتح
كل الزهر.
إنها تجربة شعرية غاية فى العمق وآية فى الجمال،صاغتها شاعرتنا نعيمة مناعي ببراعة واقتدار،ولكن بين هذه الكلمات آلاف من الكلمات والمعانى مسكوتاً عنها،وعلى المتلقى أن يتأمل ويبحث ويحلّل حتى يصلَ إلى ذروة المتعة الشعرية والتأملية..تجربة عميقة وقوية تم رصدها فى كلمات قليلة تحمل كل معانى وعطاءات التجربة بين سطورها،فالتجربة هنا كالومضة التى تلقى بأضوائها على من حولها ولمساحات بعيدة حسب ثقافة وفكر كل متلق.
الأثر الدلالي للومضة/ التوقيعة :
تأتي الجملة الشعرية المتشحة بالزي الفني بعد الصورة الذهنية،وأبرز ما يميزها التكثيف في اللغة،والتسلسل في السرد الشعري وصولاً إلى لحظة الذروة والإدهاش فتكون رسالة الشاعر ذات سمة انفعالية مولدة للوظيفة الإنتباهية لدى المتلقي.
لا يداوم على كتابة الشعر
إلا مدمن .
فاقرأ على ناصيته ألف سلام
لروح تقاوم.
إن الإنسجام بين محوري الإختيار والتأليف،يكشف شعرية خطاب التوقيعة.وهو خطاب يضج بالثنائيات الضدية،والجمل المحولة من الصور الذهنية إلى الصور الخطية المنفية والمؤكدة. فجدلية الحياة لا تكون إلا من خلال ثنائيات الممكن والمستحيل،الرغبة والخوف..فالومضة شكل من أشكال الإنزياح الذي يباغت المتلقي ويخيب أفق انتظاره.فاللامنتَظَر هو تلك التركيبة الأسلوبية المتميزة القائمة على مصاحبة لغوية غير عادية.
والكتابة خطاب لا يمكن أن يتمرد دون وجود الآخرين.وهذا القلق يجعل الشاعر يمدّ يده إلى الآخرين محترقاً بالجمر،وقابضاً عليه.ولعل أهم ما يخرج به قارئ توقيعات نعيمة مناعي أنها تركّز على رد فعل قارئها،لتصل به إلى مرحلة القارئ المثالي الذي يشكل جملة قراءات ناجمة عن قدرة تأويلية لديه،محاولاً إبراز الوظيفة الأسلوبية “الومضة” التي تظهر أدق تشعبات الفكر.
وهذا ما حدث-كما أسلفت- في حالة الشاعرة التونسية نعيمة مناعي مثلاً،وتجربتها الشعرية الغنية التي لم تنفصل عن حقيقة امتلاك الشاعرة لرؤيا فلسفية متكاملة،مكّنتها من التجريب في نموذج القصيدة الومضة بنماذج متألقة تسجَّل لها.
ومن خلال ما تقدّم نلحظ أنّ الشاعرة-نعيمة مناعي-حاولت أن تجعلَ قصائدها الومضة مرتبطة باللغة،ليس لكون هذا النمط يعتمد اللغة في تكثيفها وإيجازها وإيحائها وحسب،بل وأيضا كون اللغة ارتبطت في جزء منها بالنفحة الصوفية،فتضافر السببان ليجعلا من هذه القصائد صورة لحال من يمتلك اللغة وتمتلكه.
أخيراً : قصيدةُ الومضة وميضُ برق خاطف في فضاء النص الشعري؛ لأنها تُلتقط في لحظة انبهار ضوئي يكشف جزئيات وحساسيات ذهنية في غاية الحدة. إنها لقطات سريعة مفاجئة يلتقطها خيال المبدع من مشاهدات الواقع بعد أن يشكلها فنياً وفق رؤيته ورؤياه، فتأتي حافلة بالغرابة،والدهشة،والإمتاع،والطرافة،والمفارقة.
قبعتي..يا نعيمة