خديجة مسروق: الخطاب الإيديولوجي في رواية الرعن للروائي رشيد بوجدرة/ خديجة مسروق
ارتبطت الرواية العربية بالواقعية , و سعت عبر مسيرتها التاريخية إلى رصد التغيرات التي تطرأ على المجتمع العربي , و نقلها إلى القاريء وفق رؤية معينة تتعلق بالروائي نفسه .
الروائي رشيد بوجدرة روائي جزائري كتب باللغتين الفرنسية و العربية وكان يهدف من وراءذلك هو الآخر إلى نقل صورة عن متغيرات الواقع الإنساني و الجزائري على وجه الخصوص .
رشيد بوجدرة رجل محبوس في مكان ما , يحاول أن يمتلك معنى العالم الذي يضيع منه , لأنه أراد التخلص من العادات البدائية و الاتفاقات الاجتماعية ..
رواية الرعن رواية مترجمة عن اللغة الفرنسية للروائي رشيد بوجدرة. طبعتها الأولى كانت في العام1982.رصد فيها مسارات كفاح الشعب الجزائري خلال الإحتلال الفرنسي ,و آفاق التحررمن براثن الاستعمار, والتحولات التي عرفها المجتمع الجزائري بعد الاستقلال مركزا على الإقطاع و تبعاته , ووضعية الفئات المهمشة من أبناء الشعب الجزائري .
اعتمد بوجدرة على تقنية الاسترجاع و الوصف , نقل للقاريء صورة صادقة عن الممارسات الشنيعة للاستعمار الفرنسي بالجزائر , و بعض تجاوزات الإدارة السياسية في فترة الرئيس هواري بومدين . وتعرض إلى مشروع الثورة الزراعية , إضافة إلى أخطاء الاشتراكية وصولا إلى الرأسمالية التي كان يقود زمامها بعض اللصوص الذين كانت لا تعنيهم إلا رغباتهم الذاتية .
للحرية ضريبة و ضريبتها غالية جدا , تستلزم على الإنسان التضحية بكل ما هو غال للتحرر من ربقة العبودية و الاستغلال .
مهدي بطل الرواية أستاذ فلسفة بثانوية البنات بالجزائر العاصمة ,يتعرض لضربة شمس فيصاب بالرعن , ثم يُتهم بإصابته بنوبات من الجنون , يدخل على إثرها مستشفى الأمراض العقلية . أبوه سي عمر إقطاعي كان مواليا للسياسة الحاكمة كي يزداد ثراء و نفوذا.
شخصيتان في الرواية تحملان نفس الاسم ,الأولى تتمثل في شخصية سي عمر, شخصية مستبدة .سي عمر لا يهمه إلا رغباته الذاتية . منسجم مع الحكم القائم . مقنع بقناع الورع و التقوى , مستعد أن يوظف أمواله في الصناعة الوطنية شريطة أن لا تؤمم أراضيه و تجاراته , ومستعد لبناء المساجد مقابل أن يكون اسمه على قائمة الحزب .
و الثانية شخصية عمر الشاعر, شخصية صادقة . لا يعرف عمر الخوف على الإطلاق ,كان ناقدا للسياسة الحاكمة . بسبب مواقفه المعارضة ظل مطاردا من قبل السلطات الأمنية فكانت نهايته الإقامة خلف القضبان .
مهدي نُسب كابن لسليمان الحيلة ,و ظل يحبه و يجله كثيرا رغم أنه كان عربيدا انتهازيا ,لأنه لم يكن يعلم بأنه ليس والده الحقيقي, و بعد اكتشافه الحقيقة كرهه كرها لا مثيل له . سي عمر هو الأب الحقيقي لمهدي , الإقطاعي المستبد الذي اغتصب سالمة غدرا شقيقة زوجته مليكة , فتشكل مهدي في رحم سالمة نطفة غير شرعية .و أقسمت أم مهدي بأن تنتقم لشرفها بقتل سي عمر, فظل متنقلا من مكان لآخر لا يغمض له جفن خوفا من انتقام سالمة المغدورة .
أحب مهدي سامية , و هي فتاة جميلة تدرس بالثانوية . أغواها لترافقه إلى الشاطيء للتنزه لكن هناك يتحول إلى شيطا ن في جسد ملائكي فيغتصبها .تبتعد سامية حيث ترحل إلى قسنطينة عند عمها, و تختفي عن الأنظار.و يبدأ مهدي في رحلة البحث عنها في شوارع قسنطينة . تعود به الذاكرة لأيام الطفولة و الشباب التي عاشها في تلك المدينة في زمن الاستعمار , تتراءى أمامه بشاعة العدو و المتآمرين معه من أبناء الوطن, الذين استغلوا الثورة لتحقيق أغراضهم الدنيئة .
أقيم لمهدي حفل اختتان وهو صغير, حضره حشد كبير من مختلف طبقات المجتمع .فختنه ختّان القرية الذي كان بالنسبة له سفاحا لأنه أهدر دمه غصبا ليزداد كرهه له .فقد كان مهدي و أطفال القرية يكرهون الختّان لأنه يعيش في جو عابق بالدماء , الأمر الذي يزرع الخوف و الفزع في نفوسهم .
يتهم بطل الرواية بالجنون بسبب أفكاره, و كتاباته المناهضة للإقطاع, و الإقطاعيين الذين كانوا سببا في بؤس الفلاحين و الفئات الضعيفة .
نادية ممرضة بمستشفى الأمراض العقلية , الذي أدخل إليه مهدي لمعالجته من نوبات الجنون التي كان يدعي بعض الإقطاعيين بأنها تجتاحه من حين لآخر . نادية العجوز المومس التي كانت تقدم لمهدي مختلف الإغراءات لمضاجعتها , لكنها سرعان ما تكشر عن أنيابها لممارسة سلطتها و جبروتها عليه و على رفقائه من المرضى , و إخضاعهم لأوامرها التي تصدرها كلما حاولوا ازعاجها .و كان الأعضاء السريين الذين رمز لهم الروائي بـ’ أ .ع .س ‘ لا يتوانون في زيارة مهدي ورفقائه المجانين بالمستشفى , ثم يحولونهم إلى دور التعذيب الموروثة عن الاستعمار الفرنسي بسبب عفويتهم و أفكارهم التلقائية الناقدة .
كان الأعضاء السريين موالين للسياسة الحاكمة , يمثلون طبقة الإقطاع يعملون على استغلال الشعب و سذاجته و جهله , يستعطفون الشعب باسم الدين , يقدمون الرشاوى للأئمة و رجال الدين لصرف الناس عن السياسة .
ظهر مشروع الثورة الزراعية الذي بادر إليه الرئيس بومدين لإخراج الريف و الطبقات الكادحة في المناطق النائية من الهامشية ,التي فرضها عليهم الانتهازيون الذين سعوا لتعميق الهوة بين فئات المجتمع الجزائري . ظهرت طبقتان اجتماعيتان متفاوتتان في المستوى المادي, وهما الطبقة الإقطاعية المسيطرة ,و طبقة كادحة يمثلها الفلاحون , وهي مهمشة لا حول لها و لاقوة , وكان لأنصار الثورة الزراعية أصواتهم المناهضة للإقطاع و عمالته’ أحنا جينا نطهروا لبلاد من المركانتية أمثال سي عمر ….’ الرواية ص 160.
إن الرموز تشكل شبكة من المعاني , و بوجدرة أراد لنصه الروائي الإقامة خلف المضمر,فجاء النص مغرقا بالرموز و الدلالات التي تعبر عن إيديولوجيا جسدت أفكار الروائي , وما كان نزوعه إلى الغموض إلا لتمرير رؤية نقدية شاء لها أن تكون بعيدة عن المباشرة و الوضوح .
فالدم الذي يستحضره بوجدرة في الرعن جاء مشحونا بدلالات مختلفة ,و الدم في الثقافة اليومية يحمل معان عدة ,كالطهر و النجاسة و الشرف و الغدر .يحضر في الرواية دم الختان الذي يفزع منه الأطفال , و يجعلهم يقيمون المكائد لختّان القرية لانهم يعتبرونهم عدوهم اللدود , و دم عذرية سامية المسفوح غدرا , و دم الثوار الذي سال على مذبح الحرية , ودم الديك الذي ادعت العرافة بأنه سيعيد لسالمة عقلها و صحتها .’ كان القوم كلهم متخوفين من تدفق الدماء التي سوف تلطخ الجدار … ألا يكفيهم دم الثوار الممزوج بمياه الشلالات و الوديان .. ألا يكفيهم كل هذه الدماء الطاهرة يوم كان العدو يلاحقنا فيتهمنا بأننا عصابة من المجرمين ليس إلا ؟’ الرواية ص 204 , أرض الشرفاء رويت بدماء الشرفاء لتطيهرها من غدر الخائنين .
سامية دلالة رمزية عن الجزائر التي دنّس اللصوص و الانتهازيون شرفها الذي دافع عنه الشرفاء , و نادية تلك العجوز المومس تمثل فرنسا . تظهر بقناع المحب لا تتوانى في عرض اغراءاتها و خدماتها لتصل لغايات تبتغيها ‘ نادية مركز المؤامرة و أساسها ‘ الرواية ص 316.
باسم العرف و العادات تقهر المرأة وتظلم وتسجن, و توصف بالعاهرة على مر السنين إذا أخطأت ,بينما يٌبرّأ الرجل من كل الأخطاء. سامية ابنة إقطاعي عُرف بظلمه و استبداده , سلب الفلاحين أراضيهم واستغلهم أسوأ استغلال .كانت فتاة فاتنة الجمال لما تمر بالشارع تتحرك نوازع الرجال الشيطانية وتستثار شبقيتهم , فيذهبون إلى مضايقتها . تضعها عائلتها تحت الحراسة داخل البيت و خارجها , ترافقها امرأة عجوز أينما ذهبت.
كان البيت بالنسبة لسامية مثل السجن , و حين تكون بالخارج تشعر بسجن أشد من سجن البيت . تجد نفسها في مجتمع محموم بالجسد , لا تُعامل فيه المرأة كإنسان له كيانه الخاص, بل ينظرإليها الرجل كجسد يلبي غرائزه الجنسية ليس إلا .مجتمع يتحدث عن الشرف , يلخصه الرجل في بكارة ابنته أو أخته و لا يعنيه إن لطّخ شرف الآخرين ..سلمت سامية نفسها لصديقها مهدي حتى تلطخ شرف والدها الإقطاعي الظالم , انتقاما لشرف المظلومين في وطنها و الأخذ لهم بالثأر من مجتمع ذكوري مريض بأهوائه , ومن أب يحافظ على شرف ابنته لكنه يغتصب أراضي الفلاحين ظلما ,ويسلبهم حقوقهم .
بوجدرة ذهب إلى الأماكن القصية في المجتمع الجزائري ليكشف للقاريء عن بعض التجاوزات السياسية و الاجتماعية التي حدثت في فترات حرجة من تاريخ الجزائر ,انطلاقا من مرحلة الثورة التحريرية وصولا إلى الثورة الزراعية . رشيد بوجدرة يكتب وسط هذا المحيط المبطن بسبيخ الصمت و العدم . إنه يفضل الكتابة في هوامش الدهر و الدمار
. رواية الرعن تميزت بالسرد الفوضوي و اللغة المضمرة للإفلات من قبضة المباشرة و الوضوح . نحج بوجدة في الكتابة عن المسكوت عنه في فترة من تاريخ الجزائر , و فضح مخططات الإقطاعيين الانتهازية ,والكشف عن صور الاغتصاب التي يمارسها الغالب على المغلوب. .