رواية “عريس الموت” قراءة في التخييل ودلالة المحكيات/عبدالعزيز زكار
7 أبريل 2023، 13:51 مساءً
عريس الموت المنجز الخامس للروائي والمناضل الحقوقي عبد الحميد البجوقي، منجزات تكتسي قوة رمزية باتجاه مقاومة شروط اليأس، وتسمح بصوغ اسئلة جذرية بحثا عن بدائل لمستقبل الأمل.
منجزات ضمن مشروع روائي تنويري تشي بصوغ جمالي لأزمة إنسانية لأفراد ومجتمعات تنشد الحياة في أي وطن تتوفر فيه شروط الأمان يجاور بذلك قيما تناهض العنصرية والحقد والاستلاب ومنطق الاستغلال والعنف ليعطي لمشروعه الروائي مشروعية كونية إنسانية مؤمنة بقيم التعدد والتنوع والتنوير.
رواية عريس الموت موضوع قراءتنا هي المنجز الخامس صادرة عن دار النشر فاصلة، تزينها لوحة لها رمزيتها للفنان عبد الواحد اشبون لمعالم ناطقة بالتاريخ لمدينة مرتيل، وتشتمل الرواية على ثماني وعشرين من المحكيات بطلها رمز أسطوري يسميه الاسبان اليخاندرو والمغاربة عبد الرحمن.
عريس الموت هي رواية الذاكرة، رواية تسائل التاريخ، رواية تهمس بأحداث تاريخية من التاريخ المنسي المشترك بين الضفتين، رواية الهجرة المعكوسة، رواية عجائبية في بنيتها.
رحلة عبد الحميد البجوقي في عريس الموت رحلة وعي بتجربة من تاريخ المغرب واسبانيا بنفَس روائي لا يخلو من حضور الذات والسياسة والتاريخ، هي نبرة إنسانية تنطلق من مرجعيات موضوعها الإنسان الممزق المليء بالرغبات والاحلام.
عريس الموت رحلة حياة ملتبسة لشخصيات انتهازية وأخرى مؤمنة بالتغيير وشخصيات تجهل مصيرها، أحلامها لحظية، هي تغطية لوضع سياسي للمنطقة الخليفية (شمال المغرب أثناء الحماية الاسبانية)في امتداد تاريخي تتحكم فيه السياسة الدولية تحت إشراف النظام الديكتاتوري الإسباني، هي بؤرة أحداث ترمي بظلالها على وضع متفجر متناقض أطرافه مجندين مغاربة (مرتزقة) بأحلام متنوعة (جهادية، ومادية) وثوار اسبانيين مضطهدين عبثت بهم الآلات الحربية لنظام ديكتاتوري فاشي غاشم.
وسط هذه الأحداث تنطلق ذات عبد الحميد السيرية بصوت سارد يظهر ويختفي، يظهر بمواقفه في شفرات تُضمر موقعه من الرواية.
في رواية عريس الموت يسائل عبد الحميد البجوقي تاريخا منسيا يُشيِّد مرجعيته من منطلقات تستند على اقتناع فكري وفني يمتلك من خلاله آليات كتابة روائية تحكمها مرجعية نصية مؤسَّسَة على مستندات خارج نصية تتيح مشروعية تفكيك علاماتها النصية تعريةً وكشفاً في أفق الاحتمال وإمكانيات التحقق من كل ما يتعلق بخارج النص، على اعتبار أن الكتابة الروائية تبني عالمها على فعل التخييل كتيمة دلالية وجمالية.
في عريس الموت يشكل الروائي مرجعياته من منطلقات معرفية وجمالية يُشَيِّدُ من خلالها بنية نصه الروائي بتشكيل واعي، مُرتكزه خطاب متزن تحكمه آليات تراعي خصائصه السردية والفنية بخطاطة، لا تخرج عن مشروع روائي تحضر فيه تيمة الهجرة والمنفى ضمن ترابط علائقي بين هوية النص ومنطلقات الروائي المرجعية وفق نمط تخييلي فني وجمالي.
هذه المنطلقات تضعنا أمام تساؤلات من مثل:
ما هي العناصر المُشَكِّلة لمرجعيات نص عريس الموت؟
ما هي آليات تسريد موضوع الرواية؟
وكيف تمت قراءة عبد الحميد البجوقي الروائي للتاريخ داخل محكيات تخييلية؟
لا جدال أن النص الأدبي هو نتاج فردي لمؤلف ما وهو صورة حقيقية لمبدعه وهذا الارتباط العضوي بين المؤلف والنص هو الذي يُشَرْعِنُ حرية انتاج مقاصده، وعبد الحميد البجوقي في مشروعه الروائي يمارس طقس الكتابة، مرجعيته الأساس في ذلك خلفية إنسانية كونية مقترنة بثنائية الحرية والالتزام.
في مشهد الأكل وقداس كارمن يقول في الصفحة 100:
“يمكنك السيد اليخاندرو أن تصلي صلاتك قبل الأكل، أنا لا يهمني ذلك، نحن جميعا عباد الله مهما اختلفنا في تسميته وفي طقوس العبادة … ذلك التطرف الذي لم تنجح منه ميليشيات الدفاع عن الجمهورية في محاربة الكنيسة وملاحقة الرهبان .. التطرف والغلو يا بني هو سبب مآسينا اليوم وقبل قرون”.
وتشييد مرجعية رواية عريس الموت مُنْبَنِية على تَعَقُّب تفاصيل دقيقة من تاريخ مسكوت عنه، كشف عبد الحميد المجهول فيه مانحا لنصه الروائي التميز والجدة والابتكار الخلاق، يحضر ذلك من خلال أحداث موثقة.. أصوات شخصياتها مؤثرة في طرفي صناع السياسة بالضفتين وامتداد الأحداث من خلالهما إلى وضع عام يصل من بؤرة الأحداث في المنطقة الخليفية إلى الجنوب ومن بؤرة احداث خارجية قادمة أحيانا من اسبانيا ممتدة إلى المغرب أو العكس.
وقد ركز في ذلك على مدخلين أساسيين:
المدخل الأول: يتعلق بطرائق السرد.
المدخل الثاني: يتعلق بشمولية التيمات.
فيما يخص المدخل الأول عمل على تضعيف الاصوات الساردة، و أجرأة المحكيات والاحداث مما ساعد على وضع المتلقي في قلب أحداث ماضوية تتيح إمكانيات التأويل والقراءة المُحَيَّنَة:
(الحرب الأهلية، المنطقة الخليفية، أصداء من نشاط الحركة الوطنية بشمال المغرب وارتباطها بالجنوب، الاحتلال الاسباني ونقل حربه الأهلية الى المغرب عن طريق التجنيد، تحركات هامشية مؤثرة مخابراتية، دونا اليهودية …)
مما ساعد على تحيين الأسئلة الممتدة إلى تاريخ لاهب منسي مُحَرَّف، مُحَقِّقاً للمُتلقي ذاك التفاعل بين عناصر مؤثرة في مصير أشخاص فاعلين ومنفعلين مع أحداث الرواية:
( عبد الرحمان / اليخاندرو، روصاريو، كارمن، عبد القادر، كريمو … )
وبَرِعَ البجوقي في صياغة اشكاليات لامست المكونات التاريخية لمغرب المنطقة الخليفية ورغبة الديكتاتورية الفرانكوية في الانفصال والاستفراد بهذا الجزء المهم في المغرب.
المدخل الثاني تؤشر الرواية من خلاله على البعد الشمولي لموضوعها، بدءاً من البنية السردية والقدرة الفائقة على خلق آليات واصلة بين محكيات النص وتيمات ذات أبعاد إنسانية وفكرية، مرتكزاتها واقع مغربي ممزق في ترابط مع أحداث خلق لها عبد الحميد ذلك الوثاق المؤثر من واقع حرب أهلية زُجَّ فيها بالمغاربة، مؤسسا في ذلك تراجيديا إنسانية لروايته، امتزج فيها الحياتي بالتاريخي بالاجتماعي في جغرافية تضيق وتمتد حسب الأحداث والمحكيات (مرتين، تطوان، طنجة، العرائش، كبدانة بالريف المغربي، مدريد العاصمة، باداخوس شرق إسبانيا…)
في هذا المدخل أماط عبدالحميد اللثام عن ملامح من تاريخ العلاقة بين المغرب وإسبانيا أسست لحقد دفين لم تمحه السنون، بل ظلت ظلاله تغطي تاريخهما الحديث، ملامح واقع مشترك غدَّاه عبد الحميد بتخييل ولغة نافذة متميزة بحس مرهف، وقدرة فائقة على نقل تحليله للوثيقة الشفاهية والمكتوبة، وملاحقته لمختلف المرجعيات التي لها علاقة بتاريخ واحداث ووقائع محكياته المؤسسة لرواية عريس الموت، محكيات تُبرز بوضوح الملامح الدقيقة للأماكن والناس وللأجواء المشحونة المرتبطة بها الهادئة منها والصاخبة والمتحكمة في بناء المشاهد لتكون بوصلة للتنوير ومسلكا لرؤية الأحداث رؤية متعددة الزوايا.
اعتمد عبد الحميد خطوطاً متوازية في متابعته للأحداث الروائية الموزعة بين مرتيل وتطوان ومدريد وطنجة والعرائش ووهران، وفي الشوارع والاحياء …على أن تلتقي الخطوط وتتقاطع في نقط معينة لفترات معينة، ثم تفترق من جديد لتلتقي مرة أخرى في بؤرة أساسية تشكل المقصد الرئيسي للروائي في ارتباط بالتفاصيل لتأخذ الأشياء حجمها الحقيقي وعلاقتها فيما بينها.
تترصف داخل الرواية روايات تكاد تأخذ كل منها حيزا مماثلا لغيرها لكن في ارتباط فيما بينها تضيء جوانب منها تكملها ثم تصب في موضوع الرواية الأساس لتكون الأجزاء المشكلة للرواية مستوية حين تجتمع .
لم يقصد عبد الحميد في عريس الموت أن يؤرخ رمزيا لنموذج مغرر به يتحول الى بطل اسطوري في وجهة خدمته للنظام الفاشي الاسباني أو وجهة خدمته للثوار الجمهوريين، أو وجهة نضاله الوطني، بل أنه أسس لهذا الرمز في علاقته بكل ما من حوله بحيث أن صورة عبد الرحمن لم تتضح لولا هذا العدد الكثير من الأشخاص “روصاريو، كريمو، لوكاس، خافيير، كارمن، عبد القادر، دونا، عشوشة، وشخصيات مؤثثة لفضاء الأحداث الخليفية، رئيس الديوان الخليفي بلبشير، اخ الخليفة محمد، المقيم العام الاسباني، المارشال امزيان، زعيم حزب الإصلاح الوطني عبد الخالق الطريس، احمد ممثل الزاوية القادرية …
فعبد الرحمان هو السارد بصوت احمد يدخل إلى القصر الخليفي يسمع ويرى الكثير ويتيح للمتلقي مجالا للرؤية ويخترق الاحياء ويعيش أجواء الحانات وساحات القتال ويشارك فاعلا ومنفعلا في كل الاحداث، مما أتاح لنا أن نعيش أحداثا بلغة الوثيقة التاريخية ثم ينقلنا إلى بيئته كبدانة وصداقته وأحلامه وعشقه فيبدو لنا في وجوده وغيابه بطلا اسطوريا ومرجعية مغيبة من التاريخ الرسمي.
في عريس الموت يظل عنصر التخييل مؤسسا لمباعدة بين عالم نصي وخارج نصي، مبتعدا عن لغة التصريح والتقرير التي هي عناصر اشتغال المؤرخ. بنى عبد الحميد روايته على بعد تخييلي متصل بعوالم إنسانية يحضر فيها التلميح بقوة جاعلا المتخيل قائما على تشابهات من داخل أحداث تاريخية غير رسمية برؤية جمالية بعيدة عن التوثيق التاريخي المحض.
عريس الموت هي محكيات تتضمن منطلقات ومواقف مُؤَسَّسة عن اقتناع وبحث وتعرية لحقائق، هي اختيارات تؤسس لمشروع انساني يقرأ بعمق ذلك الجرح الغائر بين الشعبين الإسباني والمغربي الذي اذكاه تاريخ سياسي مزيف.
التخييل في رواية عريس الموت مؤطر بعناصر نصية فنية ساهمت في بناء روائي تراجيدي بمرجعية التحقيق التاريخي غير الرسمي بخلفية جمالية وبلغة ملائمة.
وقد سعى عبد الحميد البجوقي في روايته تجلية العلاقة بين الرواية والكتابة التاريخية قارئا للعلاقة الملتبسة بين إسبانيا والمغرب والتي تمتد جذورها للفترة الاستعمارية وتأثر تلك العلاقة بزج المغاربة في حرب أهلية ولدت حقد الشعب الاسباني على المغاربة، الحقد الذي يمتد إلى عصرنا الحالي بنسب متفاوتة، وظف لذلك عبد الحميد مجموعة رؤى بلسان شخصياته آخذا من اللغة والشكل آليات لتحريك وتغيير المقاييس الجمالية، يبني من خلال ذلك استراتيجية في اتخاذ مواقف من الحرب الأهلية ومن الحركة الوطنية بالشمال ومن مهندسي سياسة المنطقة الخليفية في شمال المغرب ومن شخصيات عادية من مجتمعه ومن اسبانيا عن طريق تأويل القيم من زاوية تزاوج بين توضيع الذات وتذويت عوالم الصراع داخل الرواية، الصراع المتمثل في المجتمعين الاسباني والمغربي وهو بذلك حقق استقلالية للنص الروائي وتذويت الكتابة بإسماع صوت التاريخ الحقيقي المؤصل لأزمة الثقة بين الشعب المغربي المتهم بالهمجية والوحشية في الحرب الأهلية الإسبانية من طرف الاسبان والشعب المغربي الذي يقيم علاقته بالإسبان بالنزعات العنصرية القائمة على عقلية تمتد إلى محاكم التفتيش حتى الدمار الاستعماري واستغلال المغاربة في حرب أهلية لا علاقة لهم بها.
في عريس الموت يمكن التركيز على تذويت الكتابة على اعتبار عبد الحميد البجوقي في هذا النص النموذج يشير إلى صون الإنسان المغربي الذي ظل غائبا عن أحداث مؤثرة في تاريخه المنسي مما ساهم في تحقيق منجزات نصية داخل روايته تنضح بالمواقف وتعري الحقائق، مواقف تحتفل بالكتابة وتشتمل على مقومات جمالية ودلالية ترتقي إلى مستويات مجددة من الإبداع الروائي.