نتناول في هذه الدراسة رواية (أبجدية الموت حبا) للروائي العراقي جاسم الرصيف. تبدأ عتبة النص الأولى بعنوان متعدد المستويات، ففي مستوى التواصل نحن إزاء مرسلة يمكن تفكيكها ليصبح تركيبها هو: كيف تتعلم الموت حبا؟ ومن هنا يبدأ البحث عن باث الرسالة المفترض وعن متلقيها المقصود.
وحين يكون العنوان وظيفيا بهذه الصورة فإنه ينطوي على سر النص ومفتاحه أو على وجهته ومقصده، وهو بالفعل ما يحدث لرواية “أبجدية الموت حبا” التي تصلح أن تكون وثيقة تؤرخ لفصول من الفداء والوفاء للوطن.
لكن ألا يكون العنوان قد جمع ما لا يجمع من خلال تنميته لصورة متضادة الأطراف بأن ألحق الحب بالموت وجعل لهذا الموت سبيلا يتعلم ويتدرج في تحصيل فقهه ودروسه؟ لو كان العنوان: أبجدية الحب حتى الموت، أو أبجدية حب الموت أكان ذلك يلحق بعتبات النص أضرارا تؤثر على مسارات السرد وبرامج شخوصه ومصائرهم؟ ههنا إذا تتطلب القراءة وقفة للتحليل الدلالي والتأويل، لأن العنوان في الرواية المعاصرة لم يعد قبعة إضافية ولا زينة ملحقة بجسم مكتمل قد يستغني عن الزوائد بل إنه يمثل جزءا حيويا من النص إلى درجة تمثيل صلب الدلالة وكأنه دال ومدلوله باقي النص أو بالعكس مدلول يفسر دال النص كله، فإلى أي حد نجد عنوان متننا المدروس قد اجتمعت أوصاله بنصه وفي أي صورة أظهر هذا التواشج والتلاقي؟
شظايا المقومات وكيمياء التركيب
يتضمن العنوان إذا ثلاث وحدات معجمية: أبجدية، الموت، حبا: حين نحلل كلا منها نجد مايلي:
– أبجدية: تطلق على مجموعة الحروف العربية، وهي تتضمن معاني التعليم والبدايات والاستهلال والتدرج والمعلومات الضرورية… إلخ
– الحب: عاطفة إيجابية بالميل نحو الخالق أو الإنسان أو الأشياء أو القيم… إلخ
فما النواة الدلالية المنمّاة من خلال هذا المثلث المعجمي ذي الأضلاع المتضادة؟ ما الذي جمع مفردة تنطوي على التعليم والاستهلال والاتجاه المتنامي وهي الأبجدية مع مفردة تنطوي على الانتهاء والتفرق والوحشة ألا وهي الموت مع ثالثة هي عاطفة تتضمن الميل والاتصال والأنس والاجتماع والخصب والإثمار؟
إن سياق التركيب يفعل فعله ويعتصر من افتراضات المعجم رحيقا مضافا ودلالة مولدة ويستثمر من مؤجلات المعاني ومعلقاتها ما يمكن أن يند عن العقل المحصي والنظر المدقق. فما الذي حينه النص السردي وجهز به أجواء التأليف ومجاريه حتى التأمت هذه المتنازعات؟
لننظر ما الذي يتولد عن ضم الأبجدية إلى الموت: ليس غريبا ولا بعيدا كون الموت حالة تثير رعب السامع وكل حي، كيف لا وظلالها كافية لتنهي إلى متلقيها حالة حبس الزمن عن الجريان وتوقف كل المرادات والنوايا، أما وأن المفردة تنضم إلى الأبجدية فإنها تنصبغ ببعض مقوماتها، فيصبح للموت قواعد تتعلم وحروفا وأصواتا تتلقى وتحفظ وتؤدى وفق تلك القواعد ليحكم لمستعملها بالصواب أو الحيدة.
هو إذا موت غير الموت، ونهاية غير النهاية بل لنقل هو موت لتبدأ الحياة، الحياة الحقيقية، ونهاية غير النهاية الجسدية المعلومة المكرورة، بل هي نهاية لحياة حقها النهاية لتبدأ حياة أخرى حقها أن تبدأ على أنقاض الأولى، ولذلك سرعان ما نجد هذا المنحى يتأكد حين ينضاف المركب إلى ما يميزه ويوضحه وهو “حبا”. نعم هنا نجد المقومات تتضام بصورة أجود وتسوغ هذا اللقاء الصعب والمجاورة المستغربة للوهلة الأولى، فإذا بنا نتفهم كل الفهم ونتشرب بملء الفم والوجدان أن “للموت حبا” طريق على سالكيه معرفة مسالكه ومساربه، لأنه موت يولد الحياة ونهاية تؤسس لبداية وفناء ينتفض من رفاته البقاء، وموت بهذا الخطر يتطلب بالفعل معرفة فنه وسبله، إنه فن الموت لصناعة الحياة وهنا تتضافر بكل سلاسة مقومات: التعلم / الفناء / الإثمار، لأنها مقومات ضرورية لفرد واحد في هذا الوجود والكون الذي شيده نص الرواية إنه: المقاوم.
النص يستكمل عتبات عنوانه
لا نستعجل النص كي يعطينا ثماره قبل أن نبذل في سبيل القطاف ما يطلبه الثمر الطيب، لأن السؤال الذي نحن في مواجهته الآن هو: نتعلم الموت حبا في سبيل ماذا؟ وهنا بالضبط تلوح لنا الإجابة عن العلاقة العضوية والوظيفية بين العنوان كعتبة للنص ومتن النص كامتداد ما لعتباته، فها هو العنوان في صياغته اللغوية غير مكتمل فـ (أبجدية الموت حبا) تركيب لا يفي بالمطلوب ولا يحسن السكوت عليه كما يقول النحاة حتى يوردنا مقصده وفائدته، ولم نر من المتلفظين بالحب مفصولا عن لواحقه إلا ما تجيزه أعراف العشاق والشعراء، لأن ذكر الحب مع متعلقه هو من الحشو عندهم وتحصيل الحاصل أن تضاف للحب إضافة لأنه أصبح من كثرة استعماله دالا على مضافه عرفا وتداولا وسابقة، أما هنا في مسار السرد فلن نعمم القاعدة ولن نجري عرف العشاق والشعراء فيه، حتى وإن وجدنا في متن النص السردي هذا أجواء العشق غامرة وسوقه عامرة. وليس هذا التأبي والامتناع إلا لأن التركيب جعل من الحب تمييزا للموت الذي كما رأينا ينمي تيمة الفناء والفراق، فالعتبات إذا تدفعنا راغمين نحو استنطاق النص بل نحو استثماره لاستكمال تركيب العتبات ونفهم المسار الذي تدفع باتجاهه هذه المقومات المسرودة في حديد العنوان وقالبه.
المسارات المتضادة وتوليد الكفاءة
في النص مساران سرديان، مسار الذاكرة ومسار الحاضر، مساران بسيطان من حيث الكثافة السردية، فليس فيه عوالم متداخلة رغم تباعد المسارين زمنيا، فهناك مسار للسارد بضمير “أنا” وهو صوت الحاضر، أو هو صوت المأساة في وجهها الحاضر، ومسار للسارد الثاني بضمير “هي” ولكنه يسرد بضمير “أنا” أيضا فالسارد واحد ولكن بضمير “أنا” الرجل في الحاضر و”أنا” المرأة في الماضي وإن انزلق السارد الحقيقي وأسماها “هي” ليكشف لنا ربما من غير أن يقصد أنه لا سارد إلا واحدا في الحالين، ورغم ذلك فصورة السرد المزدوج قد تحققت وفتحت لنا منفذا للتساؤل عن سر التاريخ المؤنث والذاكرة اللطيفة وعن سر الحاضر المذكر والآن الخشن؟
تأنيث الذاكرة
ألا يؤدي تأنيث الذاكرة إلى تعقيم المخصب كما يؤدي تذكير الحاضر إلى نضوب المستقبل؟ لو كان صوت الأنثى للحاضر وصوت المذكر للماضي ألم يكن ذلك متماشيا مع موت مولد للحياة وفناء ينبثق عنه البدء والولادة؟
لنغلق هذا المنفذ الآن لندلف إلى المسارين ونحاول أن نربط البدايات بالنهايات والمآلات ونصل إلى استكمال تركيب العتبات.
المسار الأول يقوده السارد البطل بصوت “أنا”، صورة شاب وصف نفسه بضعف الذاكرة التي كانت سبب فشله الدراسي، وحين نقول الذاكرة نقول الفشل في التعلم، لأن لكل معرفة أبجديات تحفظ وتلقن، لكن صاحبنا يعزو فشله السابق بهذه الذاكرة العليلة ويربط بها فشلا متوقعا على صعيد العسكرية أيضا.
من المنظور السيميائي يسمى مثل هذا النقص خللا في الكفاءة اللازمة للقيام بالبرنامج المؤدي إلى الاتصال بالموضوع المرغوب. نعم هذا بالفعل ما وصل إليه السارد نفسه، فهو يتوقع الفشل في المهام التي تنتظره بناء على نقص القدرة على تذكر القوانين وطرق استعمال السلاح… إلخ.
في مقابل هذا المسار المليء بالتوقعات السلبية لدينا مسار آخر يتموقع زمنيا في الماضي ولكنه مرتبط فضائيا بالمسار الأول لأنه يتناول الحيز ذاته أي شبه جزيرة الفاو التي كانت مسرحا لمعارك طاحنة بين العراق وإيران، إذا فالمبرر الذي يجمع المسارين واضح على الأقل في تيمة الحرب التي يواجهها الساردان وكذا فضاء إنجاز مهمتيهما. لكن المسارين متمايزان إلى حد التضاد، وسنرى قيمة التضاد في توليد المعنى وحتى توليد المسارات السردية في النظرية السيميائية التي تشكل بقدر ما خلفية هذا التحليل.
يتمايز مسار “هي” بأنه مسار الرغبة ومسار “أنا” هو مسار الجبر، وهذا مهم جدا في تشكيل كفاءة من يتصدى لإنجاز المهمة، فقد وجدنا السارد يتوقع الفشل في مهمته، فقد دفع إليها دفعا ثم هو منقوص من آلة التحصيل والتعلم، أما “هي” فتحركها رغبة متوارثة منذ عشرات السنين في المسير إلى جبهات القتال كلما تحركت أوصال العراق بالشكوى من معتد أو غاز، ثم هي تتنازع الخروج إلى الجبهة مع والدها في رغبة جامحة إلى السبق بالفداء، بينما نجد مسار “أنا” يظهر الخروج إلى العسكرية ومن ثم إلى الجبهة باعتباره خبرا مفزعا ينتظره الكل كأمر لا مفر منه ومن ثم يوصي الأب ابنه بالصبر والرجولة مظنة أن تظهر على الفتى آثار التردد.
ومع أن الوالد ذو خلفية عسكرية فإن هذا الأمر لم يصب في تكوين كفاءة السارد، بل وسعت من نطاق التناقض بين الواقع والمطلوب، خلاصة الأمر أن مسارين متضادين لبرنامج واحد يشق أحدهما طريقه بين فجاج الذاكرة والتاريخ والثاني يتلوى بصعوبة بين مسامات الحاضر. لكن لنؤكد أن البرنامج هو نفسه: برنامج القتال أو التحرير أو رد المعتدي، ثم تأتي مرحلة الإنجاز الفعلي والقيام بالمهمة، وعلى التوازي بين المسارين ينتقل “أنا” في لحظة مفاجئة غير منتظرة إلى الجبهة، كما انتقلت على المسار الآخر “هي” إلى الجبهة ولكن عن وعي وإصرار وترصد للعدو وتحين لكل ما يترتب على الأمر من تكاليف وأثمان.
الإنجاز وأبجدية الفداء
وفي الجبهة يجري ما لم يكن في الحسبان، فعلى مسار “أنا” يتم استدراك ما كان ينقص الكفاءة من مواصفات، يستوعب السارد البطل أبجدية الموت في الميدان وهو يرى رجال المقاومة يتساقطون والراية تنتقل من ساعد إلى ساعد ولعلعة الرصاص فوق الرؤوس لا تزيدهم إلا إصرارا على بلوغ حدود الجبهة وإرغام العدو على التراجع إلى حيث بدأ عدوانه.
يتعلم أبجدية إطلاق الرصاص واستعمال السلاح والصبر على السير في الأوحال وتحت ضرب المدافع، ولنقل إن استكمال الكفاءة جاء في أسرع وقت لأن الدوافع والحوافز كانت من الحدة وشدة التوتر ما جعل حساب الزمن غير ذي معنى، ولنربط كل هذا بالمسار الآخر مسار “هي” التي تقف على الجبهة ذاتها في عدوان مماثل وكأن صوت التاريخ وصورته اللذان تجسدا في “هي” لتشكيل الدرس الذي تم استيعابه على الأرض، درس التاريخ ودرس الذاكرة، درسها “هي” لأنها هي: الأرض.
هكذا إذا، الأرض وحدها حركت الذاكرة لتتعلم الدرس، وحركت التاريخ حتى لا تتكرر إلا المسارات المقاومة. وهنا نفهم إبداع التوليفة بين المسارين ولماذا سارا متضادين، بكل بساطة لأن في التضاد يكمن الغرض السردي ذاته، لأن مسار “أنا” يتعلم من مسار “هي”، أي إن مسار الفداء يأخذ من مسار الأرض، فيتولد عنهما المقاوم الكفء القادر على دفع المعتدين.
بقي الآن استكمال عتبات العنوان: فقد رأينا برنامج المقاومة يصل مقاصده، وتولد من درس التاريخ استحياء الهمة والروح، فانقلب الموات حيوية وحماسة واندفاعا، واستدرك تعلم أبجدية القتال الذي كان محل المساءلة والاستنكاف إلى وسيلة الأمن والحياة، لقد فهم الفتى أن في الموت سر الحياة وفي القتال سر الأمن والبقاء فلا مندوحة من مجابهة الظالم إذا أراد المسالم أن يعيش في أمان.
إنها أبجدية الموت حبا للأرض…
كيف تم تعلم كل ذلك؟
لقد تم ذلك بفضل ذاكرة الأرض والوطن، نعم الأرض استنهضت في أهلها نخوتهم وعلمتهم كيف يموتون لتحيا أجيال، والتاريخ مليء بالنماذج وهنا بالضبط يقع معنى توالد الحياة من الموت والبقاء من الفناء ونفهم ألا سبيل إلى تلك العتبات فيكون للموت حبا أبجدية لا تتعلم إلا بأن يكون الحب للأرض.